ودعت الأسرة العلمية في تونس في الخامس من شهر فبراير الماضي 2019 أحد أعلامها البارزين في مجال الفيزياء وهو البروفسور رؤوف بالناصر أستاذ الفيزياء في كلية العلوم وأحد رواد الطاقات المتجددة في تونس.
ولد رؤوف بالناصر في الثامن من أبريل من عام 1945 في مدينة قفصة جنوب تونس، وهناك أتم دراسته الابتدائية قبل أن يلتحق بالمعهد التقني بتونس حيث برزت ميوله العلمية وأظهر شغفًا بالرياضيات والفيزياء. في عام 1964، أهّله حصوله على البكالوريا (شهادة ختم الدراسة الثانوية) بامتياز للحصول على منحة دراسية للدراسة بالاتحاد السوفييتي السابق ضمن البعثة الطلابية التونسية الأولى إلى موسكو. في ذلك الوقت، كان يتم توجيه معظم الطلاب القادمين من أفريقيا إلى جامعة باتريس لومومبا، لكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة للشاب رؤوف الذي تم اكتشاف نبوغه خلال السنة الأولى التي تخصص لتعلم اللغة الروسية، فسُمح له بالتسجيل في أفضل جامعة سوفيتية في ذلك الوقت وهي جامعة موسكو الحالية حيث درس على يد العديد من العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء، وهناك التقى المرأة التي صارت زوجته ورفيقة دربه لما يقارب الخمسة عقود ميري تيبيفسكا.
بعد حصوله على درجة الماجستير في الفيزياء والرياضيات من جامعة موسكو في عام 1970، حول رؤوف بالناصر وجهته نحو فرنسا حيث انتسب لجامعة باريس 6 وعمل مع أسماء كبيرة في فيزياء الجسيمات. وحصل عام 1975 على درجة الدكتوراه في الفيزياء بعد إعداد رسالة تحت عنوان: "دراسة انتشار الموجات الكهرومغناطيسية في الوسائط غير المتجانسة: تطبيق لتحديد النواقل الحرة في السيليكون المزروع بالفوسفور". وقد وصف مدير المختبر في باريس 6 (البروفيسور بلكانسكي) عمله بأنه أساسي في ذلك الوقت ويمهد الطريق لجائزة نوبل في الفيزياء.
عاد بالناصر في وقد لاحق من ذلك العام إلى وطنه ليلتحق بكلية العلوم بتونس محاضراً وأستاذاً للفيزياء. وقد دفعه شغفه بالتدريس إلى تدريس العديد من المواد كالكهرومغناطيسية والنسبية ونظرية المجال الكمومي الإحصائية والفيزياء الإحصائية وفيزياء الموجات والاهتزازات. كما قام بتدريس الرياضيات للمهندسين في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس. وفي عام 2014، تم تعيينه أستاذاً فخرياً في كلية العلوم بتونس. الإضافة إلى التدريس، أشرف بالناصر على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في تونس وفي فرنسا في مجالات متنوعة ومتطورة مثل الرنين المغناطيسي، والموصلات الفائقة وشبه الموصلات.
أما في مجال البحث العلمي، فيعتبر رؤوف بالناصر من الآباء المؤسسين لمجال الطاقات المتجددة. فقد قاده شغفه بالبحث والابتكار إلى مواجهة تحدٍ كبير في نهاية الثمانينيات بعد أن عهد إليه تطوير القطب التكنولوجي ببرج السدرية (في ضواحي مدينة تونس) ليحتضن أول مركز في إفريقيا والعالم العربي مخصص للبحث في مجال الطاقات المبتكرة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وبفضل جهوده تطور المركز ليشمل اليوم 5 مختبرات تعمل في مجالات متنوعة مثل النانو تكنولوجيا، وأشباه الموصلات، والطاقة الضوئية، والطاقة الشمسية الحرارية وطاقة الرياح. وعن ذلك يقول بعض زملاءه الذي عملوا معه إن بالناصر كان قوة دافعة لتطوير تقنيات مبتكرة لتصنيع وتوصيف الأجيال الجديدة من الخلايا الضوئية إلى حد أنه أصبح خبيراً فيها. كما كان له الفضل في تشجيع عدد كبير من الباحثين على العمل في هذا المجال مما مكّن من انتاج عدد كبير من رسائل الدكتوراه والأوراق العلمية في هذا الحقل الجديد. وتقديراً لجهوده منحه المؤتمر العالمي للطاقة المتجددة في عام 1996 جائزة التميز في مجال "الطاقة المتجددة الرائدة".
كما أنشأ رؤوف بالناصر وأدار هياكل بحثية في الجامعة التونسية، مثل مختبر فيزياء المواد المكثفة التابع لكلية العلوم بتونس، والذي تم إنشاؤه عام 1999 من خلال دمج العديد من فرق البحث في مجال الفيزياء. وعين على رأس المعهد الوطني للبحوث العلمية والتقنية بين عامي 2000 و2006، حيث طوّر العديد من الشراكات مع المعاهد الأجنبية. وقد تجاوز عدد الورقات العلمية التي نُشرت للبروفسور طوال مسيرته البحثية المائتين ورقة. وقد مكنه صيته العلمي الواسع من تعيينه كمستشار علمي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعضوية مجالس إدارة العديد من المنظمات والهيئات الدولية والوطنية كالوكالة الوطنية للطاقات المتجددة والمركز الوطني للعلوم والتقنيات النووية. أما في مجال النشاط الجمعياتي فقد كان الراحل عضواً دائماً في الجمعية الأمريكية للفيزياء وعضواً مؤسساً ورئيساً للجمعية التونسية للفيزياء، وعضواً شرفياً في الجمعية التونسية لعلوم الفلك وعضواً مراسلاً في العلوم الفيزيائية للأكاديمية التونسية للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة).
يُجمع كل من عرف البروفيسور رؤوف بالناصر على أنه لم يكن فقط قامة علمية سامقة تركت بصمة واضحة في مجال الفيزياء في تونس بل كذلك قامة أخلاقية وإنسانية بتواضعه ولطفه مع الجميع واستعداده الدائم لمساعدة الآخرين، لذلك كان موضع تقدير واحترام من زملائه في التدريس والبحث ومن طلابه.
رحم الله الأستاذ رؤوف بالناصر وجعل كل ذلك في ميزان حسناته.. آمين
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com