مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

تسمية عناصر الجدول الدوري… بين اللغة والتاريخ

الكاتب

الكاتب : أ. د/ أحمد بن حامد الغامدي

جامعة الملك سعود - الرياض

الوقت

01:35 مساءً

تاريخ النشر

09, يناير 2019

أُشتهر عن عالم الفلك الأمريكي البارز كارل ساجان قوله: أنه لو حصل دمار شامل لكوكب الأرض وطُلب منه قبل أن يغادر الأرض لكوكب جديد أن يأخذ معه معلومة أو نظرية علمية واحدة فقط ليُنشِأ بها حضارة جديدة، لكانت تلك معلومة هي (الجدول الدوري للعناصر الكيميائية). وبحكم مركزية مفهوم ترتيب العناصر الكيميائية على شكل جدول دوري وأثرها البارز في تطور العلم والتقنية الحديثة، فلا عجب أن توافق الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو على جعل هذه السنة 2019 هي: السنة الدولية للجدول الدوري للعناصر الكيميائية (IYPT2019).

اتخذت الأمم المتحدة قرارها هذا بناءً على دور الإنجازات الكبيرة للجدول الدوري للعناصر من خلال علم الكيمياء في توفير الحلول العلمية للتحديات العالمية في مجالات الطاقة والتعليم والزراعة والصحة وتعزيز التنمية المستدامة. السبب في اختيار هذا العام بالذات للاحتفال بالجدول الدوري للعناصر الكيميائية أنه يتوافق مع مرور 150 عاماً على اكتشاف الجدول الدوري Periodic Table من قِبل العالم الروسي الشهير ديمتري مندلييف، وكذلك مرور 350 عاماً على اكتشاف أول عنصر كيميائي وهو عنصر “الفسفور” على يد العالم الألماني هينيغ براند وهو بذلك أول عنصر كيميائي من عناصر الجدول الدوري البالغة 118 عنصراً نعرف بشكل تقريب قصة اكتشافه.

تجدر الإشارة إلى أنه تم تخصيص عام 2011م بكونه: السنة الدولية للكيمياء (International Year of Chemistry 2011) وفي تلك السنة ساهم الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة و التطبيقية (IUPAC) بشكل أساسي في تنظيم الاحتفالات والأنشطة العلمية المتعلقة بعلم الكيمياء ودورها في خدمة البشرية. ومما ساهم في تعزيز تكريم علم الكيمياء مرة ثانية هذه السنة أنه في هذا العام 2019م يتوافق مع مرور 100 سنة على إنشاء منظمة الايوباك الكيميائية ذلك الصرح العلمي البالغ الأهمية. في مسرحية روميو وجوليت يتساءل شكسبير بتعجب: ماذا في الاسم What’s in a Name? ، فالوردة ستكون وردة بأي اسم سميتها؟ قد يكون هذا سائغاً في عالم الأدب والفن والجمال ولكن الحال قد يختلف في دنيا العلوم. لا شك أن الاسماء العلمية والمصطلحات التقنية تحمل مدلولات محددة وشبه منضبطة، وبما أننا في سياق الحديث عن الاحتفال والتقدير للجدول الدوري للعناصر الكيميائية، فهل يحق لنا أن نتساءل عن التنوع الغريب والكثيف لأسماء العناصر الكيميائية ولهذا نقول بكل براءة (ماذا في الاسم؟).

