«ادرسْ الماضي إذا أردت معرفة المستقبل»، قال ذلك الفيلسوف كونفشيوس، وهذا هو الشغل الشاغل لرشدي راشد الذي ألّف نحو مائتي كتاب وبحث في تاريخ العلوم والفلسفة العربية، وحقَّقَ أحدثُ كتبه مخطوطة عالم بغدادي يصنع المستقبل منذ القرن التاسع الميلادي وحتى اليوم، ويصنعه من مادة الشريعة الإسلامية وعلوم الرياضيات والهندسة واللغة.
كتاب «رياضيات الخوارزمي.. تأسيس علم الجبر»، يحقق لأول مرة في تاريخ العلوم كتاب الخوارزمي «الجبر والمقابلة»، والذي أسس العلم المعروف عالمياً باسمه العربي «الجبر»، وأصبح اسم الخوارزمي نفسه «اللوغاريثما» علماً قائماً بذاته وفصلاً أساسياً في برمجة الحواسيب. ويمكن القول إن «التاريخ يُنصف أحياناً»، حسب عالم الرياضيات اللبناني نقولا فارس الذي ترجم كتاب راشد من الفرنسية للعربية. فالغرب استخدم اسم الخوارزمي منذ القرن الـ12 الميلادي للدلالة على مجمل العمليات الحسابية بواسطة النظام العشري، ولم يفطن أحد إلى أصله، حتى برهن مستشرق فرنسي في منتصف القرن الـ19 أنه اسم محمد بن موسى الخوارزمي، مؤلف كتاب «الجبر والمقابلة»، والذي كان قد ترجم ثلاث مرات إلى اللاتينية. «ويمكن القول إن البشرية كان عليها أن تنتظر انقضاء حوالي عشرة قرون بعد الخوارزمي لتشهد ولادة الطرائق المصادراتية في الجبر» التي تتيح تحديد المجهول انطلاقاً من المعلوم.
كيف أمكن أن يؤسس كتاب وُضعَ عام 820 ميلادي لخدمة سكان دولة إسلامية، علماً جديداً يخدم حتى اليوم الحاجات العملية لسكان العالم من مختلف الأديان؟ قد يجيب على السؤال إيضاح الخوارزمي في مقدمة كتابه: «ألّفت من حساب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً، جعلته حاصراً لِلَطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحات الأرضين وكري الأنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه». وفي الجبر التقت الرياضيات والعلوم الفقهية المتعلقة بحسابات الإرث والوصايا، وتأسست مادة رياضية مستقلة عن الهندسة وعن علم الحساب، وجعلت من الممكن «ما لم يكن بالإمكان تصوره من قبل، وهو توسيع تطبيق العلوم الرياضية، بعضها على بعض؛ تطبيق الحساب على الجبر، والجبر على الهندسة، والهندسة على الجبر، والجبر على المثلثات».
وتطبيق علم على آخر هو أحد أهم مميزات العلم العربي، ويعتبرُ راشد ذلك «بداية حقة للعلم الكلاسيكي» الذي يشمل عصر النهضة الأوروبية، ويمتد حتى القرن الـ17 الميلادي. و«لابد أن نتعجب إذن من كون هذا الكتاب لم يَنَلْ حتى الآن التحقيق النقدي الذي يستحق أو الترجمة إلى لغة أوروبية تتناسب مع أهميته»، حسب راشد الذي قام بأول ترجمة لكتاب «الجبر والمقابلة» إلى الفرنسية، وكتابة مقدمة وشروح له تعادله في الحجم مرتين تقريباً. ويوضح عمل راشد نحو ثلاثة عقود على مخطوطة «الجبر والمقابلة» سبب عزوف المؤرخين عن دراسة الخوارزمي، الذي أحاط الغموض حتى اسمه وتاريخ ميلاده. وعلى من يتصدى لبحث ذلك أن يكون مستعداً للمخاطرة حتى بحياته، وقد فعل ذلك راشد في بحثه عن سبع مخطوطات من جبر الخوارزمي، اقتضته اثنتان منها في مكتبة البلاط الملكي الأفغاني «الذهاب إلى كابل مباشرة بعد سقوط الملكية وقبل الاجتياح السوفييتي». ورحلات راشد حول العالم وبحثه عن «المصير المأساوي للمخطوطات العلمية العربية»، قصة تضاهي رواية الفيلم البوليسي المشهور «اسم الوردة». وكما تُفتَّضُ أوراق الوردة ورقة ورقة يَفتَّضُ راشد «انبهار الباحثين بجدة هذا العمل، إضافة إلى تحيرهم أمام فرادته، والتنافر ما بين جدّة المشروع الرياضي وبساطة التقنيات التي يستخدمها. وقد لا ينتبه الإنسان دائماً إلى أن المشاريع النظرية الكبرى تولد من رحم البساطة».
