هناك العديد من الابتكارات المؤسسية في القطاع العام التي تزخر بها الحضارة الإسلامية ويتمثل ذلك في فكرة الحوكمة والحسبة والوقف والدواوين والتوثيق والبُعد الإنساني والأخلاقي في العمل الحكومي. لكننا اليوم في خضم موجة العولمة والعصر الرقمي، تواجه الحكومات عالَماً يتسم بالتعقيد والتشابك عبر وسائل الاتصال الحديثة، هذا في الوقت نفسه يتيح للقطاع العام الاستفادة من التقنيات الحديثة وتسخيرها للتواصل مع المجتمع وصياغة سياسات عامة مستمدة من حاجات المجتمع المحلي، لأن الابتكار يُعنى بتقديم خدمة عامة.
لكن تكمن المعضلة أن عالم المؤسسات الحكومية يُشكل إطاراً محدوداً لصياغة التحديات والمشاكل المعقدة ضمن فكرة الكفاءة والإنتاجية ولذا قد يبدو أن دور القطاع محدودٌ في المجتمع. ومما لا شك أن نسق التفكير لدى الموظف في القطاع العام له تأثير على مدى قدرة الحكومات على الابتكار ولذا يعتمد الابتكار على قدرة الموظف على إعمال الخيال والحدس وانعكاس الأفكار أو "الاستبطان" لتوليد فكر مؤسسيً جديد يواجه التحديات الحديثة. ومن الملاحظ أن العديد من الابتكارات في القطاع الحكومي تتركز حول التقنيات كنهج للتحديث أو زيادة الكفاءة، مع العلم بأن هناك ضرورة لاعتماد الابتكار المعتمد على المستخدمين أو الابتكار المفتوح والذي يتطلب إعادة هيكليةٍ للعمليات والإجراءات وتقديم الخدمة.
ولكن غالباً ما توصف بيئة العمل الحكومي بثقل القيود والمحددات التشريعية والإدارية نظراً لقصر الدورات السياسية والتغير السريع للمناصب العلياً في بعض الأحيان. لذا نجد أن الثقافة المؤسسية للقطاع العام تميل إلى تجنب المخاطرة وهذا في حد ذاته نقيض لجوهر الابتكار في القطاع الخاص الذي يتميز بالمخاطرة وتقبل الفشل. لذا من الأهمية بمكان تخفيف وإزالة القيود الإدارية في القطاع العام لإتاحة المجال لتعزيز الممارسات المبتكرة والتي قد تسهم في التصدي لاتساع الفجوة في الأجور والعدالة في التوظيف والحد من الفساد الإداري والاستفادة من خبرات المتقاعدين وتحسين الخدمة العامة من تعليم وصحة وخدمات اجتماعية.
من المهم الإشارة إلى أهمية دور القطاع العام في الابتكار في المجتمع حيث أن تأثير السياسات العامة يشمل كافة القطاعات والمؤسسات وكافة مناحي الحياة مثل قضايا التأمين الصحي أو التعليم العام أو النقل العام أو الضرائب أو سياسة الاستيراد للسلع وسياسة الاستثمار والتوظيف ودعم البحث والعلوم وريادة الأعمال والشباب والمرأة.
ويعود الفضل للقطاع العام في تمويل البنية التحتية اللازمة للابتكار وكذلك في الاستثمار في حاضنات الأعمال ومختبرات الابتكار الحكومي والتدريب والتعليم المهني والعالي، حيث أن تطوير القدرات المؤسسية في القطاع الحكومي هو من أكثر القطاعات مخاطرة لأنه يعمل بمعزل عن آليات السوق والمجتمع المدني ويؤثر في مجالاتٍ لا يستطيع القطاعُ الخاصُ العملُ فيها.
ومن جملة خصائص الابتكار في القطاع العام هو أن تأثيرها عام وشامل لكافة فئات المجتمع وهذه الشمولية تجعل هذا النوع من الابتكار أهمية مميزة لأنها تفضي إلى استحقاقات وتنشئ حقوقاً مكتسبة مع الزمن. لكن المعضلة تكمن في قدرة الحكومات على التجريب ومراجعة السياسات العامة مثل تجربة سنغافورة التي تتميز باختيار خيرة الطاقات البشرية للقطاع العام واعتماد مبدأ الجدارة والعدالة والمراجعة الدورية للسياسات العامة من أجل التعليم المؤسسي وتصويب السياسات العامة المتعلقة في الابتكار.
وكذلك يتسم الابتكار في القطاع العام بأنه يعتمد على معرفة غير مكتملة وذات تأثير مجهول أو حتى نتائج غير متوقعة على الرغم من توفر أدوات التحليل للبينات الضخمة واستشراف المستقبل إلا أن الابتكار الحكومي يعتمد على تعديل وتغيير سلوك المواطنين لذا يتطلب ذلك جهداً في بناء المصداقية والثقة للتكيف والتعليم والتسديد والمقاربة في ضوء مراجعة تأثير السياسات العامة ومؤشرات الأداء، وهذا يتطلب صياغة رؤية للابتكار الحكومي تراعي مفهوم التعلم المستمر.
في ضوء تطوير القوانين والتجريب للوصول إلى تحديد دقيق لجوهر المشكلة التي تنوي الحكومة التصدي لها خاصة وأن معظم المشاكل في القطاع العام هي مشاكل غير مألوفة وغير واضحة المعالم ومعقدة وليس لها حل محدد وحتى أنَ حلها يفضي إلى مشاكل جديدة. وهذه التحديات بحاجة إلى سياسة توازن بين التكيف والتغيير والحفاظ على المكتسبات في آن واحد وهذا بحاجة إلى حكمة وحصافة وفهم لعلم النفس السلوكي واستخدام التفكير التصميمي في حل المشكلات.
خلاصة القول، يكمنُ دورُ القطاع العام في الابتكار في استخدامه كرافعة للارتقاء بالمجتمع والتكامل المؤسسي وذلك لتحقيق العدالة والاستدامة واعتماد الجدارة من أجل تحقيق التنمية المستدامة والاستفادة من القدرات البشرية لبناء اقتصاد إبداعي.
البريد الإلكتروني للكاتب: odehaj@agu.edu.bh