فيما مضى كان شرف تسمية عناصر الجدول الدوري يمنح للشخص الذي اكتشف أو حضّر ذلك العنصر، ولكن في العقود الزمنية الأخيرة أنيطت مهمة اعتماد أسماء ورموز العناصر الكيميائية الجديدة للجان مختصة في الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية (الأيوباك). ولقد كان دور منظمة الأيوباك حاسماً في تسمية العناصر الجديدة التي تحمل العدد الذري الأكثر من مائة، وكانت أهمية هذا الدور ناتجة من حسم مادة النزاع الناشئة بين عدد من المعاهد والهيئات العلمية في عدد من البلدان والتي أخذت تتنازع فيما بينها بادعاء شرف الأسبقية في اكتشاف أو تحضير بعض العناصر الذرية الجديدة، ومن ثمّ المطالبة بأحقية تسميته. للوهلة الأولى قد يبدو أن تدخل منظمة الأيوباك إيجابياً وذلك لنزع فتيل معركة الأسماء تلك، لكن في المقابل سوف نخسر مصدراً فريداً للتشويق والإثارة الكيميائية التي تصحب في العادة اقتراح التسميات الممتعة والشيقة للعناصر الجديدة. في سالف العصور كانت تسمية العناصر الكيميائية تتم على يد المكتشفين والعلماء المختلفي الثقافات والحضارات والجنسيات وهذا هو سر التشويق الاستكشافي المعرفي لسبر أغوار مدلولات ومغزى هذه التسميات، والخلفية التاريخية لهذه الغابة من الأسماء الكيميائية المتباينة والتي انعكست في ثناياها ثقافات تلك الشعوب. ولا يخفى أن موضوع تسمية العناصر موضوع غاية في التشويق منذ البدايات الضبابية الأولى لعلم السيمياء القديم، و تسهيلاً لتتبع أسباب وأساليب التسمية الكيميائية للعناصر الذرية قمتُ بتقسيم عملية تسمية هذه العناصر وفق المحطات أو المراحل المميزة التي تشكلت بالتوالي و التتابع عبر الزمن ويمكن تخليصها كالتالي:

المرحلة المجهولة

وهي متعلقة بالعناصر الكيميائية القديمة التي عرفتها البشرية منذ آلاف السنين حيث لا يعرف على وجه الدقة من هو أول مَنْ اكتشف وتعرف على هذه العناصر ومتى كان ذلك وفي أي بلد؟ نتج عن ذلك بالتبعية أنه لا يُعرف بالتحديد أسباب تسمية بعض تلك العناصر كما هي الحال مع أسماء عناصر الكبريت والرصاص والقصدير والزنك والزئبق. في الواقع هناك أنواع أخرى من العناصر القديمة التي توجد إشارات معقولة ومقبولة لسبب تسميتها مثل عنصر الكربون المشتق من الكلمة اللاتينية Carbo بمعنى (الفحم) وعنصر النحاس Copper الذي يرجح أنه مأخوذ من الاسم اللاتيني لجزيرة قبرص Cyprus التي كانت المصدر الرئيس لمناجم النحاس.

المرحلة التقليدية

منذ ما يقارب الألف سنة من الآن بدأت عناصر كيميائية جديدة تُكتشف وتظهر للوجود، ونظراً لأن تلك الفترة الزمنية تطابق فترة الحضارة الإسلامية الزاهرة  لذا فالعديد من المصادر و المراجع العلمية (حتى الأوروبية منها) التي تُعنى بتطور تاريخ الكيمياء ترجّح نسبة تسمية بعض هذه العناصر  المكتشفة في تلك الفترة لأصول عربية مثل اسم عنصر الزرنيخ المأخوذ من الكلمة العربية (الزرنيك) وهو المركب المعروف عند الكيميائيين العرب بالرهج الأصفر. وبصورة مشابهة نجد أن عنصر البورون B مشتق من كلمة البوراق العربية أو مركب Borax كما نعرفه اليوم، والبعض يذكر أيضاً أن عناصر أخرى مثل الانتموني Sb وهو قد يكون تحريف لكلمة الإثمد و الزنك Zn قد تكون أسماؤها مشتقة أيضاً من أصول عربية.

