مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

وفاة د. باث الطبيبة صاحبة اختراع علاج العيون بالليزر

الكاتب

الكاتب : ا.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا – مصر

الوقت

12:43 مساءً

تاريخ النشر

24, يوليو 2019

"وهناك من العلماء من تركوا ثروة علمية كبيرة أغنت العالم أجمع قبل أن تغنيهم" 

وراء تقدم البشرية علماء كبار قد نعلمهم وقد نجهلهم، ولكن تبقى أعمالهم نبراسا لنا يضيء لنا طريق الدنيا كلما مشينا فيه. وطالما استمرت الحياة سيكون هناك مزيداً من التقدم وسيكون وراءه مزيد من العلماء. ومع أن الأمثلة كثيرة، إلا أنه يسعدني أن أحدثكم في هذا المقال عن شخصية فريدة ومختلفة لم يكن يتوقع لها أحد أثناء ولادتها في الحي الفقير ووسط العنصرية أن تفعل شيئا مميزاً على الإطلاق. ولكنها فعلت وانجزت واخترعت وأفادت البشرية كلها من خلال رحلة كفاح ونجاح لا يقدر على تحقيقه سوى من يمتلك عزيمة حديدية ورؤية ورسالة وأهداف مكانها على أرض الحياة تمشي بين الناس وليس مجرد كلمات في الكتب.

أتحدث عن طبيبـة وعالمة أمريكية هي باتريشيا باث Patricia Bath طبيبة العيون، والتي لم تمت قبل أن تصنع شيئا مفيدا للبشرية عامة وللفقراء من مرضى العيون خاصة، والتي توفيت منذ حوالي 45 يوما في 30 مايو 2019 عن عمر يناهز 76 عاما.

الدكتورة باث هي التي اخترعت جهاز لاستخدام الليزر في علاج السَّاد أو الماء الأبيض (Cataract) وهو مرض يصيب العين بالعتمة. كما أنها أيضا هي التي كانت وراء تأسيس فرع جديد من فروع طب العيون وهو طب العيون المجتمعي.

وتعتبر باث أول جراح أمريكي من أصل أفريقي في المركز الطبي لجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وشاركت في تأسيس المعهد الأمريكي للوقاية من العمى في 1976. وفي لقاء تليفزيوني لها العام الماضي مع قناة إيه بي سي نيوز قالت باث:

"واجهت بعض العقبات منها الكراهية والعزلة والتمييز والعنصرية، ولكني اضطررت إلى التخلص منها. كل هذه العقبات وغيرها تمثل ضجيجاً يشوش فرص التقدم للأمام. ولكن من يصر على النجاح وتحقيق التميز لا بد أن يستمع وينفذ كلمات الدكتور مارتن لوثر عندما قال: يجب أن تتجاهل الضجيج، ويجب أن تُبقي عينيك صوب الجائزة، وهذا بالضبط ما فعلته".

ولدت د. باث في حي هارليم Harlem بمدينة نيويورك عام 1949 من أب وأم أصولهما إفريقية. وكان والدها رجل مكافح يعمل في مترو أنفاق مدينة نيويورك، ووالدتها عاملة نظافة منزلية. ورباها والداها – كما كانت تفتخر دائما بهما – على الاعتداد بالنفس والكفاح حتى النهاية، وبرقي في السلوك والتعامل  بفروسية حتى الوصول إلى أهدافها. 

وكانت باث وهي في مرحلة الطفولة شغوفة جداً بالعلوم وقراءة الكتب والسفر. وحققت نتائج رائعة في مادة البيولوجي وهي في المرحلة الثانوية مما جعلها تنهي الثانوية في عامين ونصف من إجمالي أربع سنوات كما هو متبع في النظام الدراسي في أمريكا .بالطبع هذا الأمر لا يتحقق بسهولة ولكن فقط مع الطلاب المتميزين علميا. 

وفي هذا السن المبكر (16 عاما) من عمرها حصلت على منحة برنامج تدريبي صيفي Summer Training Program في جامعة يشيفا Yeshiva University ممول من مؤسسة العلوم الوطنية National Science Foundation بأمريكا. وهناك توصلت إلى معادلة حسابية للتنبؤ بمعدل نمو الخلايا السرطانية سواء في المزارع الخلوية أو في حيوانات التجارب، مما يدل ليس فقط على تفوقها العلمي بل أيضاً على عقليتها المبتكرة في هذا العمر الصغير الأمر الذي ظهر على أرض الواقع فيما بعد في قدرتها على تسجيل خمسة ابتكارات تحول أحدهم إلى تطبيق يخدم ملايين من مرضى العيون في العالم حتى قيام الساعة.. 

وبعد الانتهاء من الثانوية التحقت د. باث عام 1964 بكلية العلوم Hunter College تخصص كيمياء وفيزياء. ثم التحقت بعد ذلك بنفس العام بكلية الطب بجامعة هووارد Howard University بواشنطن والتي أنهت الدراسة بها بنجاح عام 1968. وبعد تخرجها تخصصت في طب العيون لتقضي الزمالة لمدة عام في هذا التخصص من 1069-1970 ثم أنهت تدريبها في هذا التخصص في عام 1973. وفي هذا الوقت اشتهرت باث بين زملائها حيث دأبت على شراء أجهزة جراحة العيون على نفقتها الخاصة لعلاج فقراء حي هارليم Harlem الفقير الذي ولدت فيه، حيث كانت الغالبية التي تقطنه من المواطنين السود. وقد كان لعملها التطوعي هذا أثر طيب وإيجابي في تخفيف الإصابة بمرض العمى لديهم. 

