تزامناَ مع الذكرى المأوية الاولى لاندلاع الحرب العالمية الأولى بدئت قبل شهور احتفالات متنوعة في العديد من دول العالم لإحياء ذكرى هذا الحدث السياسي والتاريخي البالغ الاثر في تشكيل مسيرة الحضارة البشرية في العصر الحديث. وبالرغم من التغطية الاعلامية الضعيفة نسبيا في الوطن العربي لهذا الزلازل السياسي الجلل إلا أن هذا الأمر ما كان ينبغي أن يمر مرور الكرام علينا نحن بالذات معاشر محترفي مهنة الكيمياء والسبب في ذلك بكل بساطة أن بعض المؤرخين يصمون ويصفون الحرب العالمية الاولى بأنها حرب الكيميائيين (The Chemists' war) وهي التسمية التي راج صداها حتى قبل أن تضعتلك الحرب الفظيعة أوزارها (لاحقا سوف يصف المؤرخين الحرب العالمية الثانية بأنها حرب الفيزيائيين).
للوهلة الأولى قد يعتقد البعض أن تسمية الحرب الكونية العظمى بحرب الكيميائيين مرتبطة فقط بحقيقة أنه في تلك الحرب البغيضة تم لأول مرة في التاريخ استخدام الاسلحة الكيميائية الشنيعة مثل غاز الخردل وغاز الكلور ولكن أمر ارتباط الحرب العالمية بالكيمياء أوثق وأعمق من ذلك بكثير. ما استجد في تلك الحرب العظمى (Great War) عما سبقها من الحروب والصراعات البشرية الدامية هو اتساع رقعة ومساحة القتال بشكل هائل شمل في لحظات متقاربة جبهات قتال ونزاع في عدد كبير من الدول. وهنا يظهر الفرق حيث لأول مرة في التاريخ حصل استنزاف سريع وحاد للذخيرة الحربية التقليدية ومن هنا كان الدور الحاسم لعلم الكيمياء والصناعات الكيميائية أفي ن تصبح أشبه بقوات التدخل السريع لتوفير الاحتياجات والاستهلاك غير المسبوق للمواد والمنتجات الصناعية وثيقة الصلة بالمجهود الحربي مثل المواد المتفجرة والمقذوفات والوقود والمعادن والسبائك والبلاستيك والادوية والمسكنات والمطهرات بل وحتى الاصباغ لملابس الجنود وافلام التصوير لتوثيق مجريات الحرب.كما لا يمكن أن نغفل أنه في هذه الحرب تم لأول مرة استخدم منتجات كيميائية كان لها دور حاسم في ساحة القتال مثل الغازات الكيميائية والغازاتالمسيلة للدموع ومتفجرات الـTNT والمطاط الصناعي ووقود البنزين المحسن للمعدات الحربية من دبابات وشاحنات وطائراتبل وصل السحر الكيميائي بسبب شح الوقود النفطي لتحفيز الكيميائيين لاكتشاف طرق علمية جديدة لتحوير وقود الفحم الحجري إلى وقود البنزين.
وبسبب هذا الدور غير المسبوق لأحد أفرع المعارف العلمية واثرها الملموس في تغيير مسار السياسة والتاريخ نفهم لماذا دمج بعض مشاهير الفلاسفة الغربيين بين العلم والسياسة في تسيدهما لمشهد تشكيل مستقبل الحضارة الانسانية. فهذا الفيلسوف الألماني الشهير شبينجلر يقرر بشكل واضح أنه إذا أراد المرء أن يلعب دورا بارزا في حضارته فإنه إما أن ينخرط في الجندية أو يلتحق بمعاهد التقنية. بينما كان المفكر والفيلسوف البريطاني الأكثر شهرة برتراند راسل، كان أكثر صراحة وتأكيدا في دور علم الكيمياء عندما ذكر في كتابة الهام (النظرة العلمية) أن إقامة ثورة سياسية أمر عسير (ما لم يؤيدها رجال الطيران والكيمياء وأن أي حكومة أريبة لتعمل على إرضاء هاتين الطائفتين ولا تألو جهدا في كفالة ولائهما لها).