لكن منذ القرن الثامن عشر الميلادي بدأ عصر الكيمياء الغربية يبرز بقوة وطفرة علمية جليّة ولكنه استمر في البداية على نفس النسق السائد في التسمية للعناصر الجديدة بأن يكون اسم العنصر (في الغالب) مشتق من اسم المادة والمركب الكيميائي (المعدن أو الصخر أو الخام) الذي استخلص منها العنصر الجديد. وأوضح مثال على ذلك أن عنصر البوتاسيوم K سُمي كذلك لاستخلاصه من مركب البوتاس، كما أن عنصر الصوديوم Na مستخلص أولاً  من مادة الصودا  والكالسيوم Ca من مركب الكلس وهكذا. في بعض الأحيان لا تتم التسمية باسم المادة الخام وإنما باسم المنطقة والمدينة التي وجدت بها تلك المادة الخام أو المركب، فمثلاً عنصر السترونشيوم Sr سُمي كذلك لأن مادته الخام استخلصت من منجم في مدينة اسكتلوندية تحمل نفس الاسم، وعنصر المجنيسيوم Mg سُمي نسبة لمقاطعة مجنيسيا في اليونان. بل إن بعض هذه العناصر منسوب لأجرام سماوية مثل بعض النيازك التي سقطت على الأرض وحُلّلت واكتشف فيها عناصر جديدة ومن أمثلة ذلك عنصر السيريوم Ce المسمى على اسم النيزك Ceres. الطريف في الأمر أن عنصر السيلينيوم Se تم تسميته نسبه للقمر وذلك ليس لأنه يوجد على سطح القمر ولكن لأن لون هذا العنصر هو اللون الفضي القريب من لون سطح القمر الفضي.

المرحلة الأدبية والجمالية

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وباكتشاف العناصر الغازية مثل الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين تبين للعلماء أن الطريقة والأسلوب التقليدي المبسط المتبع في تسمية العناصر (باسم المادة التي استخلص منها أو اسم المنقطة التي وجد بها) ليست مُجدية، فمثلاً غاز الهيدروجين H ليس له مادة خام يوجد فيها كما أنه موجود في الهواء فليس له بلد أو منطقة معينة ينسب لها. في الواقع سنجد أن الطريقة الجديدة في التسمية قائمة مرة أخرى على استخدام اللغة اللاتينية (لغة العلوم في تلك العصور) حيث تعكس هذه التسمية خواصاً أو حدثاً أو سلوكاً مرتبطاً بهذه العناصر المكتشفة حديثاً. وبمعرفة أن لفظة Gene (Genos) تعني في اللاتينية المُنتِج أو المُكوِن وبهذا نعلم أن اسم عنصر الهيدروجين يكون (منتج الماء) وعنصر الأوكسجين (منتج الحمض) وعنصر النتروجين (منتج النيتر nitre)  وهو الملح الصخري  KNO3حيث لوحظ منذ تلك الفترة ارتباط هذه العناصر الغازية بهذه المواد.

الجدير بالذكر أنه ابتداءً من نفس هذه الفترة الزمنية اكتسبت تسمية بعض العناصر الكيميائية بعداً وأسلوباً أدبياً ذا لمسة شاعرية رائعة، حيث تم تسمية العديد من العناصر الجديدة بأسماء لاتينية تحمل صفات العنصر الظاهرية وبالخصوص لون فلزات ومركبات هذا العنصر، أو لون العنصر نفسه عندما يحرق في اللهب. أقدم عنصر مسمى بهذه الطريقة اللطيفة هو عنصر الكلور Cl الذي يعني اللون (الأصفر المخضر) تلاه من الناحية التاريخية عنصر الكروم Cr الذي يعني اسمه باليونانية (اللون) نظراً للجمال الأخاذ لأملاحه ومركباته، وبنفس النسق نجد أن اسم عنصر اليود I يعني اللون (البنفسجي) وعنصر الروديوم Rh يعني اللون (الأحمر العنابي) والسيزيوم  Csبمعنى (الأزرق السماوي) أما عنصر الأريديوم Ir  فنظراً لجماله فإن اسمه يعني (ألوان قوس قزح) وأخيراً اسم عنصر الزركونيوم Zr يعني باللغة الفارسية (لون الذهب).

حاسة الشم كان لها نصيب أيضاً كطريقة لتسمية بعض العناصر ذات الرائحة المميزة، حيث أن معنى عنصر الأوزميوم Os يعني باللاتينية (الرائحة) في حين أن عنصر البروم Br مدلول اسمه يعني (الرائحة النتنة). الخطوة التاريخية التالية في إدخال عنصر التشويق والجمال في عملية تسمية العناصر تمثلت بإعطاء أسماء خفيفة الظل وبعيدة عن الطريقة التقليدية الباهتة التي سبق بيانها خلال الحديث عن المرحلة التقليدية (وإن كانت ما زالت تستخدم في بعض الأحيان).

