مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للأمم

الكاتب

الكاتب : د. أنطوان زحلان

الوقت

01:14 صباحًا

تاريخ النشر

02, يناير 2019

إن البلدان التي تبنت المعرفة، وسعت إلى تطوير قدراتها الوطنية، يمكن أن تُسمّى ذات استقلال ذاتي. بكلمات أخرى، إن هذه البلدان يمكنها أن تتبنّى سياسات تعتمد على أهداف وقدرات وتنظيمات وطنية.

وحتى في العصور القديمة، كانت بعض المجتمعات قادرة على أن تمارس مثل هذه السياسات المعتمدة على الذات. مثلاً، كان الكهنة في معابد مصر القديمة مزيجاً من الباحثين العلميين والمدرّسين والبيروقراطيين ورجال الدين. ومن المعروف جيداً أنه بسبب الطبيعة الدورية لمياه النيل، كانت مصر تعاني سنوات من الوفرة، تليها سنوات من المجاعة. ومن البديهي، عندما كانت تشح كثيراً مياه النيل لم يكن باستطاعة المصريين أن ينتجوا ما يكفي من الغذاء لإطعام كل السكان. وكان هذا يؤدي إلى مجاعة في سنوات انخفاض فيض النيل (وفي النهاية كان بناء سدّ أسوان ليمكن مصر من التغلب على هذا البلاء).

وبالطبع، لقد سعى المصريون القدماء إلى أن يحافظوا على موارد الحبوب من السنوات التي كان فيها وفر من الماء لسنوات المجاعة. لكن كميات الحبوب ]المحفوظة[ كانت عرضة لهجمات الفئران والجرذان، ولم يكن بالإمكان الاحتفاظ بها لمدة طويلة بما يكفي لسنوات ]شح المياه[ عندما تزداد الحاجة إليها.

لكن مراقباً من "علميي المعبد" اكتشف قدرات القطط في القضاء على الجرذان والفئران، وقد مكّن هذا الاكتشاف المصريين من حماية مخازنهم من الحبوب. وهكذا تعلمت مصر كيف تحمي حبوبها، وكيف تتغلب على المجاعة المتكررة. كان لهذا الاكتشاف أهمية استراتيجية، لأنه مكّن البلد من تجنّب المجاعة، التي كانت بدورها تؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي، ومرات عديدة كان هذا يُضعف دفاعات مصر ضد جيرانها المعتدين. وهكذا مكّنت القطط مصر من مقاومة جيرانها المولعين بالحرب. ومن البديهي، أثرت هذه المعرفة في توازن القوة بين مصر وجيرانها،  وقد أخفى المصريون "هذا السلاح" عن جيرانهم لمدة طويلة. [1]

والدول التي لا تسعى إلى أن تكون مستقلة تصبح ملحقة وتابعة. ومثل هذه الدول كان أداؤها سيئاً عندما أخذت الفجوة التكنولوجية تكبر بسرعة بعد العام 1500: كانت تبيعتها التكنولوجية تزداد، وتحولت إلى استيراد أسلحتها من دول كانت في الواقع عدوتها! وتصرّف الشعوب التابعة نموذجي. مثلاً، كان يقود الأسطول المصري في مطلع القرن التاسع عشر ضباط فرنسيون، وهؤلاء انسحبوا بلباقة من مواقعهم في البحرية المصرية قبل معركة نفارينو. وتمّ إغراق الأسطول، الذي لم يكن فيه ضباط، بالكامل من قِبل البحرية الغربية المشتركة (البريطانيين والفرنسيين والروس) في المعركة التي تلت [انسحاب الضباط]، والتي وقعت في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 1827.

ولم يتعظ محمد علي من هذه التجربة، واستعان بالفرنسيين (الأعداء الذين أغرقوا أسطوله) لإعادة بناء أسطوله في قاعدته البحرية في الإسكندرية. ولكونه غافلاً بالكامل عن التطور التكنولوجي السريع في أيامه، فقد بنى أسطوله (الجديد) اعتماداً على قوة الرياح بالكامل بناء للنصيحة "المشكورة" من "الخبير الفرنسي" الذي استخدمه من أجل ذلك. كانت معركة نفارينو، في الواقع، المعركة الأخيرة في التاريخ التي تم خوضها بسفن شراعية. فبعد ذلك تحولت كل القوى البحرية إلى قوة البخار. وبالتالي، فإن أمة متخلّفة وتابعة لا تخسر معركة اليوم فقط، ولكنها تعتمد سياسات تجعلها تخسر معاركها المستقبلية أيضاً .[2]

ويتكرر هذا النمط من التصرف كثيرا فب البلدان العربية. مثلاً، في الخمسينيات من القرن العشرين استوردت إحدى الدول العربية مصنعاً لصنع أنابيب الراديو ]المفرّغة[، بعدما أخذ الترانزستور يحل محل الأنابيب المفرغة. وقد برزت وضعية مماثلة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967: فقد استوردت إحدى دول المواجهة العربية صواريخ مضادة للطائرات ذات سرعة أقل من سرعة الصوت، في الوقت الذي أصبحت فيه كل الطائرات المقاتلة أسرع من الصوت.

وتكون الدول المعتمدة على الذات واعية بشكل مستمر للتغير العلمي في كل مكان. مثلاً، كانت الإنجازات العلمية والتكنولوجية في العصور الوسيطة تبدأ في مراحل مختلفة في عدد صغير من الدول ]مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وبريطانيا وفرنسا[. لكن جيران تلك الدول الأوربيين، بما في ذلك روسيا، كانوا سريعين في إدراك ما كان يجري، وكانوا يبذلون جهودا ضخمة "للحاق") بغيرهم ]جيرانهم[.

وعلى العكس من ذلك، كان رد الفعل ]على التطور العلمي[ في العالم غير الأوربي، في آسيا وأفريقيا (بما في ذلك الإمبراطورية العثمانية)، متابعة التبعية التكنولوجية: كان تطوير قاعدة تكنولوجية وطنية يتطلب تغييراً سياسياً وحضارياً غير مقبول. فلإبداع المطلوب في العلوم الجديدة كان يستلزم ثقافة سياسة أكثر تحرراً، وتلك لم تكن لتأتي ضمن مدة زمنية قصيرة. ونتيجة لذلك، أصبحت كل تلك الدول مستعمرات أو نصف مستعمرات. فقط اليابان في آسيا، كان لديها رد فعل فعّال عندما فرض عليها ذلك، لأنها قررت من البداية أنها لا تريد أن تكون حضارة ثانوية تابعة.

 [1]يبدو أن القطط قد روّضت حوالى عام 1450 قبل الميلاد، وقد استخدمت في ذلك الوقت للدفاع عن أهرامات مصر. لعرض شيّق عن القطط في مصر، انظر:

Jaromir Malek, The Cat in Ancient Egypt, revised edition (London: British Museum Press, 2006), pp. 54-55.

[2] كانت البحوث المتعلقة بالانتقال إلى سفن البخار قد أصبحت متقدمة جداً. انظر:

Macleod [et al.], “Making Waves: The Royal Navy’s Management of Invention and Innovation in Steam Shipping, 1815-1832”, History and Technology, vol. 16 (2000), pp. 307-333.

 

البريد الالكتروني للكاتب: tonyzahlan@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x