اللمسات الكيميائية في تسعير أوار الحرب
من اللافت بشكل جلي أن كوكبة من أبرز الشخصيات الكيميائية التي كانت على قيد الحياة ونشطة بحثيا في بدايات القرن العشرين كان لها إسهامات علمية حاسمة ومؤثرة في المجهود الحربي في سنوات الحرب العالمية الأولى. ومن أبرز الأمثلة في هذا الشأن نجد أن عالم الكيمياء الألماني البارز فرتز هايبر Haber الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1918 والمشهور تاريخيا بأنه (أبو الأسلحة الكيميائية) ليس فقط لأنه أول من حضر هذه المركبات الكيمائية الشنيعة ولكن لأنه كان من ضمن من شارك في تنظيم أول هجوم بسلاح الغازات السامة في التاريخ ضد قوات الحلفاء المتمركزة في فرنسا. بكل الخزي يكتب التاريخ أن عالم الكيمياء الحاصل على جائزة نوبل هايبر كان قد أقام لعدة أسابيع على خط النار في جبهة القتال بالقرب من مدينة بلجيكية صغيرة تدعى إبير Ypres بهدف تنظيم وإدارة وتخطيط أول هجوم بالأسلحة الكيمائية السامة ممثلة في غاز الكلور حيث دفن الألمان حوالي 6000 أسطوانة تحوي سائل الكلور السام. وفي الثاني والعشرين من شهر أبريل لعام 1915 وعندما بدأت الرياح تهب جهة خنادق قوات الحلفاء فتح الالمان تلك العبوات السامة مطلقين مئات الاطنان من غاز الكلور إلى جهة جبهة العدو مما سبب في تسمم الالاف منهم. وبسبب التورط البين للكيميائي الألماني هايبر في إنتاج الأسلحة الكيميائية في سنوات الحرب لا عجب أن نعلم أنه بعد خسارة الالمان للحرب العالمية الأولى قام الحلفاء بوضع اسم هايبر ضمن قائمة أسماء الاشخاص الذين يعتبرون من مجرمي حرب المطلوب تقديمهم للمحاكمة. وبنفس النسق يمكن تفهم حملة الاستنكار وردود الفعل المناهضة لمنح هايبر جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1918 الأمر الذي دفع أغلب العلماء الفائزين بجائزة نوبل (باستثناء عالم بريطاني واحد) خلال سنوات الحرب من غير العلماء الالمان بمقاطعة حفلة تسليم جوائز نوبل. بقي أن نقول أنه في بداية الحرب العالمية الأولى تم تعيين هايبر كمدير لدائرة الكيمياء في الجيش الالماني ولهذا كان له دور غير مسبوق في دعم المجهود الحربي وقد تنوع هذا الدور من توظيف اكتشافه التاريخي في إنتاج الأمونيا (من خلال تثبت غاز النيتروجين الجوي) لتصنيع المواد المتفجرةوالقنابلكما ساهم في اكتشاف عدد من المركبات الكيميائية البديلة لمركب التولوين (التي منع تصديرها لألماني)والتي تستخدم كمادة مانعة للتجمدفي محركات السيارات والمركبات العسكرية.
