العلم أرقي أنواع المعرفة فهو المحرك للحقائق والخيالات ليعملا سويا جنبا إلى جنب فينسجا الإبداعات العقلية التي يفرزها العقل. والمشتغل بالعلم يعلم ولو بعض الشيء عما يبحث عنه ثم يضيف إليه من نتاجه. أما العقلية المكتسبة للمشتغل بالعلوم الإنسانية وخاصة الأدب قد تختلف عن عقلية المشتغل بالعلوم التجريبية. فذا كان الأدب يعبر عن العقل في حالته الوجدانية فالعلم التجريبي يعبر عن العقل في حالته الفكرية بعد أن يستشير كل الحواس ويحرث خلايا المخ ليخرج بمعادلة أو تفسير لملاحظة. ولذلك فالإشتغال بالأدب مؤكد يحتاج حالة وجدلنية قد تتخللها حالة فكرية، أما الاشتغال بالعلم فيحتاج حالة فكرية قد يتخللها حالة وجدانية. وأرقى أنواع المعرفة تتولد وتتشكل من تزاوج الأدب والعلم.
وتزاوج الأدب والعلم كتزاوج الروح بالجسد. فميكانيكا الجسد لا تدب فيها المشاعر ولا يسموا فيها الوجدان إلا بعد أن تدب الروح في الجسد. والعلم هو الجسد من ميكانيكا وبيولوجيا وزراعة وتكنولوجيا أما الأدب فهو الروح التي عندما تسكن جسد العلم تطلق فيه مشاعره ووجدانه وإفرازاته الفكرية الإبداعية. وعندما يتزاوج الجسد والروح لا ينظر أحد للجسد بقدر ما ينظر إلى البصمات الفكرية على وجه العموم والبصمات الوجدانية على وجه الخصوص. وكذلك الحال عندما يتزاوج العلم والأدب، فلا أحد ينظر إلى المنتج العلمي بقدر ما ينظر إلى المنتج الوجداني والفكري. ولذلك فكما تُجمل الروح الجسد، فكذلك يجمل الأدب العلم فيجعله حلو المظهر والمذاق وعبير الرائحة. وعلى الجانب الآخر فالعلم يهيكل الأدب ويجعل له سقفا وجدرانا وشبابيكا وبيوتا يراها الناس ويتفاعلوا معها. وعلى عكس مجتمعاتنا، فقد فطن الغرب لهذه العلاقة الحميمة واللزومية بين العلم والأدب فجعلوا له كليات متخصصة في العلوم والآداب فلابد من دراسة الإثنين جنبا إلى جنب وتطبيق نهج كل منهما على نهج الآخر. ومع أن الجامعات الخاصة وبعض الجامعات الحكومية قد طبقت هذا النهج في مقراراتها إلا أنه مازال الهدف البين منه للطلاب ولأعضاء هيئة التدريس غير واضح المعالم ومعظم المقررات اختيارية وليست اجبارية. كما أن معظم البرامج الدراسية في الجامعات الحكومية لا تطبق هذا التزاوج خاصة كليات العلوم الإنسانية التي قلما تدرج ضمن مقرراتها العلوم التجريبية.
الأهم هو أنه حتى إذا ما حدث التزاوج فهو زواج عرفي لأن المعضلة الكبرى مازالت أن كل أستاذ يدرس مادته المتخصص فيها سواء كانت علوم إنسانية أو تجريبية دون أن يربطها بالعلم الآخر مما يقلل من الإستفادة ويترك للطالب وظيفة الربط بين العلمين إن فعل. الغرض الأساسي من تزاوج العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية في نفس المقرر هو تحريك عقل الطالب في التفكر الوجداني والتأملي في العلوم التجريبية والتفكر والتدبر والتحليل العلمي في العلوم الإنسانية لكي يتشبع العقل بكل غذاء النفس بمذاقه ورائحته وألوانه المختلفة. لأن العالم متمكن من الأسلوب العلمي في الكتابة بأدواتها وقوانينها المختلفة التي تجعله يعبر عن نتائجه العلمية بسهولة ويسر مستعينا بأسلوب السرد والتحليل والمقارن والفلسفي، فمن السهل عليه بمكان استخدام هذا الأسلوب في الكتابة الأدبية. ولذلك فالعالم الذي يمتلك الموهبة الأدبية هو أقدر الناس على كتابة نص أدبي رفيع المستوى ببساطة لأنه يملك أدوات الكتابة الرصينة التي يستطيع تطويعها في الأدب بسهولة كيفما يشاء. بالإضافة إلى ذلك فإن العالم يمتلك أيضا معلومات علمية كبيرة ومتنوعة يستطيع أيضا تطويعها لتخدم نصوصه الأدبية خاصة في الخيال العلمي.
