الفلك دوّار والزمن سيّار، وها نحن ذا تتردد في آذاننا العبارة الأسطورية (إنها خطوة صغيرة لرجل ولكنها قفزة كبرى للإنسانية)، وهي تلك الكلمات التي نطق بها رائد الفضاء الأمريكي المشهور نيل آرمسترونغ في مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة شمسية أو حوالي 52 سنة قمرية. كان ذلك في حدود الساعة الثالثة حسب التوقيت العالمي الموحد من يوم 20 يوليو من عام 1969م عندما خطى آرمسترونغ بأول خطوة لإنسان على أرض القمر منهياً بذلك الشوط الأهم في سباق الفضاء Space Race بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
بصورة حاسمة أثبت الأمريكان تفوق التقنية الغربية على منافسيها، ليس فقط بالوصول والهبوط مرة واحدة فقط على القمر ولكن بالوصول المتتالي لست مرات إلى أرض القمر التي درج ومرج على ثراها اثنا عشر رجل فضاء، وكان آخر من رفع قدمه منهم عن تراب القمر رائد الفضاء الأمريكي يوجين سيرنان بعد أن خط اسم ابنته تراسي على ثرى القمر وذلك في نهاية عام 1972 ميلادي.
يقال إن (الرابح يبقى وحيداً) وهذا ما حصل مع الأمريكان في سباق الفضاء، فقد انسحب الروس تماماً من المشهد. وعلى نفس النسق يقال (الفائز ينال كل شيء) وهذا ما حصل مرة أخرى مع رواد فضاء العم سام الأمريكي الذين حازوا التاريخ مع المجد، عندما فاز رجال الفضاء الزرق (الأمريكان) في الشوط النهائي والحاسم على رجال الفضاء الحمر (الروس). نسي التاريخ كل الأمجاد العظيمة والمذهلة التي حققها الروس في بواكير عصر الفضاء، فهم أول من أرسل قمر صناعي للفضاء (سبوتنك 1) وهم أول من أرسل رائد فضاء (جاجارين) وأول رائدة فضاء من النساء (تيريشكوفا).
كلنا نتوقع أن أول من وصل وهبط على سطح القمر هي مركبات الفضاء الأمريكية في عام 1969م وهذا خطأ تاريخي شائع فأول مركبة فضاء (غير مأهولة unscrewed mission) هبطت على القمر هي مركبة الفضاء السوفييتية لونا 2، وأول الصور الفوتوغرافية لسطح القمر تمت من خلال عدسات الكاميرات الروسية بواسطة مركبة الفضاء لونا 9. والأغرب من ذلك أن عينات التربة والصخور التي تم أخذها من سطح القمر ونقلها إلى الأرض لم تكن فقط من خلال رحلات برنامج الفضاء الشهير أبولو ولكن أيضاً عن طريق مركبة الفضاء الروسية لونا 16 التي هبطت على سطح القمر ثم أقلعت مرة أخرى بعد التحكم بها عن بعد.
الذاكرة التاريخية للبشر قصيرة وتميل للاختصار والاختزال، ولهذا أغلبنا توقف المشهد عنده لوصول البشر إلى القمر عند لحظة هبوط نيل ارمسترونغ وتم نسيان بقية الرواد الآخرين الذين انحدروا من بعده، وكما صعدوا على سلم المجد هبطوا في غياهب الغفلة وفقدان الذاكرة فقد تم نسيانهم كما حصل تماماً مع نسيان عشرات المركبات الفضائية التي هبطت على سطح القمر. لحظة هبوط أول انسان على سطح القمر تمت في شهر يوليو 1969م بينما أول هبوط ناجح لجهاز أو مركبة من صنع الانسان تم قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات كاملة حيث هبطت المركبة الفضائية الروسية لونا 2 عام 1959م في شهر سبتمبر بينما آخر محاولة حتى الآن للهبوط على سطح القمر تمت قبل عدة شهور عندما فشلت مركبة الفضاء الاسرائيلية بيراشت في منتصف شهر مارس الماضي من الهبوط بسلام على سطح القمر.
المحاولات العلمية الجادة (للوصول) للقمر بدأت قبل حوالي ستين سنة وبالتحديد في صيف عام 1958م وخلال هذا الزمن تم محاولة إرسال أكثر من ثمانين مركبة فضاء مستقلة إلى القمر. في بداية الأمر العشرات منها تحطمت لحظة الإقلاع ولاحقاً العشرات منها نجحت في تحقيق مهام بسيطة مثل المرور والتحليق flayby حول القمر أو الدوران حوله. بينما حققت 15 مركبة الهدف العلمي المنشود منها وهو (ويا للغرابة) مجرد الاصطدام بالقمر بينما لم تكن المركبة الأمريكية المسماة النسر (التي هبطت بأرمسترونغ وزميله باز ألدرين) هي الوحيدة التي هبطت بسلام على تخوم القمر وإنما تمكنت كذلك اثنا عشر مركبة فضائية أخرى في تحقيق هذا الخلود العلمي الكبير.