عالم كيميائي آخر نال شهرة تاريخية واكتسب نفوذا سياسيا فريدً من نوعه وغير مسبوق بسبب اكتشافه لطرق كيميائية لإنتاج مواد كيميائية ذات أهمية فائقة في دعم المجهود الحربي،كان هو العالم والسياسي اليهودي البارز حاييم وايزمان Chaim Weizmann أول رئيس للكيان الصهيوني. كما هو معروف كان لحاييم وايزمان دور محوري في حصول اليهود على وعد بلفور المشؤوم لكن ما يخفى أحيانا أنه كان لنشوب الحرب العالمية الأولى مساهمتها في تسهيل تحقيق وايزمان لهذا الحلم التاريخي لبني جلدته اليهود. تبدأ القصة الغريبة عندما حصل نقص حاد في تأمين مذيب الاسيتون الكيميائي والذي يستخدم بكميات كبيرة أثناء إنتاج مادة النيترو سيليلوز وهي المادة الاساسية في تصنيع متفجرات الديناميت وهنا يدخل لمسرح الاحداثالكيميائي اليهودي حاييم وايزمان والذي كان يعمل استاذا للكيمياء في جامعة مانشيستر ونتيجة لأبحاثه العلمية تمكن من عزل مكروب بكتيري بإمكانه تحويل وتخمير النشأ إلى مواد كيميائية كحولية (butyl alcohol) بالإضافةلمذيب الاسيتون. و لهذا وبوجود طريقة وايزمان البديلة لإنتاج الاستون طلبت الحكومة البريطانية منه أن يبدأ في اقامة المصانع الكيميائية اللازمة لإنتاج الاسيتون في بريطانيا و الدول الحليفة مثل كندا و الولايات المتحدة. بقي أن نقول أنه كما تولي هايبر الألماني منصب مدير دائرة الكيمياء في الجيش الالماني تم تكليف وايزمان كمدير للبحوث الكيميائية في البحرية البريطانية وهنا تبدأ ارهاصات حصول اليهود على وعد بلفور المشؤوم حيث تعرف وايزمان اثناء عمله في البحرية البريطانية على لورد البحرية الأول (وزير البحرية) اللورد أرثر بلفور وهو الذي سهل لوايزمان تكوين علاقات صداقة قوية مع رئيس الوزراء لويد جورج ووزير الذخيرة (اثناء الحرب العالمية الاولى) ونستون تشرتشل ومن مجمل علاقات وايزمان مع هذه الشخصيات السياسية الفائقة النفوذ نتفهم الآن كيف حصل اليهود على وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق.
قائمة علماء الكيمياء البارزين والذين سجلت لهم الوثائق التاريخية مساهمتهم العلمية في المجهود الحربي لدولهم تشمل شخصيات علمية مشهورة مثل عالم الكيمياء الأمريكي جيلبرت لويس Gilbert Lewis المعروف حتى لطلبة الثانوية (صاحب اشكال لويس للمركبات الكيميائية وصاحب تعريف لويس للأحماض والقواعد)وأحد أهم علماء الكيمياء الامريكان على الاطلاق في بداية القرن العشرين نجده هو الآخر خلال سنوات الحرب قد تعاون مع هيئة خدمات الاسلحة الكيميائية في الابحاث الخاصة لتطوير وتحسين الاسلحة الكيميائية الامريكية. والجدير بالذكر أن جليبرت لويس قد حصل بالفعل علي عدد من الميداليات التقديرية من الولايات المتحدة ومن فرنسا علي إدارته ورئاسته لوحدة الدفاع في هيئة خدمة الاسلحة الكيميائية الامريكية والتي كانت تعمل في فرنسا اثناء الحرب العالمية الأولى. الغريب في الأمر أن جليبرت لويس قد تم شكره بشكل خاص علي جهوده العلمية في تحسين قدرة الجيش الامريكي في استخدام غاز الخردل السام وهو الأمر الذي يتم اغفاله بشكل متعمد من قبل المراجع التي تتحدث عن دور لويس في تطور العلوم المعاصرة. وعلى نفس النسق نجد أن الكيميائي الالماني كارل بوش Carl Bosch الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1918 (مع أستاذه فرتز هايبر السالف الذكر) كان له هو الآخر دور في تحسين تحوير الفحم إلى وقود الجازولين (البنزين) ولهذا قد اشرف كارل بوش على انتاج الجازولين المصنع كيميائيا وذلك لخدمة القوات الألمانية اثناء الحرب العالمية الاولى.