الأسلوب الجديد في التسمية البعيد عن الرتابة والجدّية المتزمتة قائم على توظيف الظروف والملابسات المصاحبة لاكتشاف واستخلاص العناصر الجديدة، وعلى سبل المثال، يعتبر عنصر الفوسفور P من أقدم العناصر اكتشافاً والذي وجد أنه يشع  بضوء جميل في الظلام إذا تعرض للهواء ولذلك سمي بـ (حامل الضوء) وكذلك عنصر الفلور F يعني (المُتلف أو المُهلك) في حين أن عنصري اللانثيوم La والكريبتون Kr  كلا منهما يعني (المختفي) لصعوبة التعرف عليهما والكشف عنهما. أما عنصر الأرجون Ar فيعني الشيء (الخامل) لأنه كما هو معلوم – لا يتفاعل كيميائياً – وعلى النقيض منه تماماً عنصر الاستاتين At الذي يعني (غير الثبات وغير المستقر) بسبب شدة تفاعله الكيميائي وبسبب تفككه ونشاطه الإشعاعي السريع. وبمناسبة ذكر الإشعاعات فإن عنصر الراديوم Ra يعني (المشع) كما هو متوقع. ومن التسميات الواضحة كذلك فإن عنصر تكنيتيوم Tc مسمى على اسم التقنية (التكنولوجيا) لأنه أول عنصر ينتج بشكل اصطناعي وتقني غير طبيعي. وفي مقابل ذلك توجد بعض التسميات غير سهلة الإدراك، منها على سبيل التشبية عنصر الزينون Xe الذي يعني اسمه الشيء (الغريب).

وبما أن سيرة الغرابة قد فُتحت، فيجدر الإشارة إلى بعض أسماء العناصر الغريبة و الطريفة التي وجدت في منتصف القرن الثامن عشر والتي نجدها تعكس صورة الفهم العلمي للتفاعلات الكيميائية في ذلك الزمن، فمثلاً نجد أن اسم عنصر النيكل Ni  هو اختصار لكلمة ألمانية تعني (شيطان النحاس) وبنفس الأسلوب الغرائبي فإن اسم الكوبلت Co مسمى على اسم عفريت يدعى Kobald والسبب في إطلاق هاتين التسميتين المرعبتين هو الاعتقاد القديم والخاطئ الذي يؤمن بأن هنالك أرواحاً شريرة تسكن بعض خامات المعادن ومن ثمّ تحول دون إمكانية استخلاص معدني النحاس أو الفضة منهما. وبصورة مشابهة  في تأثير الموروث الخرافي فإن رمز عنصر التنجستن W الشهير وهو مأخوذ أيضا من الكلمة الألمانية Wolfram التي هي بمعنى (وسخ الذئب) لأنه بحسب اعتقاد عمال المناجم أن وجود خام معدن التنجستن في صخور المنجم يحول دون استخلاص عنصر القصدير من خاماته ولهذا كان تشبيههم أن خام التنجستن قد أفترس معدن القصدير كما يفترس الذئب الغنم.

من الملاحظ أنه بعد عصر النهضة أخذ الفكر الغربي ينسلخ شيئاً فشيئاً عن الفكر الكنسي المسيحي، ومن ثمّ ظهرت تيارات واتجاهات أدبية وفكرية (بل حتى علمية تجريبية بحتة) أخذت تستعيد توظيف وبعث مورثها الإغريقي  اليوناني القديم. لذا لم يكن مستغرباً  منذ نهاية القرن الثامن عشر أن يتجه بعض العلماء والباحثين  إلى اشتقاق أسماء لبعض عناصر الجدول الدوري مستلهمة من وحي الأساطير اليونانية ولعل من أول العناصر التي سُمّيت بشكل واضح استناداً على الميثولوجيا اليونانية عنصر التيتانيوم Ti من اسم الإله Titan وهو ابن ربة الأرض عند الإغريق، ثم تلاه وفق التسلسل التاريخي عنصر الفانيديوم V ذو المركبات الكيميائية الجميلة ولذلك سمي على اسم Vanodis آلهة الجمال والحب، وكذلك عنصر الثوريوم Th  المسمى على آلهة الرعد والحرب Thor، وعليه من السهل ان نستشف أن عناصر البلوتونيوم واليورانيوم والنبتونيوم هي بكل بساطة مسماه علي الآلهة الإغريقية الشهيرة بلوتو وأورانوس ونبتون. وكما هو معلوم، الأساطير اليونانية ليست مقتصرة على الآلهة بل توجد بها الشخصيات البشرية أو الأبطال كما يصفونهم ومن ذلك نجد أن تسمية عنصر البرومثيوم مشتقة من اسم Prometheus تلك الشخصية التي تزعم الأساطير الإغريقية أنها سرقت النار من الآلهة وأعطتها بني البشر، ولهذا استحقت التكريم بإطلاق اسمها على أحد العناصر الذرية.