الجدير بالذكر أن مركبات الفضاء التي تدلّت ونزلت على أرض القمر ليست فقط من صنع التقنية الأمريكية والروسية المتقدمة، فقبل عدة سنوات نجح علماء الفضاء الصينيين في إنزال مركبة فضاء متحركة rover على سطح القمر كما نجحوا قبل عدة أشهر فقط في إنزال مركبة أخرى على الجانب المظلم والبعيد من سطح القمر. ويبدو أن الشعب الهندي على موعد قريب من تحقيق الفخر العلمي، فبعد أن تم قبل عشر سنوات ارسال مركبة الفضاء الهندية شاندرايان 1 التي اصطدمت بشكل متعمد impact على سطح القمر يتوقع هذه الأيام هبوط فعلي lunar landing لمركبة الفضاء الهندية شاندريان 2 على سطح القمر والتنقل عليه لإجراء التجارب العلمية القمرية.
حقاً وصدقاً لقد دار الفلك دورته وعاد سيرته، فكما انطلق قبل نصف قرن من الزمن سباق الفضاء بين الروس والأمريكان للوصول إلى القمر، نجد اليوم العديد من الدول تطلق كلا منها مركبات الفضاء الخاصة بها لتمخر بروج السماء ولتهبط على أديم القمر. وكما تمت الإشارة له سابقاً نجحت الصين قبل أشهر في انزال مركبة على سطح القمر بينما تحطم غير مأسوفاً عليه، مسابر الفضاء القمري الإسرائيلي، في حين أن مركبة الفضاء الهندية في طريقها الآن إلى القمر، وكذلك أعلنت وكالة الفضاء الروسية أنها تخطط لإرسال مركبة فضاء إلى القمر في نهاية هذه السنة. أما عن أخبار أسياد الفضاء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا فلم تنقطع مركباتهم الفضائية من الوصول إلى القمر وإن كان آخر مركبة أمريكية هي تلك التي قصف بها القمر عام 2013ميلادي.
في واقع الأمر الوصول للقمة (أو القمر) قد يكون سهلاً لكن البقاء على القمة هو الأصعب، ولهذا لم تحقق وكالة الفضاء الأمريكية ناسا وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن عندما أعلن في عام 2004م بأن الأمة الأمريكية على موعد مع التاريخ في عام 2019م عندما يتم إعادة إرسال رواد الفضاء الأمريكيان إلى أرض القمر مرة أخرى.
وفي الوقت الحالي يبدو أن سياسية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرتبكة على جميع الأصعدة، فبعد أن صرح قبل عدة أسابيع بحماسة لعودة الأمريكان إلى القمر حيث غرّد على تويتر قائلا (سنعود إلى القمر)، وإذا به بعد ذلك بثلاثة أسابيع فقط يهاجم وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ويسخّف من خططها للعودة للقمر ويطلب منها عوضاً عن ذلك أن تركز على التجهيز للرحلات إلى المريخ. وليس هذا فقط بل أذهل ترامب العالم بمعلوماته العلمية كما أذهله بتخبطه السياسي عندما قال في تغريدة له (إن القمر جزء من المريخ !!!).
القمر بعيد عن العين قريب من القلب
هذا صحيح فمنذ فجر الإنسانية تعلقت قلوب البشر بهذا الرفيق السماوي، ولهذا نُسجت عنه الأساطير وفُتن به الشعراء وشُغل به الفلاسفة وكَشف أسراره العلماء. في عماء الأساطير القديمة أُسندت للقمر قدسية سماوية سامقة فهو إما تمثيل للإلهة أو محل سكن وإقامة بعض ربات السماء مثل إلهة الصيد ديانا في الأساطير الرومانية، أو الإله المنير نانا إله القمر في الحضارة السومرية. وبسبب هذا السمو المكاني والروحي للقمر كان الصعود إليه مستحيلا untouchable إلا على الكائنات الروحانية الشفافة، وبسبب استحالة الوصول إلى القمر في المخيلة البشرية كان الهبوط أخيراً على القمر يعتبر أعظم إنجاز علمي بلا منازع في تاريخ البشرية.
