في أواخر عام 1915م قدّم العالم الألماني ألبرت آينشتاين نظريته النسبية العامة General Relativity التي عرض فيها تصورا مبتكرا لمفهوم الجاذبية يختلف عن تصور نيوتن. فنيوتن يرى أن الجاذبية قوة مؤثرة لحظية بين الكتل وأن هذه الكتل لا أثر لها على الزمان والمكان اللذين تتواجد فيهما، في حين يرى آينشتاين أن الزمان والمكان متشابكان في نسيج ذي أربعة أبعاد سُمي الزمكان space-time والكتل فيه تحني هذا النسيج كما لو أن شخصا ثقيلا جلس على منتصف نطاطة، والجاذبية ما هي إلا حركة الكتلة تبعا لخطوط انحناء الزمكان.
يلخصها عالم الفيزياء جون ويلر في قوله: " تُخبر المادة الزمكان كيف ينحني، ويُخبر الزمكان المنحني المادة كيف تتحرك". وهكذا أصبحت الجاذبية لدى آينشتاين مجرد هندسة لنسيج الزمكان حول الكتل وليس قوة كما يقول نيوتن.
دعوة للاختبار
إن آينشتاين لم يتوصل إلى هذا الاكتشاف دفعة واحدة، بل مر بمراحل متعددة، ابتداها بمبدأ التكافؤ الذي فكر به عام 1907م والذي يجعل من كتلة القصور الذاتي وكتلة الجاذبية شيئاً واحداً. ومن نتائج هذا المبدأ أن الجاذبية تحني الضوء كما أشار إلى ذلك في بحث نشره عام 1911م في مجلة Annalen der physik بعنوان (تأثير الجاذبية على انتشار الضوء) حيث توصل فيه إلى أن إشعاع الضوء الذي يمر أمام الشمس سوف يعاني انحرافا قدره 0,83 ثانية قوسية (الثانية القوسية هي زاوية تقدر بـ1/3600 من الدرجة)!
ودعا فيه لاختبار هذه الفرضية من خلال كسوف كلي للشمس، وكان يأمل أن يتم إرسال بعثة علمية إلى سيبيريا خلال الكسوف الشمسي الذي كان منتظر حدوثه – آنذاك- في 21 أغسطس عام 1914م لدراسة انحناء ضوء النجوم الذي سيحدث بفعل الشمس. أبدى الفلكي إرفين فنلاي فريندليخ من جامعة برلين استعداده للقيام بهذه المهمة، وكان آينشتاين واثقا من صحة عمله حتى أنه في البداية عرض تمويل البعثة على نفقته الخاصة، إلا أن مؤسسة كروب krupp foundation تكفلت بالتمويل.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقبل موعد الكسوف بعشرين يوماً اشتعلت الحرب العالمية الأولى وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا – آنذاك – في تلك الأثناء كانت البعثة العلمية الألمانية قد غادرت ألمانيا يوم 19 يوليو في طريقها إلى سيبيريا ليقعوا أسرى في يد الروس وتتم مصادرة أجهزتهم. ويبدو أن هذا الأمر من حسن حظ عالمنا الكبير ألبرت آينشتاين لأن حساباته آنذاك كانت خاطئة!
فقد طور آينشتاين أفكاره بعد ذلك خلال السنة التالية بمساعدة صديقه الرياضي مارسيل جروسمان، وفي نفس الوقت كان في سباق محموم مع عالم الرياضيات الألماني ديفيد هيلبرت – المطلع على كل حيثيات أعمال آينشتاين- للوصول للمعادلات الصحيحة التي تقدم بها آينشتاين في 25 نوفمبر عام 1915م، وفيها أن إشعاع الضوء الذي يمر أمام الشمس سوف يعاني انحرافا قدره 1,7 ثانية قوسية. القيمة الجديدة تحتاج لكسوف شمسي قادم لاختبارها، وهذا ما تم في 29 مايو 1919م على يد العالم البريطاني آرثر أدنجتون.
بعثة أدنجتون
كان العالم الكبير آرثر أدنجتون مديراً لمرصد كامبريدج في عام 1916م حين تلقى من عالم الفلك الهولندي فيليم دي سيتر نسخة من أعمال آينشتاين في النسبية العامة، فتحمس أدنجتون للنظرية وكتب مقالاً للترويج لها في إنجلترا المعادية لألمانيا بسبب الحرب آنذاك، وعرض على كبير علماء الفلك الإنجليز السير فرانك دايسون أن يقود حملة علمية لاختبار النسبية العامة في الكسوف القادم بجنوب أفريقيا عام 1919م.