و«اسم الوردة» في التثّبُت من الاسم الحقيقي للخوارزمي، وهو محمد بن موسى، ومن مولده في نهاية القرن الثامن ميلادي. و«تدّل النسبة الجغرافية لاسمه، بأن أصله من خوارزم في آسيا الوسطى، إلا أننا نجهل تاريخ مجيء والديه أو جدّيه إلى بغداد، حيث تلقى تكوينه العلمي في الوسط الثقافي والعلمي الذي كان شديد النشاط». ومع التقدم في تحقيق الكتاب، يعمد راشد إلى إضفاء لقب البغدادي على الخوارزمي، ويستخلص أن إنتاجه «كان غزيراً بشكل ملحوظ في عهد المأمون». ولا يخفي راشد، وهو المبدع باللغتين الفرنسية والعربية، انبهاره بلغة الخوارزمي الذي «استخدم لغة عربية واثقة، خالية من أيّة بصمة قد تتركها الترجمة». ويرى في مقدمة الكتاب «قطعة أدبية تكشف عن الثقافة العالية لكاتبها وعن تمكُّنه من لغته وعن غنى ألفاظه». وتمحيص اللغة أداة راشد الرئيسية، وتكاد تكون الوحيدة لمعرفة مصادر وقراءات «عالم الرياضيات البغدادي، هذا الذي لا يساعدنا بتاتاً في هذا المجال، ولا يقدم لنا أيّة إشارة، ولو بشكل غير مباشر، إلى ما يُحتملُ أن يكون قد قام به من هذه القراءات».
وإذا كان «تاريخ العلم هو العلم نفسه»، حسب الشاعر الألماني جوته، فإن بحث راشد في تاريخ الخوارزمي هو علوم الرياضيات نفسها؛ من إقليدس وهيرون الإسكندري، وآريبهطا وبرَهمغوبتا الهنديين، وهي الحساب العبقري عند اللغويين، ونظرية الخليل بن أحمد في الاستنفاد القبْلي للغة الفعلية «والانطلاق منها باستخدام التوافيق للحصول على الكلمات الممكنة بتوفيق الأحرف وتبديلها»، وهي الحسابات الشرعية التي استقاها الخوارزمي من المدارس الفقهية الرئيسية الثلاث؛ مدرسة أبي حنيفة التي ولدت في بغداد، ومدرسة مالك التي ولدت في الحجاز، ومدرسة الإمام الشافعي التي بدأت في العراق والحجاز قبل أن تستقر في القاهرة. «وندين لهؤلاء الفقهاء الرياضيين بمؤلفات في الضرائب وفي المساهمات التجارية والوصايا والإرث وغيرها».
والشريعة وحدها لا تخلق العلوم، ولا العلوم تخلق العلوم. ويذّكِرُنا راشد بأنّ انطلاق حركة الترجمة والبحث كان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة البحث المجدِّد والمُبدع في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكان يستمد قوَّته و نشاطَه من تكوّن فئات اجتماعية من سكان المدن تطلُب هذه «العلوم العقلية». وشكّلَت علوم اللغة، والفقه، والعلوم الإلهية، في العصر العباسي، وسطاً يتلقف العلوم الجديدة ويهتم بها. «هذه الفئات الاجتماعية قدّمت للعلماء لغة حاضرة، قادرة على التعبير عن كل المعارف، كما طرحت عليهم أسئلة تستدعي الإجابة عليها القيام بأبحاث جديدة. من جهة أخرى كانت الفئات الجديدة من الإداريين، الذين كانوا يُعرَفُون بالـ (كُتاب) تحتاج من أجل تكوين أجهزتها البشرية إلى علم الحساب وإلى لغة تتناسب مع متطلباتها، كما إلى ثقافة عامة في مختلف فروع المعرفة. وكان للدولة أيضاً متطلّبات في علم الفلك والجغرافيا وفي تقنيات التنظيم المدني». ولبغداد الشريعة والعلم.
البريد الإلكتروني للكاتب: maref21@yahoo.co.uk