وفي بعض الحالات نجد أن انتقاء تسمية بعض العناصر الكيميائية اعتماداً على الأساطير اليونانية يعكس حسن الاستعارة الأدبية والتاريخية، فمثلاً العنصر تانتاليوم Ta سمي على اسم الملك الإغريقي Tantalus الذي له نوع شبه ببروميثيوس السابق الذكر في السرقة من الآلهة لكنه هذه المرة لم يسرق ذلك الملك الأسطوري النار وإنما سرق الطعام من الآلة، ولهذا عندما غضبت منه آلهة الأوليمب (بزعمهم) عاقبته بأن يعذب طوال عمره بالجوع والعطش، ولأن الكيميائيين عانوا و تعذبوا كثيراً  في سبيل محاولة الفصل والتعرف على هذا العنصر لذلك سموه بالتانتاليوم إشارة إلى العذاب والمعاناة في دراسته. ومن الطبيعي بعد ذلك أنه عندما اكتشف لاحقاً عنصر النيوبيوم Nb الشديد الشبه بالتانتاليوم سموه كذلك على الشخصية اليونانية Niobe التي هي في الواقع ابنة الملك المعذب Tantalus السالف الذكر.

المرحلة التكريمية

لعل من الملاحظ أن تسمية العناصر الذرية المستعرضة في المراحل والمحطات السابقة لم يكن لها أي ارتباط باسم أي عالم من العلماء الذين اكتشفوا تلك العناصر أو البلدان التي ينتمون إليها لكن هذا الاتجاه سرعان ما سوف يتغير خصوصاً خلال القرن العشرين إذ سوف ينتشر انتشار النار في الهشيم أسلوب إطلاق أسماء البلدان والمدن أو أسماء العلماء على العديد من عناصر الجدول الدوري كوسيلة تكريم وتشريف لهؤلاء العلماء أو بلدانهم. حالياً يوجد أكثر من اثني عشر عنصراً من عناصر الجدول الدوري تم تسميتها تكريماً لعلماء بارزين في دنيا العلم من أشهرهم مثلاً اينشتاين (عنصر رقم 99  Es) ومندلييف (101 Md) ورذرفورد (104 Rf) ونيلز بور (107 Bh) و أنيركو فيرمي (100 Fm) والفرد نوبل (102 No) والعالم  رونتجن مكتشف أشعة إكس (111Rg ).

ولعل أغرب تكريم هو إطلاق اسم العالم الفلكي كوبرنيكوس على العنصر الذري رقم 112  Cn  بالرغم من عدم الارتباط الكبير بين علم الفلك وعلم الكيمياء وخصوصاً إذا علمنا أن مشاهير علم الكيمياء مثل لافوازيه وروبرت بويل وكافنديش لم يتم تكريمهم، بل إن عالم الكيمياء البريطاني همفري دافي وعالم الكيمياء الفرنسي جاي لوساك بالرغم من أن كلا منهما اكتشف حوالي خمسة عناصر كيميائية إلا أنه تم تجاهل تكريمهما. تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من أن أسماء العلماء الذكور هي الطاغية على الجدول الذري إلا أن للجنس اللطيف الأنثوي تمثيله أيضاً فيوجد عنصر باسم مدام كوري و هو العنصر رقم (96 Cm) وتجدر الإشارة أن تكريم مدام كوري سبق تكريم العلماء الرجال السابق ذكرهم حيث أنها أول إنسان بشري يكرم بإطلاق اسمه على عنصر كيميائي. كما يوجد اسم نسائي آخر في الجدول الدوري وهو اسم الفيزيائية النمساوية ليز ميتنير Lise Meitner (عنصر رقم 109 Mt) والتي حظيت بهذا التكريم الكبير ربما كمحاولة تكريم بعد وفاتها و تكفير من المجتمع العلمي على جناية حرمانها في حياتها من الحصول على جائزة نوبل التي حجبت عنها بسبب تسلط الرجال.