لم يكن كارل بوش هو الكيميائي الالماني الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل وكان له نوع علاقة بالكيميائي فرتزهايبر كبير الألمان الذي علمهم سحر الاسلحة الفتاكة. فمثلا الكيميائي الالماني أوتو هان Otto Hahn الحاصل على نوبل في الكيمياء عام 1944 (مكتشف ظاهرة الانشطار النووي) عمل في وحدة تطوير وإنتاج الاسلحة الكيميائية للجيش الالماني اثناء الحرب العالمية الثانية كما أنه قبل ذلك عمل في اثناء الحرب العالمية الاولى تحت إدارة وأشراف هايبر في مشروع إنتاج الغازات السامة. بينما الكيميائي الألماني ريتشارفيلشتيتر Richard Willstatte نجده في نفس السنة التي يحصل فيها على جائزة نوبل في الكيمياء أي عام 1915 يطلب منه زميلة فرتز هايبر أن ينظم إليه في مشروع إنتاج الغازات السامة إلا أن فيلشتيتر يوافق على شرط أن يكون عمله مقتصر فقط على تطوير أقنعة واقية من الغازات السامة وقد أنتجت ألمانيا خلال سنوات الحرب حوالي ثلاثة ملايين قناع مضاد للغازات السامة وهي التي انقضت حياة الآلف ولهذا لا عجب أن تمنح ألمانيا وسام الشرف (Iron Cross) لفيلشتيتر. كيميائي آخر من الوزن الثقيل ساهم بشكل أو آخر في انتاج الغازات السامة اثناء سنوات الحرب كان ذلكم هو الكيميائي الأمريكي روبرت موليكينRobert Mulliken الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1966 والذي كان أول موضوع عمل به بعد تخرجه من جامعة MIT عام 1917 هو القيام بدراسات كيميائية عن الغازات السامة. و فيما يتعلق بإجراء الأبحاث عن الغازات الكيميائية السامة في الجانب الفرنسي من القصة نجد الكيميائي الفرنسي فيكتور جرينارد Victor Grignard الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1912 سيشارك بعد ذلك بسنوات و أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى في إنتاج أبحاث علمية عن تصنيع الغازات السامة مثل غاز الخردل و غاز الفوسيجن وكما كان من مهامه العلمية محاولة الكشف الكيميائي عن وجود هذه الغازات في الجو ولو بكميات ضئيلة. بينما في الجانب البريطاني من القصة نجد أن الكيميائي البريطاني السير سيريل هنشلوود Cyril Hinshelwood الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1956 كان من أوائل خبرته وارتباطه بالكيمياء أنه أثناء الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى قام بالعمل في مصنع لإنتاج المتفجرات وبعد تخرجه من جامعة أكسفورد كان من أوائل أبحاثه ودراساته العلمية الجادة تلك المتعلقة بالتفاعلات الكيميائية المتعلقة بالمتفجرات.
الطريف في الأمر أنه إذا كان بعض الكيميائيين والعلماء انخرطوا في سنوات الحرب في انتاج الاسلحة القتالية بمختلف أنواعها نجد أن بعضهم في المقابل كان إسهامه الأساسي في المجهود الحربي هو الكشف عن الاسلحة ووسائل القتال تلك. وسبق أن اشرنا قريبا أنه كان من المهام الموكلة للكيميائي الفرنسي فيكتور جرينارد Grignard الكشف الكيميائي عن وجود الغازات الكيميائية السامة في الجو بينما نجد أن العالم الانجليزي الشهير أرنست راذرفورد Rutherford والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908 نجده أثناء الحرب العالمية الأولى يقطع أبحاثه التاريخية في الفيزياء النووية ويركز جهوده البحثية والعلمية على تطوير طريقة لرصد الغواصات بالموجات الصوتية وهو الأمر الذي تكرر بالضبط مع الكيميائي الامريكي إرفنج لانجمير Irving Langmuirالحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1932 الذي شارك هو الأخر في خدمة البحرية الأمريكية في سنوات الحرب العالمية الأولى في تحسين ظاهرة السونار المستخدمة للكشف عن الغواصات والقوارب البحرية الألمانية المعادية.
