مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الوباء وكتابة (أو طمس) التاريخ

الكاتب

الكاتب : د/ أحمد بن حامد الغامدي

جامعة الملك سعود - المملكة العربية السعودية

الوقت

10:08 صباحًا

تاريخ النشر

03, فبراير 2020

في البدء لا اعتراض على صحة المقولة الشائعة (أن التاريخ يكتبه المنتصر)، ولكن التدقيق المطروح هو عن طبيعة (المنتصر) الذي يصنع ويشكل التاريخ. فهذا المنتصر لا يشترط دائما أن يكون جيشاً جراراً أو شخصاً عظيماً مختاراً، وإنما قد يكون ميكروب ضئيل لا ترصده الأبصار.

التاريخ البشري في القديم والحديث هشّ وقابل للكسر والانحناء نتيجة تأثير عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى. في التاريخ الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية وأسقط إمبراطوريات عتيقة وأقام ممالك جديدة. بل الأعجب من ذلك، كم (محنة) أمراض معدية شنيعة أثمرت (منحة) عظيمة وخير كثير في تطوير مهنة الطب مثلاً، أو تغيير أساليب التجارة أو حتى التأثير على جودة الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية.

يقال إن من يسيطر على مصر والشام فهو بالفعل يتحكم في كامل العالم العربي، ولهذا تشتت موجات الغزو الصليبي والمغولي عندما أحكمت فقط على أحد قطبي محور (القاهرة – دمشق). ولهذا يحق لنا أن نعجب عن كيفية مسار تاريخ منطقتنا العربية لو تمكن نابليون بونبارت وجيشه العسكري الحديث من الجمع بين غزو الديار المصرية وغزو البلاد الشامية. بعد توغل سهل لجيش الفرنجة الفرنساوي واحتلالهم لمدينتي حيفا ويافا في مطلع عام 1799م تغير بشكل حاد مسار التاريخ، عندما تعثر جنود نابليون في حصار مدينة عكا ثم اجتاحتهم الكارثة الكبرى عندما تفشى وباء الطاعون الرهيب في جيش الحملة الفرنسية مما اضطر بونبارت للفرار والعودة إلى مصر وبهذا ذاق الجنرال أول هزيمة كبرى في حياته. آخر هزيمة كبرى تعرض لها الإمبراطور الفرنسي بونابرت كانت في معركة واترلو على الأرض البلجيكية، كما هو معلوم، لكن أقصى هزيمة تعرض لها نابليون على الإطلاق هي تلك التي خسر فيها حوالي 300 ألف جندي من جيشه العرمرم والذي كان يفخر به ويسميه (الجيش العظيم Grande Armee). في عام 1812م بدأ نابليون مغامرته الكبرى لغزو الإمبراطورية الروسية وبالرغم من أنه انطلق بجيش مهول من فرنسا يبلغ تعدده حوالي 600 ألف جندي، إلا أنه خسر نصف ذلك الجيش عندما مر عبر الأراضي البولندية وهنالك ذاق جنوده حمام الموت ليس بحد السيف ورصاص البنادق، ولكن من جراء انتشار وباء التيفويد بينهم مما أفشل خطة نابليون الأصلية في أن يصل لروسيا في فصل الصيف. وهنا تولى (الجنرال الثلج) هزيمة بقايا الجيش الفرنسي التي وصلت أرض الجليد الروسية في عز فصل الشتاء وبهذا تسبب بلاء الجليد ووباء التيفويد في كتابة الخاتمة السياسية والعسكرية ليس فقط لنابليون بل للأمة الفرنسية بأكملها. الغريب في الأمر أنه قبل ذلك بسنوات قليلة وبالتحديد عام 1809م استخدم نابليون (السلاح الجرثومي) في حربه ضد العدو البريطاني عندما تقابل الجيشان على ضفاف السواحل الغربية لهولندا، وهنا أمر نابليون بهدم السدود وإغراق المنطقة التي بالقرب من الجيش الإنجليزي بمياه السيول. بعد ذلك بفترة من الزمن انتشر البعوض في الأجواء وأصاب وباء الملاريا الجيش البريطاني وقتل منه أكثر من أربعة آلاف جندي، وهنا كان التعليق الخبيث لنابليون (لا يجب أن نقاوم الإنجليز بغير الحمى وهي كفيله بتبديدهم جميعا).