الغريب في الأمر أنه فيما بحثت وفتشت لم أجد أي إشارة لخبر من خيال الإنسان القديم للوصول إلى القمر إلا ما ذكر عند شعوب الاسكيمو، فمن أساطيرهم أنه يمكن لأي شخص أن يسافر إلى القمر إذا اختارته الآلهة أن يصعد معها إلى القمر عبر زلاجة تجرها الكلاب. في واقع الأمر زخم تدفق الخيال والأحلام بالسفر إلى القمر لم يظهر إلا في القرون القريبة الماضية ومن ذلك أن الكاتب الإنجليزي فرانسيس قودوين ألّف في مطلع القرن السابع عشر قصة خيالية حملت عنوان (رجل في القمر) تدور حول رجل هارب وجد في جزيرة نوع كبير من طيور الإوز والتي ربطها بعربة وحلق بها لمدة اثني عشر يوماً حتى وصل إلى سطح القمر.
في نهاية القرن الثامن عشر بدأت تظهر القصص والأعمال الأدبية الأكثر منطقية وعقلانية في كيفية الوصول للقمر، فبدلاً من خرافات السفر عبر زلاجات الكلاب أو عربات طيور الإوز نجد أن الأديب الألماني رودولف راسبي ينشر روايته بالغة التشويق عن مغامرات البارون الألماني مانشهاوزن والتي من ضمنها محاولته الهرب عن طريق تصنيع منطاد كبير والذي حلق به عالياً في السماء حتى وصل إلى القمر لتبدأ مغامرة جديدة له هنالك مع ملك القمر الغضوب. الملفت للنظر أن الحبكة الروائية حول شخص هارب يفر إلى القمر تكررت مرة أخرى في منتصف القرن التاسع عشر عندما نشر الكاتب الأمريكي الشهير إدغار آلان بو قصة قصيرة عن قاتل يدعى هانس بافال حاول الهرب باستخدام نوع خاص من المناطيد والذي حلق به لمدة ثمانية عشر يوما حتى هبط به على سطح القمر.
كما هو متوقع فإن الخيال البشري للعديد من الكتاب والروائيين قادهم لتأليف عشرات القصص للسفر إلى القمر باستخدام وسائل سحرية مثل سفن شراعية أسطورية أو جسور وأنفاق غير مرئية أو حذاء سحري أو اختراعات علمية غريبة مثل نوع من المعادن أو الأصباغ المضادة للجاذبية أو نوع من المغناطيسات العجيبة. ومع ذلك تبقى الحبكة العلمية والأدبية الصحيحة هي أن تكون القصة أو الرواية قائمة على استخدام طاقة النار والاشتعال الكيميائي لتحقيق الرحلات القمرية إما في شكل مدفع عملاق أو على هيئة صواريخ الفضاء.
لعل أقدم وأهم قصة خيالية في هذا النسق يمكن تتبعها إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما قام الأديب الفرنسي البارز جول فيرن (صاحب رواية: حول العالم في ثمانين يوما) بنشر روايته بالغة التأثير في ولادة أدب الخيال العلمي، ألا وهي القصة التي حملت عنوان (من الأرض إلى القمر). الغريب في أمر هذه القصة أنه بالرغم من أن مؤلفها روائي فرنسي إلا أنها بالغة الارتباط بالتاريخ الأمريكي فهي قد نشرت في عام 1865 أي في نفس سنة نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وهي بالتالي في جزء من حبكتها تستند إلى هذه الحرب حيث أن أحداث الرواية تدور في مدينة بالتيمور.
القصة تدور عن ثلاثة رجال من أمريكا يقمون بمغامرة جريئة وخطيرة للسفر إلى القمر وهو ما سوف يحصل تقريباً بعد مائة عام بوصول آرمسترونغ وزميليه إلى مدار القمر. الاختلاف الجوهري ما بين الرحلة الخيالية والرحلة الحقيقة أن انطلاق المغامرين الثلاثة القدماء كان عبر استخدام مدفع ضخم بينما تم في رحلة الفضاء الحقيقة نقل رواد الفضاء عبر صاروخ ضخم جدا يدعى ساترون 5.
وما ينبغي الإشارة له هنا أن كل من جاء بعد جول فيرن (مثل كتّاب روايات الخيال العلمي الكبار مثل إسحاق عظيموف وآرثر كلارك) تأثر به بشكل كبير فيما يتعلق بمزج الإبداع الأدبي بخيال الرحلات العلمية إلى القمر وبقية الكواكب. بل اننا نجد في الرواية الشهيرة (أوائل الرجال على القمر) عن استشراف المستقبل لرائد روايات الخيال العلمي الكاتب الانجليزي المعروف هربرت جورج ويلز (صاحب روايات آلة الزمن والرجل الخفي)، نجد أن بطلي الرواية رجل الاعمال السيد بيدفورد والعالم السيد كارفور يتناقشان عن مدى احتمالية السفر إلى القمر بالاستناد إلى تفاصيل رواية جول فيرن السابقة الذكر.