كيميائيين على خط النار
كما هو معلوم في حال الحروب والازمات الكبرى نجد أن العديد من الدول والحكوماتتستدعي الرجال والشبان من مواطنيها لأداء خدمة العسكرية الالزامية و هذا يفتح المجال لاستعراض اخبار طائفة مختارة تتعلق بدور واسهام بعض أبرز الكيميائيين في اشعال وقود الحرب العالمية الاولى بحكم كونه جنود ومقاتلين فقط وليس بحكم كونهم علماء ينتجون ويطورون ذخيرة واسلحة القتال. ومن ضمن أشهر وأبرز أعلام مهنة الكيمياء الذين شاركوا بكل بساطة كجنود ومقاتلين في ساحات القتال وجبهات المواجهة العسكرية يمكن أن نشير للكيميائي البريطاني رونالد نوريش Norrish الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1967والذي خدم في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى. وقائمة المقاتلين والجنود الشبان من محترفي مهنة الكيمياء الذي شاركوا في (الحرب الكونية) تشمل كذلك الكيميائي النمساوي الأصل كارك كوري Carl Cori الحاصل على جائزة نوبل في الطب والفيسيولوجيا عام 1947 على أبحاثه حول العمليات الحيوية لتحوير الجلوكوز إلى جليكوجين والذي انخرط في الجيش النمساوي وأدى خدمته العسكرية في إيطاليا. وطبعا إذا ذكر سكر الجلوكوز في دم الإنسان فهو مرتبط قطعا بهرمون الأنسولين ولهذا نجد العالم الكندي الأصل فريدريك بانتنغ Frederick Banting مكتشف هرمون الأنسولين والحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا عام 1923 وبحكم أنه في الأصل طبيب لذا كان أول عام قام به بعد تخرجه مباشرة أن عمل مع القوات الطبية في الجيش الكندي في عام 1916 واللافت في قصته أنه نال أثناء الحرب العالمية الأولى شرف الحصول على وسام الشجاعة وذلك لأنه بالرغم من أصابته في إحدى المعارك إلا أنه استمر لساعات طويلة يساعد المصابين والجرحى مما أوشك أن يضر بحياته الشخصية. وعلى نفس النسق نجد أن رائد التحليل الكهربائي الكيميائي التشيكي جارسولاف هيروفسكي Jaroslav Heyrovsky مخترع تقنية البولاروجرافي التحليلية الكهربائية التي منحته جائزة نوبل في الكيمياء عام 1959، شارك هو الآخر في الحرب العالمية الأولى من خلال العمل ككيمائي في مستشفى عسكري.
الجدير بالإشارة إلى أنه بينما نجد أن جميع هؤلاء العلماء البارزين الذي سبق ذكرهم قاتلوا كجنود وهم في بداية شبابهم نجد في المقابل أن الكيميائي الألماني إدوارد بوخنر Buchner الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1907 والشهير جدا في الكيمياء العضوية بقمع بوخنر (Buchner funnel) المستخدم في فصل الرواسب والشوائب نجده هو الآخر ليس فقط يتطوع للقتال وهو في سن متقدمة للقتال في صفوف الجيش الألماني المرابط في رومانيا بل أنه يفقد حياته ويقتل وهو في سن 57 بعد تعرضه لإصابة قاتلة في ساحة المعركة. وعلى ذكر الخسائر في أرواح العلماء في جبهات القتال ربما تكون أكثر اللحظات درامية في تاريخ العلم الحديث ما حصل مع العالم البريطاني الشاب هنري موزيلي Moseley ذو الأثر الكبير في علم الكيمياء باقتراحه استخدام العدد الذري بدلا من عدد الكتلة في ترتيب عناصر الجدول الدوري الكيميائي. فقد حدث اثناء اندلاع الحرب العالمية الاولى أن قام الشاب موزيلي بالتطوع في الجيش البريطاني وكان نتيجة ذلك أن لقي مصرعه برصاصة قناص اخترقت رأسه وهو بعد في سن الثامنة و العشرين من العمر مما حدا بالحكومة البريطانية لاحقا القيام بإصدار قانون يعفي العلماء من الخدمة العسكرية.
وبالعودة لظاهرة الخدمة العسكرية للعلماء نجد في الواقع أن جزأ من الخدمة العسكرية التي أداها كلا من فريدريك بانتنغ وإدوارد بوخنر وهيروفسكي السابقي الذكر في سنوات الحرب كانت مرتبطة بالخدمة في القوات الطبية التابعة للجيوش المتناحرة والعمل في المستشفيات الميدانية على خطوط الامامية في ساحات القتال. وهذا يقودنا للحديث عن دور العنصر النسائي لاثنتين من أبرز الشخصيات العلمية النسائية التي شاركت في خضم معارك الحرب العالمية الأولى. وهنا يحسن ذكر قصة العالمة البولندية الأصل مدام ماري كوري Marie Curie الحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1911 (والأشهر من ذلك أنها حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1903) وكذلك أبنتها إيرين كوري Irene الحاصلة على جائزة نوبل في عام 1937 (وصدق من قال فرخ الوز عوّام) فمشاركة هاتين السيدتين الرقيقتين في المجهود الحربي تمثل ليس بحمل السلاح ولا حتى توظيف خبراتهم العلمية في تطوير أو إنتاج أسلحة الحرب وإنما كان دورهما مقتصر فالعمل بالقطاع الطبي والاسعافي المصاحب للحرب. فلقد ساعدت ماري كيوري عندما كانت في سن الخمسين و أبنتها إيرين ذات السابعة عشر ربيعا من العمر في تجهيز العديد من سيارات الاسعاف التي كانت مجهزة بوحداتأجهزة أشعة أكس متنقلة تستخدم لتحديد أماكن الشظايا والطلقات النارية في أجساد جرحى الحروب. ويقال أن مدام كوري تعلمت قيادة السيارة خصيصا لتتمكن من نقل التجهيزات الطبية إلى المستشفيات في جبهات القتال وقد قد بلغ عدد المواقع التي عملت بها حوالي مائتي موقع مختلف.