الواقع أن الأمر كان حل لأمر عقدي لدى أدنجتون نفسه الذي ينتمي لطائفة الأصدقاء المسيحيين الرافضين لإراقة الدماء (الكويكرز) وبالتالي يتهرب من الجندية التي كانت مفروضة عليه حتى عام 1918م! لحسن الحظ فقد انتهت الحرب قبل موعد الكسوف (انتهت عام 1918م)، وأبحر العالم أدنجتون مع بعثته العلمية من ليفربول في مارس 1919م، وكان فريقه مكون من مجموعتين إحداهما ذهبت إلى مدينة سوبرال شمال البرازيل ونصبت كاميراتها هناك، أما المجموعة الثانية بقيادة أدنجتون فتوجهت إلى جزيرة برنسيبية في خليج غينينا في الساحل الغربي لأفريقيا ونصبوا معداتهم هناك.
كان الوقت الكلي للكسوف هو خمس دقائق فقط!
كانت خمس دقائق حاسمة في تاريخ العلم، بعدد 16 صورة تم التقاطها للكسوف عادت البعثة إلى إنجلترا ليبدأ تحليل الصور الذي استغرق حتى سبتمبر من نفس العام. طيلة الفترة كان يدور صراع بين نظرية نيوتن الإنجليزية التي تتنبأ بانحراف قدره 0,85 ثانية قوسية (نفس الرقم الخاطئ الذي قدمه آينشتاين عام 1911م) وبين نظرية آينشتاين الألمانية التي تتنبأ بانحراف قدره 1,7 ثانية قوسية.
وقد أظهرت النتائج لمجموعة جنوب افريقيا صورة بانحراف مقداره 1,61 ثانية قوسية، في حين قدمت مجموعة البرازيل صورا إحداها بانحراف قدره 1,98 ثانية قوسية وأخرى بانحراف قدره 0,86 ثانية قوسية، لكن أدنجتون رفض هذه النتيجة الأخيرة متعللا أن المعدات كان بها عيوب، وانحاز للرقم الذي قدمته مجموعته لأنها أقرب للصواب – مع هامش الخطأ- من نتيجة آينشتاين المذهلة التي قدمت تنبؤا بانحراف مقداره 1,7 ثانية قوسية، وكذلك لأن متوسط النتيجتين الأوليتين تعطي نفس نتيجة آينشتاين في إطار الخطأ التجريبي. ومن طرائف الأمر أن إعلان النتائج كان في الجمعية الفلكية الملكية البريطانية بعد ظهر يوم 6 نوفمبر 1919م وكانت صورة زيتية مهيبة للعالم الكبير إسحق نيوتن في واجهة القاعة ترمق الجميع!
صدى الإنجاز
بعد إعلان نتائج بعثة أدنجتون بصحة تنبؤات آينشتاين في نظريته النسبية العامة نشرت الصحف العالمية عن ذلك عناوين برّاقة في صدر صفحاتها الأولى. فصحيفة التايمز الإنجليزية كتبت عنوانا من عدة أسطر:
نظرية علمية
نظرية جديدة عن الكون
سقوط أفكار نيوتن
كشف عظيم
الفضاء منحني
في حين كتبت صحيفة النيويورك تايمز هذا العنوان:
- الأضواء كلها منحرفة في السماوات
- رجال العلم تقريبا متلهفون لنتائج مشاهدات الكسوف
- نظرية آينشتاين تنتصر
وأرسل أدنجتون برقية إلى آينشتاين يقول فيها:
" إن كل منْ في إنجلترا يتحدث عن نظريتك …وهو الأمر الذي يعزز العلاقات العلمية بين إنجلترا وألمانيا".
أما نحن فنقول:
عفوا عزيزي أدنجتون ليست إنجلترا وحدها منْ تتحدث عن نظرية آينشتاين، بل كل عصور العلوم الحاضرة والقادمة!
المراجع:
- والتر إيزاكسون، أينشتاين حياته وعالمه، ترجمة: هاشم أحمد، ط1(القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2010).
- ميشيو كاكو، كون أينشتاين، ترجمة: شهاب ياسين، ط2(القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2011).
- ألان ليتمان، "النسبية والكون"، ترجمة: عبدالحفيظ العمري، مصدر المقال: موقع نوفا http://www.pbs.org بتاريخ يونيو 2005م
- عبدالحفيظ العمري. "اختبار كون أينشتاين"، الملحق العلمي لمجلة العربي، العدد 611، (الكويت: أكتوبر 2009).
- عبدالحفيظ العمري. الزمن من العصور القديمة حتى أينشتاين (القاهرة: منشورات حروف منثورة للنشر الإلكتروني، يناير 2015) (نسخة إلكترونية).
البريد الالكتروني للكاتب: abdualamri.75@gmail.com