وقبل أن نختم جانب تكريم العلماء تجدر الاشارة أنه كما كان الحال مع الفيزيائية النمساوية Lise Meitner فإن كل العلماء المكرمين بإطلاق أسمائهم على عناصر الجدول الدوري تم ذلك كتكريم بعد وفاتهم، و لم يشذ عن ذلك إلا عالم واحد هو الكيميائي الأمريكي الشهير Seaborg الذي كرم بإطلاق اسمه على العنصر رقم 106 وهو السيبورجيوم Sg فقد كان هو العالم الوحيد الذي كان ما زال على قيد الحياة و يمشي على الأرض و اسمة مكرم على لوحات الجدول الدوري للعناصر الكيميائية و توجد صورة شهيرة له وهو يشير بإصبعه إلى العنصر الذري الذي يحمل أسمه و هو ما لم يتسنى لأي عالم قبله. للعنصر الكيميائي رقم 118 مكانة مميزة وفريدة في دنيا العلم، فهو حالياً آخر عنصر مكتشف/ مُصنَع من عناصر الجدول الدوري كما  أن له حادثة نادرة حصلت مؤخراً، فبعد تسمية هذا العنصر باسم أوغانيسون Oganesson (Og 118) وذلك على اسم عالم الفيزياء النووية الروسي يوري أوغانيسيان وبذلك يكون هو العنصر الوحيد الذي اجتمع فيه ميزتان: سمي على شخص ما زال على قيد الحياة وهذا الشخص ويا للعجب لم يحصل على جائزة نوبل.

من جانب آخر نجد أنه في نفس الفترة التي ظهر فيها طريقة تكريم العلماء بإطلاق أسمائهم على العناصر الذرية  شرع علماء آخرون بإطلاق أسماء بلدانهم على بعض العناصر الجديدة. وأقدم دولة نالها  التكريم بهذا الأسلوب هي فرنسا حيث أطلق اسمها على العنصر الجاليوم Ga من اسم بلاد الغال Gallia كما كانت تعرف قديماً  (كما توجد تسمية صريحة أخرى لفرنسا ممثلة في عنصر الفرانسيوم Fr) وبعد ذلك بسنوات قليلة سمي عنصر السكانديوم Sc المأخوذ من اسم اسكندنافيا ذلك الاقليم الجغرافي الذي يحتوي مملكة السويد بلد العالم الذي اكتشف هذا العنصر. و بنفس النسق و إن كان بصورة أكثر وضوحاً و جلاءً  تم تكريم عدد من الدول الأخرى مثل ألمانيا Ge و أمريكا Am و بولندا Pu بل و حتى قارة أوروبا Eu. في واقع الحال التكريم بهذه الطريقة لم يكن قاصراً على الدول فقط بل شمل كذلك تكريم عواصم و مدن بعض الدول و من العواصم المكرمة مدينة باريس Lu (من اسمها الروماني لوتشيا) وكوبنهاجن Hf  عاصمة الدنمارك (من اسمها اللاتيني Hafnia)، و كذلك أطلق  عنصر الهولميوم Ho من Holmia وهو الاسم اللاتيني لمدنية استوكهولم عاصمة السويد بينما العنصر دارمستادتيوم Ds كما واضح منسوب علي أسم مدينة Darmstadt الألمانية والتي يقام فيها معهد الأبحاث العلمي الذي انتج لأول مره في عام 1994 هذا العنصر الصناعي الثقيل (Ds 110). وفي نفس السياق العنصر هاسيوم Hs 108 مسمى علي المقاطعة الألمانية Hesse التي تقع فيها مدينة درامستادت السابقة الذكر.

