مع توسع الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية ودخول شعوب مختلفة تحت راية الدولة الإسلامية نشطت حركة الترجمة إلى العربية لاستيعاب معارف وعلوم تلك الشعوب مما حدا بالمترجمين إلى توسيع رداء اللغة العربية بنحت مصطلحات مبتكرة وتوسيع دائرة الاشتقاق لتلبية حاجتها فيما تفرضه العلوم من حساب وفلك وطب وفلسفة ومنطق.
ولئن كانت المحاولات الأولى للترجمة رديئة وضعيفة بسبب غياب المصطلحات العلمية باللغة العربية مما حدا بالمترجمين إلى نقلها كما هي عن الأغريقية والفارسية والهندية مثل انلوتيقا (التحليل) وأرتماتيقا (علم الحساب)، فإنها نضجت مع الوقت بعد أن تم تخصيب اللغة العربية بعدد كبير من المصطلحات مكنتها من التعبير بسلاسة عن منطق أرسطو وفلسفة أفلاطون وطب أبقراط، وفلك بطلميوس ورياضيات ٳقليدس.
وكان لابد من ضبط هذه المصطلحات وتحديد معانيها واشتقاقاتها، بعد تطويع الأعجمي منها ليوافق الأوزان العربية أو ترجمتها إلى كلمة عربية إثر اكتشاف قدرة العربية على التعبير عنها بيسر وبدلالات أعمق، بوضع المعاجم التي تنظم هذا السيل من الألفاظ والمعاني الجديدة خاصة في مجال العلوم والفلسفة. ومن هنا تأتي أهمية أول كتاب وضع باللغة العربية لإحصاء المصطلحات العلمية وضبط معانيها في مختلف فروع المعرفة وهو كتاب "مفاتيح العلوم" لمؤلفه محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي الذي يوصف بكونه أول موسوعة للمصطلحات العلمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي الذي توفي في حوالي عام 997 ميلادي هو غير أبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي عالم الرياضيات والفلك والذي توفي قبل ذلك بقرن ونصف تقريبا.
عدّ معظم الباحثين في تاريخ العلم والتأليف محمد بن أحمد الخوارزمي كأول من أقدم على التأليف الموسوعي وبحث في مختلف فروع العلم، كما هو واضح في كتابه "مفاتيح العلوم". ووصف بكونه من ألمع العلماء الذين ضمهم بلاط الأمير نوح الثاني الساماني في نيسابور بفضل علمه الواسع، واطلاعه الشامل وخبرته بأحوال الدول فيها. وقد أتاح له قربه من هذا الأمير بعد توليه مناصب إدارية، الفرصة للاطلاع على الكثير من الكتب التي زخرت بها مكتبة قصره. فكان الخوارزمي نتاج ثقافة عصره وتجسيد حي لطبيعة تلك الثقافة الموسوعية.
قسّم الخوارزمي موسوعته "مفاتيح العلوم" التي ألفها قبيل وفاته بسنوات قليلة وأهداها لأبي عبد الله ابن أحمد ابن أبي العتبي وزير نوح الثاني الساماني، إلى مقالتين رئيسيتين، خصص الأولى منهما للعلوم الشرعية وما يرتبط بها من علوم اللغة العربية كالكتابة والنحو والشعر والعروض إضافة إلى التاريخ والجغرافية، وجعل الثانية في تسعة أبواب للعلوم المنقولة من الأمم الأخرى، تشمل علوم الطب والعدد والهندسة والفلك والكيمياء وعلم الحيل والفلسفة والمنطق والموسيقى. وبلغ مجموع أبواب الكتاب خمسة عشر باباً مقسمة إلى ثلاثة وتسعين فصلاً.
