احتشد في الآوانة الأخيرة في صحراء المملكة العربية السعودية واحد من أكبر التجمعات الجماهيرية في العالم، الحج. وهو حدث سنوي في أقدس مكان للمسلمين، وهو واجب لمرة واحدة في العمر لكل مسلم بالغ قادر. أكثر من مليوني شخص يَأْتُونَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ إلى هذه البلاد، برّاً وجواً، من كل فج عميق، حيثما يقيم مسلم في العالم.
ومن المعلوم أن أي مكان توجد فيه حشود ضخمة على مساحة محدودة، يزداد فيه احتمال انتشار الأوبئة. وليس الحج بمنأى من ذلك، في أي صورة كان المرض من التهابات الجهاز التنفسي البسيطة إلى شلل الأطفال. الجديد هذا العام، هو بناء جدار للحماية في الحج لم يكن موجودا من قبل: نظام إلكتروني للإنذار المبكر، أقيم بمساعدة منظمة الصحة العالمية، ينذر بأول إشارة من أي نوع من أنواع التفشي. (يوم الجمعة هو آخر أيام الحج، وكخبر سار، لم يجرِ أي إنذار بعد). (يرجى الرجوع لتاريخ كتابة المقال – 23-8-2018 ).
ما تسمى بـ "أنظمة المراقبة المتلازمة" ليست مثالية؛ اذ أطلقت إنذارات كاذبة من قبل. لكن استعداد المملكة العربية السعودية لإنشاء واحد من هذه الأنظمة لا يشير فقط إلى الوعي بمخاطر الأمراض، بل يشير أيضًا إلى شفافية جديدة من حكومة كانت أقل اهتماما بخصوص الأمراض في الماضي. وإذا استمرت هذه الشفافية، يمكن أن تخلق مصدر بيانات واسع لمسؤولي الصحة العامة للتنبؤ بمخاطر التجمعات القادمة.
تنظيم الحج مهمة لوجستية معقدة للغاية ويجري بعيدا عن أنظار معظم دول العالم. المشاركة، والدخول إلى الأماكن المقدسة، يقتصر على المسلمين. الملايين الذين يحضرون يصلون على مدار أسابيع، لكنهم يتقاربون في رحلة ممتدة لمدة خمسة أيام تغطي ما يقرب من 30 ميلاً، تبدأ من المسجد الحرام في مكة المكرمة عبر مدينة خيام ضخمة (وادي مِنى) إلى منحدرات جبل عرفات والعودة. غالبًا ما تتوقف حركة مرور السيارات على أجزاء من الطريق أو ينسد طريق بكثرة من يسيرون فيه. قد تستعر الحرارة إلى مستوى رهيب – ارتفعت درجات الحرارة هذا الأسبوع إلى 110 درجات فهرنهايت – وتكتظ الحشود بدرجة عالية، فقد سبق أن وقع بعضهم على بعض بما أدى إلى وفيات في فترات الذروة.
في هذه الحشود تلتقي عوامل: الجفاف، والإرهاق، والمساكن المغلقة، والطعام المشترك وشفرات الحلاقة، وملامسة الجلد الجلد، وملابس إحرام الرجال التي تحسر عن الرأس وبعض الجزء العلوي من الجسم – كل ذلك يفتح الباب أمام انتقال المرض. وقد سبق تفشي مرض المكورات السحائية، وأمراض الجهاز الهضمي، والالتهاب الرئوي، والإنفلونزا (تتغير تواريخ الحج وفقاَ للتقويم القمري، لذلك يقع في بعض الأحيان في موسم الانفلونزا).
من أجل حماية الحجاج، ألزمت وزارة الصحة السعودية الحجاج بالتطعيم ضد أمراض محددة: ضد التهاب السحايا والانفلونزا لكل شخص قادم، وضد الحمى الصفراء وشلل الأطفال إذا جاءوا من مناطق حدثت فيها هذه الأمراض في آونة قريبة. كما تثني عن الرحلة الأشخاص الضعفاء غير المحصنين على وجه الخصوص – النساء الحوامل، الأطفال الصغار والمصابين بأمراض خطيرة. في هذا العام يبدو أن الحجاج ملتزمون: حسب إحصائيات الوزارة، وجدت شبكة المستشفيات والعيادات الميدانية المرشحة لموسم الحج أن 96% منهم تم تطعيمهم ضد الحمى الصفراء، 87.5% تلقوا لقاح شلل الأطفال و80% تم تطعيمهم ضد التهاب السحايا.