ومن التكريم النادر الوجود تكريم الجامعات التي تم اكتشاف بعض العناصر الذرية في مختبراتها والمثال الفريد على ذلك عنصري الكاليفورنيوم Cf والبيركيليوم Bk الذين هما في الأصل تكريم لجامعة كاليفورنيا – بيركلي في الولايات المتحدة  تلك الجامعة التي عمل بها الكيميائي الشهير Seaborg السالف الذكر ومن المعلوم أن أبحاثه في إنتاج العناصر ما بعد عنصر اليورانيوم التي أهلته لشرف تكريمه الفريد وهو على قيد الحياة تمت في مختبر يحمل اسم الفيزيائي لورانس الذي اخترع جهاز تسريع و تحطيم الجسيمات cyclotron والذي ناله التكريم هو الآخر بإطلاق اسمه على العنصر رقم 103 ( لورينسيوم Lr).

ومن جانب آخر ينبغي التنبه أن أسماء بعض الدول والمدن وإن كانت قد ورد ذكرها في الجدول الدوري لكن هذه التسمية ليست من باب التكريم ولكن كما ذكرنا سابقاً جاء من باب التسمية والنسبة إلى اسم المكان الذي وجد فيه خام العنصر الجديد، وخير مثال على ذلك قرية Ytterby السويدية الصغيرة التي اكتشف بأحد مناجمها مادة خام بها أربعة عناصر كيميائية جديدة مرة واحدة كلها سميت وفق اسم هذه القرية الصغيرة وهي العناصر Y و Yb وTb و Er لكن كما هو واضح فهذه التسمية ليست من باب التكريم لهذه القرية الصغيرة المنزوية وإن كانت سعيدة الحظ في ذات الوقت. ومن هذا المنطلق سوف يصاب الشعب الروسي بإحباط عندما يعلم أن ورود اسم بلادهم روسيا في الجدول الدوري لم يكن في سياق التكريم لأن عنصر الروثينيوم Ru وهو الاسم اللاتيني لروسيا أطلقه كيميائي غير روسي اكتشف عنصراً جديداً في عينة قادمة من جبال الأورال في روسيا ولذلك اقترح هذا الاسم من باب النسبة إلى مكان اكتشاف العينات لا غير. لكن لعل للشعب الروسي بعض العوض و المجال بالافتخار بكون اسم الكيميائي الروسي الشهير مندلييف أطلق على اسم العنصر رقم 101 Md و ضمن سياق التكريم هذه المرة وفي السنوات الأخيرة تم الاتفاق الدولي على منح العنصر رقم 105 من الجدول الدوري اسم دوبنيوم Db نسبة إلي المدينة الروسية Dubna التي انتاجه فيها لأول مرة.

بالرغم من أن بريطانيا هي أكثر دولة قام علمائها باكتشاف العناصر الكيميائية حيث اكتشف فيها حوالي 23 من عناصر الجدول الدوري (تليها الولايات المتحدة ب17 عنصر أغلبها عناصر مصنعة غير طبيعية) إلا أن العجيب في الأمر أن الإمبراطورية البريطانية العظمى في تلك الفترة الذهبية للتسميات الكيميائية خرجت من مولد التسميات بلا حمص و لا حتى فول، فلا يوجد أي عنصر سمي على مدنها أو حتى علمائها في حين في المقابل نجد بلداً صغيراً كالسويد مكرمة بثلاثة عناصر  حيث أطلق العلماء اسم عاصمتها (استكهولم) و إقليمها الجغرافي (اسكندنافيا) و أحد علمائها (جولدين) على ثلاثة من العناصر الذرية بالإضافة لأربعة أسماء أخرى مسماة على قريتها الصغيرة يوتربي.