وقد ذكر الخوارزمي في مقدمة كتابه دواعي تأليفه له، مترجما أهمية المصطلح كمدخل لدراسة العلوم فقال: "…دعتني نفسي إلى تصنيف كتاب (..)، يكون جامعاً لمفاتيح العلوم وأوائل الصناعات، متضمناً ما بين كلّ طبقة من العلماء من المواضعات والاصطلاحات التي خلت منها أو من جلّها الكتب الحاصرة لعلم اللغة، حتّى إنّ اللغوي المبرز في الأدب، إذا تأمّل كتاباً من الكتب التي صُنّفت في أبواب العلوم والحكمة، ولم يكن شدا (أخذ) صدرا من تلك الصناعة، لم يفهم شيئا منها، وكان كالأمي الأغتم (من لا يفصح عن كلامه) عند نظره فيه." وجعل الخوارزمي كتابه بمثابة مدخل ومفتاح للمتعلمين والباحثين الذين يعالجون علماً من العلوم ويريدون معرفة المصطلحات المستعملة فيها، وكذلك ليكون دليلاً مبسطاً لعموم المثقفين الراغبين في مطالعة العلوم والآداب، فقال "إن أحوج الناس إلى معرفة هذه الاصطلاحات الأديب اللطيف الذي تحقَّق من أن علم اللغة آلة لإدراك الفضيلة".
لم كتف الخوارزمي في هذا الكتاب بحصر أهم المصطلحات المستخدمة في عصره في مختلف العلوم، بل قام كذلك بمعالجته مسألة اختلاف دلالة المصطلحات ومعانيها بين حقل وآخر. وقدم العديد من الأمثلة كمصطلح "الوتد" الذي هو عند اللغويين والمفسرين أحد أوتاد البيت أو الجبل من قوله تعالى «والجبال أوتادا«، وهو عند أصحاب العروض ثلاثة أحرف اثنان متحركان وثالث ساكن. والوتد عند المنجمين هو أحد المنازل الأربعة في منطقة البروج وهي الطالع الغار. وأما منهجه في وضع الكتاب، فقد أورده الخوارزمي في المقدمة، ويتلخص في تحري الإيجاز والاختصار وتوقي التطويل والإكثار، والاعتناء بالاصطلاحات المتداولة والانصراف عن الشائع المشهور والغريب الغامض، وعدم الانشغال بالاشتقاق والتفريع، إضافة إلى إغفال ذكر الحجج والشواهد إذ غالب هذه الاصطلاحات من كلام العجم تم تعريبها. وبهذا المنهج وضع الخوارزمي جملة من القواعد الأولية صارت أساساً لعلم الاصطلاح والتصنيف الموسوعي، وقد تأثر بها كل من جاء بعده في هذا المجال.
لم يحظ كتاب «مفاتيح العلوم» باهتمام لائق من الباحثين العرب إلا نادرا. لكنه وجد بالمقابل، اهتماماً من طرف المستشرقين. وقد ظهر كتاب «مفاتيح العلوم» للخوارزمي، بنصه العربي لأول مرة، في نشرة للمستشرق الهولندي فان فلوتن van vloten، سنة 1895. وأثار الكتاب اندهاش المستشرقين، نظراً لطريقة بنائه وكيفية ترتيبه غير المسبوقة والشبيهة بطرق وضع الموسوعات الحديثة. ونشر المستشرق فيدمان بعض فصول من هذا الكتاب تتعلق بعلم الحيل، والاصطلاحات المستخدمة في ديوان الماء، كما نشر الفصل السابع بعنوان في صناعة الآلات عند العرب في الهندسة والحساب. ونشر بعض الأبحاث المتعلقة بموضوعات جغرافية وفلكية وموسيقية.
لا توجد سوى ثلاث مخطوطات من "مفاتيح العلوم" في مكتبة المتحف البريطاني في لندن ومكتبتي ليدن وبرلين في ألمانيا. في المقابل طبع الكتاب في العالم العربي خلال القرن العشرين العديد من المرات كانت أولاها في مصر عام 1930 بناء على نسخة فان فلوتن بعد مراجعته من قِبل محمد كمال الدين الأدهمي.
المراجع
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com