بلاء الوباء أو طعنة الطاعون القاتلة كثيراً ما أعادت كتابة التاريخ في مسار جديد أو يمكن إعادة صياغة العبارة بأن الوباء (طمس) مساق بديل للنص التاريخي. لقد غزا نابليون الشرق والغرب واحتل بلاد شاسعة وإن كان مخططه لغزو الأراضي الفلسطينية أفشلة الميكروب البكتيري لوباء الطاعون، فإن كتابة التاريخ قبل ذلك بحوالي ألفي سنة تم إعادة طمسها عندما كان السلف والمثل الأعلى لنابليون القائد المقدوني الإسكندر الأكبر بعد أن غزا الشرق والغرب يفكر أن يكمل احتلاله للعالم بغزو جزيرة العرب كما أخبر قادة جيشه المقربين. في أواخر حياته القصيرة كان الإسكندر المقدوني يقيم في عاصمة امبراطوريته في مدينة بابل، ونظراً لانتشار وباء حمى الملاريا أو حمى التوفئيد في العراق في تلك الفترة فقط غزت تلك الميكروبات الممرضه جسده قبل أن يشرع ذلك المقاتل الشاب ذو 32 ربيعاً في شن الحملة المقدونية لاقتحام البلاد العربية، وبهذا طمس التاريخ المحتمل لوجود تأثير حضاري غريب في قلب الأمة العربية.

إمبراطوريات آيلة للسقوط بسبب .. فيروس

الجراثيم الممرضة والميكروبات المعدية شيء مخيف ولهذا لم تفلح محاولة عالِم الجراثيم الفرنسي المعروف لويس باستور في تلطيف الشعور السلبي نحوها عندما قال (ليست الجراثيم هي من نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الإنساني مثخن بكوارث الأوبئة المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوما ما مسيطرة ومزدهرة وخير مثال (أول وأفجع مثال في الواقع) هو ذكر تأثير انتشار وباء الحصبة والجدري في أمريكا اللاتينية. لقرون طويلة ازدهرت حضارة شعب الازتيك في الأراضي المكسيكية وشعب قبائل الإنكا الهندية على سفوح جبال البيرو. مسار التاريخ تغير أسلوب كتابته بشكل دراماتيكي عندما هبط القائد الإسباني هرنان كورتيز على ساحل المكسيك في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وفي أعجوبة من أعاجيب التاريخ استطاع الجيش الإسباني المكون من 600 جندي من غزو امبراطورية الأزتيك المكسيكية التي يبلغ عدد سكانها عشرات الملايين. لقد توافق الغزو الإسباني مع غزو ميكروبات وباء الجدري الذي وصل المكسيك عام 1520م وأهلك حوالي نصف شعب الأزتيك بمن فيهم الإمبراطور كيتلاهوك. وبحكم أن الغزاة الإسبان لديهم مناعة نسبية ضد مرض الجدري فلهذا لم يتأثر الجنود الإسبان كثيرا بهذا الوباء مما جعل الأزتيك يخشونهم وكأنهم آلهة لا يقهرون، خصوصاً وأنهم محصنون بأسلحة فتاكة جيدة لا يعرفها هنود المكسيك: الخيول والعربات والبارود.

 نفس الأمر تكرر حذو القذة بالقذة عندما هبط الغازي (الكونكيستدور) الإسباني فرانشيسكو بيزارو على ساحل البيرو عام 1531م وبحوزته كتيبة عسكرية تافهة لا تتجاوز 180 جندي و 27 حصان ومع ذلك استطاع أن يسقط امبراطورية الإنكا التي أنهكها قبل قتال الإسبان انتشار وباء الجدري والذي قضى على الملايين من شعب الإنكا بما فيهم الامبراطور.