الوزارة على معرفة بحالة التطعيم الخاصة بالحجاج لأنها تحاول بالفعل إدارة جهود رصد الأمراض في منطقة الحج. لكن لا شيء يضمن أنها سوف تتحرك بسرعة كافية للسيطرة على تفشي وباء محتمل. فمن الأمراض/الحالات ما لا يمكن تشخيصه، حتى ولو أجريت فحوصات، ومازال علماء الأوبئة قلقين منذ زمن طويل من أن يقوم الحج بتعزيز الأمراض وخاصة النادرة. ففي عام 2005، على سبيل المثال: تبين أن حالة شلل الأطفال في إندونيسيا ناجمة عن سلالة مأخوذة من القرن الإفريقي ربما تكون وصلت عبر المملكة العربية السعودية عن طريق حاج غير مدرك أنه أصلا مصاب. وتظهر الأدلة الجينومية أن فيروس حمى الضنك الذي تنقله البعوضة قد تم استيراده إلى المملكة عدة مرات على مدى عقود.
قبل خمس سنوات، كانت الحكومة السعودية محط تدقيق بعدما شعرت السلطات الصحية الدولية بأنها لم تكن منفتحة لمخاطر فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الاوسط التنفسية؛ وهو فيروس يصيب الجهاز التنفسي، ذو معدل وفيات مرتفع، وجد لأول مرة في ذلك البلد عام 2012. تفشى وباء هذا الفيروس عام 2015 في عدة مستشفيات في كوريا الجنوبية، بعد عودة مسافر من المملكة العربية السعودية، رغم أن الوباء نفسه بدأ قبل عدة أشهر من موسم حج لذلك العام.
وبسبب ملايين الحجاج الذين يأتون والأنشطة المصاحبة للحج، فإن المملكة العربية السعودية تُعدّ "وعاء مزج للعدوى الناشئة"، كما يقول بيتر جاي هوتيز، الذي قام بخمس رحلات إلى المملكة العربية السعودية للتفاوض من أجل مراقبة الأمراض وتطوير اللقاحات، بصفته مبعوث الرئيس الأمريكي باراك أوباما للعلوم. كما أنها تقع بين مناطق النزاع – في اليمن وسوريا والعراق – حيث تتزايد الأمراض مع انهيار البنية التحتية المدنية. هوتي، طبيب وعميد المدرسة الوطنية للطب المداري في كلية بيلور للطب، شارك في نشر بحث ظهر قبل أسبوع في مجلة بلوس للأمراض المدارية المهملة، يحتوي على لائحة تحذيرية بالأمراض التي قد يستوردها الحجاج أو ينقلونها إلى ديارهم، من كوليرا، لبكتيريا ذات مقاومة متعددة للمضادات الحيوية، لداء الليشمانيا.
يهدف النظام الجديد الذي أنشأته وزارة الصحة السعودية ومنظمة الصحة العالمية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط إلى تعزيز البنية التحتية للمملكة من خلال تركيب جهاز إضافي حساس – بل بالغ الحساسية- للكشف عن الأمراض. وهو يصدر إنذارًا في مركز القيادة الحكومي للصحة العامة الخاصة بالحج، استنادًا إلى الفرز الآلي للسجلات الطبية من المستشفيات والعيادات. لا تبدو المشاكل التي يبحث عنها النظام كبيرة بذاتها: ومنها الحمى، واعتلال الجهاز الهضمي، والسعال، ومشاكل الرئة، والأعراض العصبية. لكن الأمراض التي يمكن أن تسبب تفشيات سريعة تشترك في العديد من هذه العلامات والأعراض نفسها كمشاكل صحية بسيطة وغير ذات صلة. سيقوم النظام الجديد بإجراء تقييم أولي لما يحتاج إلى نظرة ثانية، وسيقرر مركز القيادة ما إذا كان يجب إرسال فريق الاستجابة السريعة.
