تذكر كتب الأدب العربي أن مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبدالرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، شاهد يوماً ما بالأرض الإسبانية شجرة نخيل وحيدة فاستغرب نموها في غير مرابعها وموطنها الأصلي، ولهذا هاجت أشجانه وتذكر وطنه بأرض الشام فقال:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ •• تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى •• وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة •• فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وقع ذلك المشهد قبل 1200 سنة وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر (جسر قرطبة وليس جسر الرصافة) منذ ذلك الحدث، فتغيرت شعوب واندثرت أمم وانطلقت من إسبانيا ذاتها كشوف جغرافية طافت الكوكب من أدناه إلى أقصاه نُقلت خلالها عادات وبضائع ونباتات. لم يعرف العرب بشكل واضح شجرة البرتقال وإن كان عرفوا أشجار النارنج الشبيه به، ولاحقاً، في زمن الانحطاط انتقلت شجرة الحمضيات تلك من أرض الأندلس إلى أغلب الدول العربية عبر الرحالة والتجار البرتغاليين، ولهذا جادت قريحة أسلافنا بتسمية تلك الفاكهة بذلك الاسم الملون الغريب (البرتقال).
الهجرات البشرية واقع ملموس منذ الأزل، وتم خلال تيار الزمن الجراف نقل آلاف من الحيوانات والنباتات والأفكار والمخترعات عبر الحضارات والممالك المتباعدة. الحضارة الإسلامية نشرت في الآفاق مورثها الديني واللغوي والمعرفي ولكنها بيئة شحيحة بالنباتات فلم تحرص على نقلها، ففاقد الشيء لا يعطيه، كما يقال. المنظور الثقافي للشعوب الأخرى قد يختلف عنا، ففي حين كان الملك العربي الأندلسي يتعجب من وجود النخلة في الأرض الأندلسية نجد لاحقاً ملوك الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية هم من نقل زراعة النخيل إلى العام الجديد في أمريكا اللاتينية. النخلة في موروثنا الثقافي الجمعي رمز للرسوخ والثبات فلم نحرص على نقلها، بينما في الموروث الكنسي المسيحي يجدون عندهم مكتوب في سفر المزامير أن الأخيار سوف يزدهرون وينتشرون مثل شجر النخيل. في الواقع فيما يخص النخيل: الثابت عندنا هو متحول عندهم، ولهذا لا غرابة أن الإسبان عندما وصلوا إلى الغابات الاستوائية في أميركا الوسطى ووجدوا نبات شبيه بالنخيل يغير مكانه مع الزمن لم يترددوا بأن يطلقوا عليه وسم شجرة النخلة الماشية (Walking Palm Tree).
لاحقاً في ثنايا هذا المقال سنعرف أن لا (خصوصية ثقافية) لشجرة النخيل ببلاد العرب وواحات الصحراء بل هي تزرع الآن في أرض الجليد وجزر المحيط، ومن هذا وذاك يجب أن نفخر أنه بالفعل (عمتنا النخلة) هي إرث حضاري مشاع بين أغلب شعوب العالم. في هذا الأسبوع صدر قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إدراج شجر النخيل والتمر ضمن قائمة التراث غير المادي للبشرية. البعد العالمي لشجرة النخلة متجذّر في التاريخ البشري منذ الأزل فالعديد من الحضارات القديمة والمذاهب الدينية تعتبر النخلة تجسيد لأسطورة (شجرة الحياة) كما نجد ذاك عند الفراعنة في أرض النيل أو الآشوريين في بلاد الرافدين، كما اعتبرت النخلة رمزاً لسر الحياة وفق عقائد القبالة اليهودية. قبل سنوات نشرت مقالاً حمل عنوان (رمزية الجَمل في الثقافات الأخرى) أشرت فيه إلى المبالغة في افتراض الخصوصية المزعومة للمجتمعات العربية ببعض المظاهر الحضارية وكأنها حكر علينا وماركة مسجلة لنا. وعلى نفس نسق مثال الجمل وقافلة الإبل، نقول هنا أن شجرة النخيل أو واحة الصحراء أو قهوة الضيافة ليست بالضرورة هي (خصوصية ثقافية) للمجتمعات العربية فقط. بكل تجرد يمكن القول أن وصول شجرة النخيل إلى (العالمية) عبر قرار اليونيسكو سالف الذكر لاقى صدى عالمي ليس فقط لجهود الدول العربية ولكن أيضاً (للجاذبية الحضارية) لشجرة النخيل عند الشعوب الأخرى لدرجة أنه في الحس الغربي فإن وصف (مدينة النخيل) يعني عندهم مدينة لوس انجلس الأمريكية وليست مدينة البصرة العراقية أو الهفوف السعودية أو مراكش المغربية.
