بلغت عظمة الاكتشافات العلمية مرتبة متقدمة جداً فى عصرنا الراهن، وقطعت تكنولوجيا العلم شوطاً بعيداً فى كل ميدان، وأدّى التقدم فى علوم البيولوجيا بصفة عامة، وعلوم الهندسة الوراثية بصفة خاصة إلى تقدم هائل فى مختلف العلوم البيولوجية، وشكّل ما يعرف باسم "الثورة البيولوجية". وفي الفترة الحالية، لا يكاد يمر يوم دون أن تتصدر منجزات "الثورة البيولوجية" وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ووسائل التواصل الإجتماعي. ومما لا شك فيه أن هذه الثورة العلمية الحديثة تستحق كل هذا الاهتمام الإعلامي، لأنها ثورة تهتم بالإنسان وصحته وعلاجه وغذائه ودوائه، وتكاد تمس جميع أوجه حياته ومستقبله.
وبحسب العلماء، تشكّل الثورة البيولوجية المعاصرة الخطوة المقبلة للثورة التقنية، وهناك العديد من الآفاق اللامتناهية، التي تفتحها هذه الثورة الحديثة أمام الحضارة البشرية. ومن المعروف أن التقنية هي حاضنة الابتكار، وهي الجسر الذي يربط بين الخيال والقدرات العقلية اللامحدودة للإبداع البشري، ولقد تسارعت التطورات التقنية والعلمية خلال العقد الحالي بشكل فريد، ويعيش العالم اليوم عصر التغيير المطرد الذي تعمل التقنية فيه على تغيير جوهر حياة البشر.
تسعى هذه الثورة إلى فك أسرار الشيفرة الوراثية، واستغلال كنوزها المعرفية بطريقة حديثة لم تخطر على قلب بشر من قبل. ويمكن للبشر حالياً أن يتحكموا فى جنس الجنين، ومن المتوقع أن يصبح في استطاعتهم إختيار صفات الجنين مستقبلاً من صفات كثيرة يختارها الأبوان بمحض إرادتهما لإكسابهم صفات «حسب الطلب».
لكن الإنجاز الأكبر فى ميدان البيولوجيا والطب الحديث يتمثل فى ابتكار وسائل جديدة من شأنها معالجة الأمراض الخطيرة والحالات المستعصية عن طريق العلاج الجيني، ومن المتوقع أن هذه التقنيات الحيوية الحديثة ستتمكن في المستقبل القريب من علاج الأمراض والإصابات، وتستحدث أساليب تقنية جديدة لعلاج العديد من الأمراض المستعصية.
كما تحاول هذه الثورة التقنية البيولوجية سبر أغوار العديد من الكائنات الحية الأخرى، وتحافظ على الكائنات الحية من الانقراض، وإيقاظ كائنات ما قبل التاريخ، وتقوم بالتعديل الوراثي للكائنات الحية بحيث تؤدي العديد من الوظائف الجديدة، وتعطي أعلى إنتاجية في أسرع وقت ممكن.
ونجحت التكنولوجيا الحيوية بالفعل في تعزيز المناعة إزاء تشكيلة واسعة من الإجهادات البيئية مثل تعزيز مقاومة المحاصيل للظروف المناخية القاسية، مثل الصقيع، أو الحرارة الشديدة، أو الملوحة أو الجفاف، ونقص المياه. كما تقدم التقنيات الحيوية فرصة ذهبية لترشيد استهلاك المياه عن طريق استخدام طرق حيوية فعّالة لتحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة عن طريق استخدام الكائنات الدقيقة لمساعدة النبات للتغلب على ندرة المياه وبالطبع أثارت هذه الثورة الحديثة العديد من المشكلات المجتمعية، والأخلاقية، والدينية، ولكن تبقى هناك محصلة نهائية تتمثل فى أننا أصبحنا اليوم نعيش في ظلال الثورة البيولوجية، وأن قطار التقنيات الحيوية الحديثة قد إنطلق بأقصى سرعة، ولن يستطيع أحد إيقافه.
يضم هذا الكتاب بين دفتيه معظم المقالات التي نشرت على موقع منظمة المجتمع العلمي العربي، الذي أتاح المجال لعرض أحدث البحوث العلمية للقاريء العربي، وكتبت فيه عن أهم الثورات التقنية في هذا المجال، كما تابعت كل جديد في هذه التقنية المتسارعة، وكتبت عنها في العديد من المجلات العربية، والمواقع الإليكترونية، وترجمت أهم منجزاتها بشكل إسبوعي لدورية "نيتشر" الطبعة العربية، وهي من أهم المطبوعات التي تتابع أحدث العلوم والمنجزات التقنية والبحثية، وكنت حريصاً على تبصير القارىء العادي الغير متخصص والمحب للعلوم على أحدث التقنيات التي أثارتها وتثيرها هذه العلوم في توقيتها من خلال مجموعة من المقالات التي تغطي العديد من المستحدثات في هذه العلوم لفترة طويلة ولم تنتهي هذه المساهمات حتى باتت موجودة بشكل يومي مؤخراً على صفحاتي الإليكترونية فى جميع وسائل التواصل الإجتماعي المتاحة، حيث أتابع معظم هذه القضايا العلمية، وأعلق عليها، وعلى ما يستجد فيها وعلى تأثيراتها الآنية والمستقبلية.
وفي هذا الإصدار من إضاءات نأخذكم في رحلة داخل حمم بركان هذه الثورة، ونلقي نظرة على مستقبل العلم والتقنية، وما يمكن أن تحدثه هذه الاختراقات التقنية من تحول في حياة البشر.
- للذهاب إلى ملف إضاءات، إضغط هنا
البريد الالكتروني للكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg