تعد غابات أشجار القرم التي تنتشر في بيئات المناطق الساحلية بمثابة نظم بيئية نادرة ومدهشة وغزيرة على الحدود بين البر والبحر. وأشجار القرم كما تسمى في شبه الجزيرة العربية أو الشورى كما يطلق عليها في مصر والسودان وتسمى بالإنجليزية Mangrove، هي أشجار تعيش في البيئات الساحلية البحرية وهي بذلك تدعم التنوع البيولوجي الغني وتوفر موطن حضانة قيمة للأسماك والقشريات.
وتعمل أشجار القرم أيضًا كشكل من أشكال الدفاع الساحلي الطبيعي ضد العواصف وموجات التسونامي وارتفاع منسوب مياه البحر والتآكل، هذا بالإضافة إلى قدرتها الفائقة على امتصاص الكربون وعزل كميات هائلة منه في مياه المناطق الساحلية، وذلك يعمل على التخفيف من تركيز الكربون في الغلاف الجوي وأداة فاعلة في معركة مواجهة أزمة التغير المناخي. وعلى الرغم من هذه الأهمية البيئية لغابات القرم، إلا إن الدراسات والمسوحات بينت أنها تختفي بمعدل يتراوح بين ثلاث أو خمس مرات أسرع من إجمالي خسائر الغابات في العالم مما يتسبب بآثار بيئية واجتماعية واقتصادية خطيرة. وتشير التقديرات الحالية إلى أن تغطية أشجار القرم قد انخفضت إلى النصف خلال السنوات الأربعين الماضية.
أحواض الكربون الطبيعية في المناطق الساحلية
مع تزايد التحذيرات من الآثار الكارثية للاحتباس الحراري على كوكب الأرض، يسعى الباحثون لإيجاد طرق مبتكرة للحد من مخاطره، وتقول الدراسات والأبحاث البيئية أن أحواض الكربون الطبيعية هي من أفضل الطرق للحد من مخاطر تغير المناخ وأقلها كلفة في الوقت ذاته.
في الغابات والأراضي الرطبة توجد أحواض الكربون الطبيعية التي تلتقط وتخزن كميات كبيرة من الكربون وتبعده عن الغلاف الجوي، وقد تم تضمين هذه النظم الإيكولوجية في استراتيجيات التكيف والتخفيف من أزمة الاحتباس الحراري في اتفاق باريس للمناخ سنة 2015. كما أن المحيطات تعد من ضمن أحواض الكربون الطبيعية الضخمة التي يمكن أن تساهم بشكل كبير في الحد من تلك المشكلة، إذ أن حماية الحياة البحرية يمكنه أن ينقذ الكوكب من كارثة الاحتباس الحراري التي بدأت آثارها في الظهور بالفعل.
وتعد تربة غابات القرم بمثابة مصارف للكربون فعّالة للغاية، وبذلك تشكل غابات القرم أهم مرتكز لبيئات أحواض الكربون الطبيعية في المناطق الساحلية. إن تحديد أحواض الكربون الطبيعية وفهم كيفية عملها أمر بالغ الأهمية للتخفيف من آثار التغير المناخي العالمي المؤدية إلى نتائج كارثية. وبالرغم من ذلك فلا توجد حتى الآن بيانات كافية حولها، ولهذا تبذل الهيئات والمؤسسات العلمية الدولية جهودها في إجراء الدراسات وتبني المشاريع والمبادرات لدراسة بيئات المناطق الساحلية وخاصة الأراضي الرطبة وغابات القرم والحفاظ عليها.
أحواض الكربون في بحيرة غابات القرم في جاوة
ومن تلك الدراسات التي تبحث في استعادة دور النظم الإيكولوجية لغابات القرم والحفاظ عليها، دراسة قادتها جامعة غوتنغن مع مركز لايبنز للبحوث البحرية الاستوائية في بريمن، وجامعة بريمن، وهي الدراسة التي نشرت في دورية بيولوجيا التغيير العالمي في العاشر من ديسمبر 2019.
لقد أجرى الباحثون الدراسة في بحيرة سيجارا أناكان المليئة بأشجار القرم في جزيرة جاوة الأندونيسية، وتُعرف هذه البحيرة الساحلية بأنها واحدة من أكثر أحواض الكربون فعالية بين النظم الإيكولوجية للقرم في جميع أنحاء العالم، حيث قام الباحثون بتحليل عينة طولية عمقها خمسة أمتار من الرواسب لدراسة تكوينها الزمني والتركيب الجيوكيميائي الحيوي، بالإضافة إلى العناصر وحبوب اللقاح والجراثيم. وتركز البحث في أربع فترات زمنية مختلفة عبر 400 عام حدثت خلالها تغيرات في المناخ، ودمجوا بيانات تأثيرات التغيرات البيئية والمجتمعية والبرية والساحلية.
وقد أظهرت النتائج أن الديناميات البيئية في البحيرة وتراكم الكربون كان يتم التحكم فيها بشكل رئيسي من خلال التقلبات في المناخ والنشاط البشري. ووجد الباحثون أن تفاعل هذين العاملين يؤثر على رواسب البحيرة وملوحتها، والتي تودي إلى تغيير تركيبة المادة العضوية (التي تحتوي على الكربون)، وطريقة ترسبها في البحيرة. ووجدوا أيضًا أن الطقس كان المحرك الرئيسي في غسل مركبات الكربون، في شكل مواد عضوية، ونقلها إلى البحيرة من المناطق النائية البعيدة عن الساحل والتي كانت في الماضي تتكون من غابات طبيعية مختلطة، ولكن معظمها اليوم أرض زراعية.
أهمية الحفاظ على أشجار القرم
إن البحيرات الساحلية مهددة، وبشكل خاص، بسبب تدمير أشجار القرم نتيجة الأنشطة البشرية وتأثيرات التغير البيئي العالمي، مثل ارتفاع منسوب مياه البحر والذي يؤدي بدوره إلى تآكل السواحل والفيضانات الشديدة وفقدان الموائل. وبالتالي فهناك حاجة لإعطاء الأولوية للنظم الإيكولوجية للقرم للحفاظ عليها واستعادتها لأن أشجار القرم تمتص الكربون بكفاءة وتحافظ على النظام البيئي والحيوي للأرض مما ينعكس على حياة ورفاهية الإنسان على هذه الأرض.
المراجع
البريد الإلكتروني للكاتب: abualihakim@gmail.com