النخلة شجرة مباركة في أرض غريبة
بعد آخر زيارة لي للعاصمة الفرنسية باريس صح العزم مني أخيراً أن أقرأ كتاب (تخليص الإبريز عن تلخيص باريز) للكاتب والرحالة المصري الشهير رفاعة الطهطاوي والذي وثّق في هذا الكتاب مشاهداته وانطباعاته وانتقاده للحضارة والثقافة الفرنسية في مدينة باريس في منتصف القرن التاسع عشر. الغريب في الأمر أن كلاً من المفكر الطهطاوي وشخصي المتواضع لفت انتباهنا وأثار استغرابنا وجود أشجار النخيل في ساحات وميادين باريس، وإن كان كل منا استغرب الحدث من زاوية مختلفة متأثراً بتصوراته القديمة. أما أنا فشخصية ذات خلفية علمية وبحكم أنني لم يسبق لي على الإطلاق أن شاهدت شجر النخيل في أي من دول شمال أوروبا إلا أشجار النخيل التي شاهدتها في البيت الزجاجي الضخم والبالغ الجمال والأناقة المسمى (بيت النخيل) في حدائق النباتات الملكية في منطقة كيو Kew في ضواحي مدينة لندن. ولهذا ضللتني سذاجتي في طريقة التفكير العلمية للاستنتاج أن شجر النخيل لا يمكن أن يعيش في المناطق الباردة إلا تحت أجواء اصطناعية دافئة كما فعل الإنجليز. ولهذا استغربت (كما استغرب صقر قريش من قبل) وجود أشجار النخيل (المهاجرة) تلك ونموها في غير مرابعها وموطنها الأصلي. ومن جانب آخر شعرت أنا وزملائي الكرام بالفخر البالغ للاعتناء الخاص من قِبل الفرنسيين بأشجار النخيل في حدائق لكسمبورج الرائعة الجمال في الحي اللاتيني في وسط باريس حيث أبرزت بغرسها في حاوية خاصة ومنفردة ووضعت في أمكان استراتيجية حول البركة المائية الرئيسة وأمام مدخل القصر التاريخي الفاخر.
أما ما كان من استغراب رائد النهضة العربية رفاعة الطهطاوي لوجود النخيل في مدينة باريس فإنه كان قد قرأ في شبابه في كتاب (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) لشيخ الجغرافيين العرب القزويني أن النخلة شجرة مباركة وعجيبة ومن عجائبها أنها لا تنبت إلا في بلاد الإسلام، ولهذا اهتزت ثقة الطهطاوي في بعض المعارف العلمية التي عرفها سابقاً.
حقاً وصدقاً (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ففي الوقت الذي غررت بي خلفيتي العلمية القاصرة إلى استبعاد إمكانية نمو شجر النخيل في الهواء الطلق بالمواقع الجغرافية الباردة، كان علماء أوروبا ومنذ منتصف القرن الثامن عشر يتبادلون بينهم الرسائل والتقارير في رصد ظاهرة نمو أشجار النخيل في بعض المدن الأوروبية. في العام 1764 ميلادي تم نشر مقال علمي خاص في كتاب السجل السنوي البريطاني The Annual Register حمل عنوان (تشجيع زراعة شجرة النخيل في المناطق الشمالية الباردة) نوقش فيه رصد تجارب زراعة أشجار النخيل في بعض المدن الأوروبية مثل مدينة برلين ومدينة مونبيليه الفرنسية. وبالانتقال لجنوب أوروبا نجد في القصة القصيرة (قطة في المطر) للأديب الأمريكي البارز ارنست هيمنغواي، نتبين أن شجرة النخيل حاضرة في المشهد الأدبي حيث تدور القصة في مدينة ايطالية زاخرة بشجر النخيل. بينما الجزر اليونانية وبلاد الإغريق قصة ارتباطها بشجرة النخيل المباركة عريقة وقديمة، فوفق بعض الأساطير الإغريقية تعتبر النخلة شجرة مقدسة لأن الإله الإغريقي أبولو إله الشمس ولد بزعمهم تحت شجرة نخيل في جزيرة ديلوس. ولهذا عندما انتصرت دول المدن اليونانية (المسماة دول الحلف الديلي نسبة إلى جزيرة ديلوس) بقيادة مدينة أثينا ضد الجيوش الجرارة لأعدائهم من الفرس والفينيقيين في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تم الاحتفال بالنصر عن طريق نصب مجسم برونزي لشجرة النخيل في مدينة ديلفي اليونانية المقدسة. ومن هنا ارتبط شجر النخيل في الثقافة اليونانية والرومانية القديمة بالانتصار وتحقيق الفوز، ولهذا جرت عادة منح وتقديم سعف النخيل للفائزين في البطولات الرياضية أو للقادة العسكريين المنتصرين في الحروب. ولاحقاً، دخلت هذه العادة في الديانة المسيحية حيث كما هو مشهور أُستقبل السيد المسيح بجريد النخيل عندما دخل مدينة القدس. من عجائب الأمور أن ارتباط شجرة النخيل بالسيد المسيح تسبب بشكل أو بآخر في نقل وانتشار هذه الشجرة المقدسة عندهم (المباركة عندنا) في بقاع كثيرة من الأرض. فمثلاً، نجد أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن بداية زراعة النخيل في أمريكا الشمالية وبالتحديد في ولاية كاليفورنيا تم من خلال البعثات المسيحية الإسبانية في القرن السابع عشر الميلادي لاحتياج رجال الكنيسة لاستخدام سعف النخيل في طقوس المواكب الدينية التي كانت تطوف المدينة في يوم الأحد من عيد الفصح من كل سنة. ولمثل هذه الأسباب الدينية وغيرها انتشر شجر النخيل في عموم العالم الجديد في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية.