وفي عام 1974 انتقلت د. باث لمدينة لوس انجلوس على الساحل الغربي لأمريكا للتدريس في جامعة كاليفورنيا المعروفة حيث تفوقت هناك وازدادت عملا وكفاحا وتميزا جعلها قادرة أن تؤسس في 1976 هناك المعهد الأمريكي لمنع العمى. وفي ظل كل هذه النجاحات قامت بعد خمس سنوات من ذلك (عام 1981) باختراع جهاز Laserphaco Probe لعلاج مرضى الكاتراكت أو إعتام عدسة العين Cataract.

ويحدث إعتام عدسة العين Cataract بسبب تراكم البروتين الذي يحجب عدسة العين، مما قد يؤدي إلى عدم وضوح الرؤية والعمى في نهاية المطاف. وغالباً ما يُعتقد أن إعتام عدسة العين يؤثر فقط على كبار السن، لكن في البلدان النامية يمثل مشكلة كبيرة للأطفال أيضا. ومرض إعتام عدسة العين من الممكن أن يولد به الطفل، أو قد يتطور نتيجة لإصابات العين أو بعد جراحة العين لمشاكل أخرى. وعلى الرغم من أنه ليس من الصعب علاج إعتام عدسة العين، فمن الأهمية بمكان بالنسبة للأطفال أن يتم اكتشاف الحالة في الوقت المناسب حتى لا تتسبب في توقف العين عن النمو، مما يعني أنه لا يمكن استعادة البصر بشكل صحيح.

عند بداية عملها في مستشفى هارليم والتي معظم سكانها من الأمريكيين السود، لاحظت باث وجود تباين كبير في معدلات العمى بين مرضى الأغلبية السود في هارليم ومرضى الأغلبية البيضاء في مستشفى كولومبيا. وللتأكد من ذلك بأسلوب علمي رصين ولقياس هذه الظاهرة المهمة، أجرت د. باث دراسة وبائية Epidemiological Study على العديد من المرضى السود في مستشفى هارليم والمرضى البيض في مستشفى كولومبيا. وبالفعل وجدت باث أن معدل العمى بين السكان السود كان ضعف السكان البيض. وبناء على هذه النتائج التي توصلت إليها، أنشأت د. باث في 1976 تخصصاً جديداً في طب العيون، وهو طب العيون المجتمعي، الذي يوسع نطاق الرعاية للسكان المحرومين. كما شاركت في نفس العام في تأسيس المعهد الأمريكي للوقاية من العمى. 

وبذلك حققت باث ثلاث تحديات كبرى وهي دخول كلية الطب رغم أنها من أسرة بسيطة وذات أصول إفريقية الأمر الذي كان صعب المنال قبل خمسين عاما في أمريكا، ومازال. كما أنها تميزت في عملها كطبيبة وحققت نجاحات غير مسبوقة تفوقت فيها على زملائها من الأطباء، وأنشأت تخصص جديد ومعهد لمكافحة ودراسة العمى. ولتعزيز ما حققته قامت د. باث بنشر طب العيون المجتمعي من خلال السفر لإجراء العمليات الجراحية، وتدريب الأطباء على هذا التخصص، والتبرع، والعديد من الأنشطة الأخرى.

وانضمت د. باث إلى المركز الطبي بجامعة كاليفورنيا في عام 1974. وفي عام 1983 ، أصبحت رئيسة لبرنامج الأطباء المقيمين Residency Program في طب العيون. 

وفي الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت باث في البحث عن استخدام الليزر في علاجات العين، وفي عام 1988، حصلت على براءة اختراع عن تصميم واستخدامات جهاز Laserphaco Probe، وهو جهاز يزيل إعتام

عدسة العين والذي اعتبرته باث أهم إنجازاتها في الحياة، والذي تفتخر به كثيرا رغم أنها حصلت بعد ذلك على أربع براءات اختراع أمريكية وثلاثة في اليابان وكندا وأوروبا ليصل عدد البراءات التي  حصلت عليها إلى ثمانية. ويُذكر أن باث قامت بتأليف أكثر من 100 بحث علمي في مجال طب العيون المجتمعي. 

وعائليا، تركت د. باث ابنة هي إراكا وشقيقها روبرت وحفيدة تركت لهم اسم علمي كبير يفتخرون به وإرثاً وتاريخا علميا أفاد ليس فقط المرضى السود ولكن أفاد المرضى في العالم أجمع. 

 

وهكذا نرى أن التغلب على التحديات هو الطريق إلى النجاح العظيم ولو بعد حين. وهكذا نرى أيضا أن تحقيق النجاحات الشخصية قد يفيد العالم أجمع.

فلنعضد وندعم الناجحين والمتميزين لعلنا أو أبناءنا أو أحفادنا ننتفع يوما ما بنتائج علمهم. هذا ما تعلمناه من تاريخ العلم والعلماء وما زلنا نتعلم حتى نعلم الآخرين

 

المقال الأصلي المنشور عن د. باث:

 

البريد الإلكتروني للكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.comMohamed.labib@science.tanta.edu.eg 

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x