وقد بدأ هذا النظام أول اختبار له هذا الأسبوع (يرجى الرجوع لتاريخ كتابة المقال) في ثماني مستشفيات و25 عيادة في محطتين على طول مسار الحج، وهو جهد مشترك لوزارة الصحة السعودية ومنطقة شرق البحر المتوسط لمنظمة الصحة العالمية. وذكرت منظمة الصحة العالمية هذا النظام في تدوينة هذا الأسبوع، لكنها لم تستجب لطلب إجراء مقابلة – لذا ليس من الواضح كيف سيتم الحكم على نجاح التجربة، وكيف سيتم توسيع نطاقها في السنوات اللاحقة، أو كيف قد تُستخدم البيانات لتحذير بلدان الحجاج في مما قد يكون قادمًا إليهم مع الحجاج العائدين.
تعتمد الاستراتيجية الكامنة وراء هذا النظام على البحث عن العلامات والأعراض الشاذة كإشارة تحذير مبكرة بحدوث خطب ما، وهي تعود إلى تجربة مركز التجارة العالمي والهجمات بالأنثراكس في الولايات المتحدة عام 2001، والخوف من احتمال أن تصبح الأسلحة البيولوجية أداة ميسورة للإرهاب الدولي. ويعتمد مدى نجاح هذا النظام الذي لم يسبق له أن عمل بالدقة المتوخاة من نشأته على مقدار البيانات المسبقة حول الأماكن التي يتم نشره فيها وحول الأشخاص المحتمل أن يكونوا قد تعرضوا.
غير أن الحج وضع فريد من نوعه. ولأن الحكومة السعودية تتحكم بشكل صارم في التأشيرات، فإنها تعرف بالضبط عدد الأشخاص الذين يدخلون البلاد، ومن أين أتوا، وبشكل دقيق أين هم خلال فترة وجودهم داخل حدودها. في عملية تحليل تفشي الامراض، غالباً ما يواجه مسؤولو الصحة العامة معضلة ما يعرف بالقاسم المشترك: فهم يعرفون عدد الأشخاص الذين أصيبوا بمرض ما، دون أن يعرفوا عدد الأشخاص الذين تعرضوا له، وبالتالي لا يمكنهم حساب معامل خطر حدوث المرض. لكن قد تكون المملكة العربية السعودية قادرة على الإجابة عن هذا السؤال – وحل هذه المعادلة قد يمنح نظام الإنذار المبكر قدرًا أكبر من قدرة التنبؤ عن تلك الموجودة في أماكن أخرى.
يأمل بعض الباحثين أن يكون للبيانات الناتجة من النظام السعودي الجديد استخدامات إضافية قد لا يتصورها مصممو النظام. فقد يكون مفيدًا ليس فقط للكشف عن الفاشيات أثناء الحج، ولكن أيضًا لتقديم لقطة شاملة عن الأمراض اليومية التي قد تنتقل عبر تلك الملايين المتزايدة أيضًا. يقول أميش أدالجا، وهو طبيب وكبير الباحثين في مركز جامعة جونز هوبكنز للأمن الصحي: "إن الناس متحمسون للمراقبة لاكتشاف الأشياء المخيفة جدا، مثل فيروس كورونا، ووباء إيبولا، والفيروس الوبائي القادم". "لكن من المهم حقًا معرفة ما الذي ينتقل بين الناس حتى لو لم يكن ذلك يسبب مرضًا شديدًا أو الموت للمرضى.
لا يمثل الحج عددًا هائلاً من الناس فحسب، بل أيضًا تنوعًا غير عادي – من حيث العمر، أو الدخل، أو الصحة أو المرض، والأصل الجغرافي. مجموعة البيانات التي يمثلونها بشكل جماعي نادرة الحصول، وستكون القدرة على تتبع الأمراض التي تنتقل عبرها أكثر ندرة. ستساعد هذه المعرفة بالتأكيد الأطباء في الخطوط الأمامية الذين قد يواجهون ويشخّصون الحجاج المرضى في السنوات المقبلة للحج. وإذا ما أتيحت هذه المعرفة مفتوحة للعامة، فلن يساعد ذلك في حماية العائلات والدول التي يعود إليها الحجاج فقط، بل ويسهم في المستقبل الصحي في العالم.
البريد الإلكتروني أ.د. عبدالرؤوف علي المناعمة: elmanama_144@yahoo.com
– دكتوراه في الأحياء الدقيقة /الجامعة الإسلامية بغزة