سبق وأن ذكرنا أنه في الحس الجمعي للشعوب الغربية ترمز النخلة للنصر والسمو والازدهار ولكنها في الوقت الحالي أصبحت كذلك هي رمز وأيقونة للشيء الفاتن والغريب exotic ولهذا انتشر لدى العديد من أهل الثراء والجاه في الغرب والشرق زراعة شجر النخيل في قصورهم وحدائقهم الخاصة. وهذا ما يفسر أسباب الموجة الثانية من شيوع زراعة النخيل في أغلب حدائق ومدن العالم الكبرى. في واقع الأمر، فإن الانتشار الجغرافي لزراعة النخيل واسع ومستمر ويمتد من القارة الأسترالية في أدنى الشرق وحتى القارة الأمريكية في أقصى الغرب. وعلى ذكر الولايات المتحدة الأمريكية وصل الأمر فيها لكثرة تواجد شجر النخيل بها، أن نجد أن لقب ولاية كارولاينا الشمالية هو (ولاية النخلة) في حين أن مدينة لوس أنجلس التي تحتوي شوارعها على حوالي خمس وسبعين ألف نخلة تستحق بجدارة اسم (مدينة النخيل). بالمناسبة العديد من المدن الأمريكية مثل فلوريدا وسان دييغو ولوس أنجلس ليست فقط تشتهر بكثرة النخيل في شوارعها ومنتجعاتها ولكن أيضاً بفخامة سلالة ذلك النوع من النخيل الذي يتميز بالطول الشاهق جداً، علماً بأن أطول أشجار النخيل على الإطلاق توجد في وسط دولة كولومبيا في أمريكا الجنوبية والتي قد يصل طول أشجار النخيل فيها إلى حوالي ستين مترا !!.
بقي أن أختم بتذكير واعتراف، فأما التذكير فهو للخطأ الذي وقع فيه قديما شيخ الجغرافيين العرب القزويني عندما قال (أن النخلة شجرة مباركة وعجيبة ومن عجائبها أنها لا تنبت إلا في بلاد الإسلام)، وإذا بنا كما علمتم نجدها تنبت وتزدهر وتنتشر في أي (أرض غريبة) وكأنها قد هاجرت من بلاد الإسلام مع من هاجر. وأما الاعتراف، فهو في جزء منه تذكير بخطأي الذي أشرت إليه سابقاً عندما كنت أعتقد أن النخلة لا تعيش في (أجواء غريبة) مثل الأجواء الأوروبية الباردة. في الواقع لو لم يغب عن ذهني عنوان كتاب القزويني لما وقعت في هذا الخطأ، فإذا كان عنوان كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) فلماذا العجب من احتمالية نمو النخيل في الأجواء الباردة؟ بل حتى في المناطق شديدة الزمهرير. من عجائب المخلوقات أن تجد أشجار النخيل تنمو الآن وتزدهر في مناطق تتجمد فيها الأنهار والبحيرات في فصل الشتاء كما في مدينة موسكو الروسية أو مدينة فانكوفر الكندية أو مدينة شيكاغو الأمريكية.
لقد بدأنا المقال ببلاد الأندلس وسوف نختمه بالأرض الإسبانية، حيث قامت الروائية الإسبانية لويز جاباس في عام 2012 بنشر رواية لاقت انتشاراً كبيراً ومن ثمّ تحولت لفلم سينمائي ناجح، وما يهمنا هنا أن عنوان تلك الرواية/ الفلم هو (شجرة نخيل في الثلج). وبعيداً عن الأجواء الرومانسية لتلك الرواية الطويلة جداً يبدو أن عنوان الرواية سوف يحول عالم (المجاز الأدبي) إلى دنيا (الحقيقة العلمية). فقبل أشهر قليلة مضت، تم الإعلان عن زراعة بعض أشجار النخيل في أرض الثلج والجليد أيسلندا (Iceland) في إحدى حدائق العاصمة ريكافيك، علماً بأن درجة الحرارة منخفضة جداً في غالب أيام السنة، فهل سوف تنجو تلك (النخلات الثلجية) لتصبح بالفعل من عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات.
البريد الالكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com