الأغرب من ذلك أن ذكر رواية جول فيرن والإشادة بها من قبل رواد الفضاء وهم في مركبة الفضاء الصاروخية حصل في الخيال وفي الحقيقة. أما في الخيال فهو ما سبق ذكره من الحوار بين أبطال رواية (أوائل الرجال على القمر) أما في الحقيقة فهو ما حصل مع طاقم رحلة ابولو 11 رائد الفضاء آرمسترونغ وزميليه حيث أنهم في رحلة العودة من السفر من القمر قاموا بإرسال بث تلفزيوني في يوم 23 يوليو تحدثوا فيه عن رحلتهم التاريخية الكبرى وكيف أنها تأتي بعد حوالي مائة سنة من نشر رواية (من الأرض إلى القمر) وكيف أن جول فيرن تخيل سفينة فضاء تدعى كولومبيا أطلقت من فلوريد ثم سقطت في رحلة العودة في المحيط الهادئ وهو ما سوف يحدث مع سفينة الوقت الحالي كولومبيا الجديدة التي هم فيها والتي سوف تلتقي مع الارض يوم غد (24 يوليو 1969م) في المحيط الهادئ.
يشتهر عن أدباء الخيال العلمي قدرتهم العجيبة على (استشراف المستقبل) وهذا ما حصل مع الفرنسي جول فيرن والانجليزي هـ. ج. ويلز فرواياتهم زاخرة بتوقع المخترعات العلمية التي لم تظهر بعد في زمانهم من مثل الطائرات والغواصات والصواريخ والدبابات والليزر والتلفزيون، وما يهمنا هنا هو ما توقعه الروائي البريطاني المثير للاهتمام أرثر كلارك في روايته (اوديسة الفضاء 2001).
ظهرت هذه الرواية الرائعة والفلم المصاحب لها في عام 1968م أي قبل سنة واحدة فقط من هبوط البشر على سطح القمر وهي وإن كانت تتحدث عن القمر ووجود مسلة غريبة مدفونة تحت سطح القمر منذ ملايين السنين إلا ما يهمنا في الواقع هو بداية الراوية حيث يتم وصف الرحلة الفضائية الخاصة التي سوف يقوم بها بطل الرواية الدكتور فلويد على متن مركبة فضاء مخصصة للرحلات السياحية للفضاء وزيارة القمر تتسع لعشرين راكب. في الوقت الحالي مفهوم (سياحة الفضاء) هو واقع حقيقي وليس خيال علمي محض فمنذ عام 2001م تم بدء قص التذاكر وبطاقات الصعود (boarding pass) لسياح الفضاء، لكن تبقى (القفزة الكبرى الثانية إلى القمر) والمتمثلة في إرسال سياح في نهاية المطاف إلى محطة القمر destination moon وهذا بالمناسبة اسم لفلم ورواية أدبية شهيرة.
قبل حوالي سنتين أعلن رجل الأعمال المشهور إليون مسك صاحب شركة مركبات الفضاء العملاقة SpaceX أنه سوف يتم إرسال سياح إلى القمر في حدود مطلع هذه السنة وذلك بعد أن دفع هؤلاء السياح جزء من قيمة تذكرة السفر الباهظة التكاليف والتي تبلغ 70 مليون دولار أمريكي. الأمر الصادم أن هذا المبلغ الضخم هو فقط لرحلة سياحية تشمل (لفه حول القمر) أي بمعنى الدوران حول سماء القمر دون الهبوط عليه لأن إنجاز مثل هذا الأمر يحتاج إلى مبالغ مالية إضافية طائلة تصل لخانة مئات الملايين من الدولارات التي يجب أن يدفعها كل سائح قمري. وبكشف الحساب المالي هذا أجدني اكرر إعجابي ببعد نظر كتاب روايات أدب الخيال العلمي واستشرافهم للمستقبل ومن ضمنهم الكاتب السوري المعاصر الدكتور طالب عمران (رئيس رابطة كتّاب الخيال العلمي العرب) الذي نبهنا منذ سنوات أنه لن يصل ويهبط على القمر إلا أغنى الأغنياء، ولهذا أعتقد أنه نجح ووفق في اختيار عنوان روايته الشيقة (ليس في القمر فقراء).
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com