أسماء ما زالت تبحث عن تعديل

وأخيراً و بالرغم من كل العمل الدقيق في اكتشاف عناصر الجدول الدوري ومعرفة خواصها ومركباتها وأوزانها الذرية ونظائرها…إلخ، إلا أنه لا تزال حتى الساعة توجد أربعة أسماء (خاطئة) لأربعة من عناصر الجدول الدوري الشائعة الاستخدام في دراساتنا الكيميائية ولكن من يجرؤ على الاعتراض والمطالبة بعملية الإصلاح اللغوية هذه. كما ذكرنا أن معنى اسم عنصر الأوكسجين  باللاتينية (منتج الحمض) وذلك وفق الاعتقاد الخاطئ سابقاً  أن كل الأحماض الكيميائية يجب أن تحتوي على هذا العنصر. لكن في أيامنا الحالية جميع الطلبة في المرحلة الثانوية يعلمون أن أشهر حمض على الإطلاق وهو حمض الهيدروكلوريك HCl لا يحتوي على عنصر الأوكسجين المزعوم !!.

وبصورة مشابهة في أخطاء التسمية فعنصر الموليبدينوم Mo معناه باللاتينية (الرصاص molybdos) لأن الخام الذي وجد فيه يشبه تماماً خام الرصاص، وكذلك عنصر البلاتين Pt سمي كذلك من اللغة الأسبانية التي تعني (الفضة plata) لمشابهة خاماته كذلك مع خام فلز الفضة. أما العنصر الرابع الذي يواجه بعض المشاكل في تسميته وإن كان اسمه ليس خاطئ بشكل كامل فهو عنصر الهليوم فكما هو معلوم أغلب العناصر الغازية مثل الهيدروجين والنيتروجين والاكسوجين يوجد في أخر اسمها لازمة (gen) وبحكم أن عنصر الهليوم غاز فالمفروض أن يكون اسمه شيء قريب لهليجن Heligen وليس هليوم Helium حيث أن زائدة (ium) تدل على أن العنصر له صفة فلزية مثل عناصر الألومنيوم و الكادميوم والصوديوم.  وربما يرجع السبب في هذا اللبس في تسمية الهليوم أنه تم اكتشافه أولاً في الشمس عام 1868 وذلك من خلال استخدام التحليل الطيفي لأشعة الشمس، وهنا كان الاعتقاد الأولي أن عنصر الهليوم هو معدن أو فلز ولهذا أخذ تسمية الهليوم التي تعني كلمة الشمس باللغة اللاتينية (helios). ولاحقاً وبمرور عدة عقود من الزمن (حوالي 27 سنة) تم اكتشاف عنصر الهليوم في الأرض لكن على هيئة غاز حيث اكتشف أنه يتكون بعد تفكك العناصر ذات النشاط الاشعاعي مثل اليورانيوم والراديوم.

تسمية نشاز في الأذن

منذ القرن التاسع عشر اعتمد الكيميائيين بشكل شبه كامل علي استخدام مفردات اللغة اللاتينية (لغة العلم والفلسفة في ذلك العصر) في تسمية العناصر الكيميائية المكتشفة. ولهذا نجد أن بعض أسماء العناصر الكيميائية عند ترجمة معناها وفق قواعد اللغة اللاتينية تعطي ألفاظ أسماء بالغة الصعوبة في النطق حتى للمتحدثين الأصليين باللغة الإنجليزية. من ذلك مثلاً راجع صعوبة (ونشاز) وثقل اسماء العناصر التالية في النطق: ديسبروسيوم Dy، براسوديميوم Pr، وسبب هذه التسميات الثقيلة في النطق أن عنصر Dysprosium اسمه مأخوذ من دمج كلمتين لاتينة ويونانية لتعطي معنى (الصغير المختفي Little Hidden One) بسبب أنه هذا العنصر كانت عملية فصله صعبة جداً من العناصر الأخرى الأكبر والأكثر تواجداً منه. بينما عنصر Praseodymium فاسمهُ اللاتيني يعني (التوأم الاخضر Green Twin) بسبب أنه استُخلِص وفُصل لأول مرة من مركب كيميائي أخضر اللون يحتوي على هذا العنصر وعنصر آخر أطلق عليه اسم (التوأم الجديد Neodymium).

البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
2 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Anonymous
Anonymous
09/10/2021 9:09 صباحًا
عنوان التعليق
سؤال
Lama Haron
Lama Haron
10/30/2024 7:41 مساءً

لزن

عنوان التعليق
جلللن
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
2
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x