زوال إمبراطورية الأزتيك التي تضاهي أهرامها المكسيكية ضخامة وعظمة الأهرام المصرية بسبب جراثيم صغيرة أمر محير وربما يصعب أن يصدقه البعض كما يصعب أن نقنع الجميع أن زوال إحدى أهم وأكثر الامبراطوريات تأثيرا في تاريخ البشرية تم نتيجة فتك الأوبئة المعدية. في العصور القديمة كانت الامبراطورية اليونانية من القوة والتقدم العلمي والمعرفي لدرجة أنها دحرت الغزو المتكرر للجيوش الفارسية المهولة العدد ومع ذلك كان اضمحلال تأثير الإمبراطورية اليونانية من المسرح الدولي بسبب تفشي وباء الطاعون في عاصمة الجزر اليونانية مدينة أثينا. يشير المؤرخ اليوناني الشهير ثوسيديديس صاحب كتاب تاريخ الحروب البيلوبونيزية بين أثينا وإسبارطة أن هذه الحروب الطاحنة انتهت عام 430 قبل الميلاد عندما تفشى وباء الطاعون أثناء حصار مدينة أثينا وتسبب في مصرع ليس فقط كبار قادة المدينة مثل حاكمها المحنك بريكليس ولكن أيضا في هلاك حوالي ثلثي سكان المدينة. وبالتالي تسبب الوباء بشكل مريع في إضعاف قدرة الدفاعات البحرية لحماية المدينة من اجتياح جنود الأسطول الاسبارطي المشهورين بكفاءتهم الحربية وشراستهم القتالية مما تسبب في السقوط النهائي والمستمر للحضارة اليونانية.

في العادة لا تذكر الإمبراطورية اليونانية إلا وتذكر خليفتها الإمبراطورية الرومانية وهو ما سوف نفعله الآن وإن كنا لا نستطيع أن نبالغ ونعلل سقوط الإمبراطورية الرومانية بسبب الأوبئة المعدية. ومع ذلك كانت لحظة (التدهور الخطيرة) في تاريخ الإمبراطورية الرومانية وتعثر مسيرتها المزدهرة عندما انتشر بها وباء الجدري في عام 165 ميلادي. في واقع الأمر استمرت الإمبراطورية الرومانية لمدة خمسة قرون، لكن قمة استقرار وازدهار وتقدم الحضارة الرومانية (الفترة التي تعرف باسم Pax Romana) انتهت مع نهاية حكم الإمبراطور و(الفيلسوف) الروماني ماركوس أوريليوس والذي توفي من جراء وباء الجدري السابق الذكر والذي حصد معه كذلك حوالي خمسة ملايين شخص. لقد وصف المؤرخ الروماني كاسيوس ديو الأثر المدمر للطاعون الأنطوني الذي أصاب الإمبراطورية الرومانية وكان يتسبب في مقتل ألفين شخص يومياً، وبالتالي دمر الاقتصاد والقوة العسكرية لتلك الامبراطورية العظمى، ولذا وصفها كاسيوس ديو أنها انحدرت بعد الطاعون من مملكة الذهب إلى مملكة الصدأ والحديد. أما خاتمة انهيار الإمبراطورية الرومانية عام 476م فليس من المستغرب أن نعلم أنه سبق هذا السقوط النهائي بعدة عقود انتشار وباء الطاعون الذي سهّل انهيار الرومان المذل والمهين على يد الهمج والبرابرة سواء من قبائل الهون القادمة من الشرق أو جحافل القوط القادمة من الشمال.