واعترافا بدور مدام كوري الكبير في هذه الخدمات العلاجية الفريدةعينها الصليب الاحمر الدولي رئيسا لوحدة الخدمات الاشعاعية كما أنها خلال نفس الفترة قامت بتدريس دورات تدريبية للمئات من الفتيات (من ضمنهن طبعا ابنتها إيرين) عن كيفية استخدام تقنية أشعة أكس وتوظيف قدرتها التشخيصية في مساعدة الطقم الطبي التي في جبهات القتال و لهذا لا عجب أن نعلم سيارات الاسعاف المتنقلة تلك كانت تسمى الواحدة منها كوري الصغيرة (little Curie). ولمعرفة أهمية هذه الفكرة المبدعة من قبل السيدة كوري في خدمة الجرحى في معارك القتال يكفي ان نشير إلى أنه توجد بعض التقديرات التي تشير إلى أنه بنهاية الحرب العالمية الأولى قامت هذه الوحدات المتنقلة لأشعة أكس بفحص ما يزيد عن مليون جندي وبلا شك ساهمت هذه المساندة الطبية في انقاذ حياة عشرات الاف من الجرحى والمصابين.وكذلك لا عجب أن نعلم أنه فيما يخص الشابة المتطوعة إيرين وتقديرا لجهودها الانسانية والطبية في جبهات القتال مع وحدات اشعة أكس المتنقلة في فرنسا وبلجيكا منحها الجيش الفرنسي ميدالية تكريمية تقديرا لجهودها تلك. وعلى نفس السياق وحذو القذة بالقذة نجد أن العالمة النمساوية Lise Meintner التي كان لها دور رئيسي في التوصل لاكتشاف ظاهرة الانشطار النووي (ولهذا ربما هي المرأة الوحيدة التي يصح أن يطلق عليها لقب – أم القنبلة الذرية- كما أنه كان من المفترض أن تشارك الكيميائي الألماني أوتو هان الحصول على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1944)، كانت هي الأخرى أثناء الحرب العالمية الأولى تعمل كممرضة أشعة أكس X-ray nurse خلف خطوط القتال على الجبهات الحدود النمساوية.
ونختم هذا الاستعراض التاريخي الكيميائي بالمزج بين سيرة العنصر النسائي التي انفتحت في الفقرة السابقة وبين انخراط وتطوع الالف من الكيميائيين للمشاركة في الحرب بتسطير حقيقة تاريخية أنه حتى لحظة اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يعرف للعنصر النساء اللطيف أي تواجد ملموس في المختبرات الكيميائية ولا في مصانع الانتاج الكيميائية ولا حتى في قاعات المحاضرات بأقسام الكيمياء بالجامعات الغربية. لكن هذا الوضع تغير جذريا بعد أن أخذت الجيوش المتناحرة في بداية سنوات الحرب في استنفار واستقطاب شباب تلك الدول للمشاركة والتطوع في ساحات القتال (call-up for military duty) وكان مما استجاب لذلك كما لاحظنا الالف من شباب الكيميائيين وهنا ظهرت الفرصة التاريخية للجنس اللطيف للتقدم لسد الفراغ في المصانع والمختبرات وتوفير اليد العاملة لتأدية المهام الانتاجية أو البحثية التي كان يقوم بها الشباب والرجال قبل ذهابهم لجبهات الصراع الطاحنة وهذا ولا شك تأكيد للحكمة المدوية التي اطلقها قبل أكثر من ألف عام شاعر العربية الأوحد المتنبي عندما قال:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com