وفي الختام عودا على ذي بدء ونعيد ربط أول المقال بآخره ونذكّر بدور الوباء والبلاء في كتابة تاريخ منطقتنا العربية حيث ساهم الوباء والطاعون في نجاة البلاد والشعوب العربية من غزو نابليون أو في عرقلة تنفيذ مخطط الاسكندر المقدوني لغزو جزيرة العرب. ما تجدر الإشارة إليه أن بلاء الوباء ساهم في فترة ما في حماية بلاد الإسلام من (إعادة كتابة التاريخ) عن طريق (إعادة) احتلال الصليبيين لبلاد الشام والقدس، حيث ساهم الطاعون في كسر موجة الحملة الصليبية الثامنة آخر الحملات الصليبية. في عام 1270م قاد الملك الفرنسي لويس التاسع بنفسه الحملة الصليبية الثامنة والتي كانت تهدف لاحتلال تونس ثم الانطلاق منها نحو الشرق لغزو مصر وأخيرا استرجاع بيت المقدس. ولكن جحافل الجيوش الصليبية تبددت لحظة وصولها بسبب تفشي وباء مرض الدوسنتاريا والكوليرا بين صفوف الجنود، ولم يسلم من ذلك حتى الملك لويس التاسع نفسه الذي انتهى أجله في تونس وانتهت مع هلاكه الحروب الصليبية. هذا الحدث مثال على (الدور الايجابي !!) للوباء والطاعون في دفع بلاء آخر عن بلاد المسلمين. والتاريخ العربي به العديد من مثل هذه الأحداث المتناقضة التي وإن كانت لم تمنع سقوط المدن الإسلامية لكنها أجلت قليلاً مصيرها المحتوم. من ذلك مثلا أنه بعد سقوط بغداد ودمارها على يد المغول تردد التتار بعض الوقت في اقتحام بلاد الشام والسبب في ذلك أنه بعد قتل حوالي مليون شخص في مدينة بغداد انتشر فيها الوباء الذي انتقل إلى أراضي الشام حيث عم الطاعون أغلب الحواضر الكبرى في الشام وهذا ما جعل المغول يؤخرون قليلا اجتياحهم لباقي ديار المسلمين.

في لحظة خاطفة من التاريخ كاد الوباء والطاعون أن يعيد كتابة (أو هل نقول إعادة طمس) التاريخ ليس فقط بإيقاف سقوط الشام في قبضة المغول عام 1259م ولكن أيضا في ايقاف المسلسل الحزين في إكمال سقوط الأندلس في قبضة النصارى. تقول كتب التاريخ أنه في عام 1489م قام الجيش المسيحي الإسباني البالغ تعداده 25 ألف مقاتل بحصار آخر معاقل الإسلام في أرض الأندلس مدينة غرناطة. وهنا تلوح تباشير الفرج إذ انتشر وباء التيفويد بين أفراد الجيش المسيحي ليفتك خلال شهر واحد فقط بحوالي 17 ألف جندي ومع هروب بقية أفراد الجيش ينتهي حصار غرناطة. كما هو معلوم كان ذلك تفريج مؤقت وتأخير مؤجل للكارثة الكبرى التي حلت بعد ذلك بثلاث سنوات عندما سقطت أخيرا مدينة غرناطة عام 1492 ميلادي.

بقي أن نقول إن الأمراض الوبائية والطاعون خصوصاً تستحق بحق لقب (الموت الأسود) وهي شيء مرعب في ذاكرة التاريخ البشري وحتى وإن خدمتنا بشكل من الأشكال في منع وحرف بعض المصائب والأهوال عن بلاد المسلمين، إلا أنها عدو معدي يجب الخوف والفرار منه. فقط القلوب العامرة بالإيمان والمسلمة بقضاء الرحمن يمكن أن تتلمس جوانب الحكمة من مصيبة بلاء الوباء وخير مثال على ذلك عالم السلف الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي عاصر في عام 819 هجري انتشار وباء الطاعون في أرض فلسطين وبالرغم من أنه توفيت اثنتين من بناته في هذا الطاعون مع خلق غفير من الناس إلا أنه سلّم بقضاء الله ثم أخرج للامة الإسلامية كتابه الفريد (بذل الماعون في فضل الطاعون).

 

البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x