والتزاوج بين العلم والأدب وإظهاره في الفن والإعلام والتدريس في المدارس والجامعات هو أفصل وسيلة وأسرعها لتشكيل وجدان النفس بصورتها الطبيعية لتستقبل أمور الحياة بجمال وعمق واستقرار وثبات. ومن هنا تتشكل العقليات سواء كانت فنية أو طبية أو عسكرية أو هندسية أو غيرها بمواد متقاربة وإن إختلفت النسب. ومن هنا يأتي التفاهم الفكري والوجداني بين الجميع مع إختلاف وظائفهم ودرجاتهم. والتزاوج بين العلم والأدب يطرح بعض الأسئلة عن طبيعة هذه العلاقة الحميمة.
- ماذا يحتاج الأديب لكي يكون أديبا، وماذا يحتاج العالم ليكون عالما؟
- هل للمخ خلاياه الخاصة بالأدب والوجدان وأخرى خاصة بالإمتحان؟
- هل الأدب يحتاج حالة من التفكير مثل العلم؟
- هل يجب على المتلقي تصديق الحالة الأدبية كما يجب عليه حيال الحالة العلمية؟
- هل يحتاج الأديب أن يكون ملما بأدوات البحث العلمي ليتبعها في أدبياته؟
- هل يجب على العالم أن يكون ملما بمواهب الأديب ليبدع في علمه؟
- كيف يستفيد الأدب من العلم وخاصة التفكير؟
- من يستطيع الإبداع أكثر في الخيال العلمي، الأديب أم العالم؟
- ماهي طبيعة العلاقة بين الأدب والعلم، هل هي علاقة تكافلية أم طفيلية؟ هل نعتبر الأدب مهنة كالعلم أم مجرد هواية وحالة؟
تلك حزمة من الأسئلة الغنية في ثناياها بمفردات فكرية كل منها يحتاج إلى مقال مستقل في توصيف هذه العلاقة الحميمة بين الأدب والعلم التي حين تتحقق في شخص ما تتجسد في فكرة إبداعات تضيف إلى عالمنا الإنساني نكهة ومذاق غير مسبوق نستمتع به أيما إستمتاع. وهناك الكثيرون من أهل العلم من تزاوج لديهم العلم والأدب مما أثروا الحياة الأدبية بإبداعات بقيت بين جوانح القارئ والمثقف العربي كوريقات حانية بين الضلوع تحمي القلب من جفاف الحياة. فهناك د. إبراهيم ناجي وكيل مدرسة أبوللو الشعرية، د. مصطفى محمود، د. يوسف عز الدين عيسى، د. عبدالمحسن صالح، د. يوسف إدريس المعروف بطبيب الأدباء وأديب الأطباء، د. أحمد خالد توفيق وغيرهم من الأطباء والعلماء. وكذلك بعض المشتغلين بالعلوم العسكرية مثل محمود سامي البارودي، د. يوسف السباعي وغيرهم من العسكريين. ويشرفني أن أسلك هذا الطريق في التزاوج لعلي أفلح فيه وأضيف إليه. فقد نشرت روايتين هما "وقت للبيع" و "كانداليه" ومجموعتين قصصيتين "زحمة مشاعر" و "العشق الحلال" وتحت الطبع رواية "سفاري إلى الجهاز المناعي" وكتابين بعنوان "تأملات في بيولوجيا النفس" و "تأملات في النفس والحياة" بالإضافة إلى ما يزيد عن 30 مقالا في تبسيط العلوم بنهج أدبي يتذوقه القارئ المتخصص والغير متخصص.
والتزاوج بين العلم والأدب يظهر جليا في القرآن الكريم من خلال القصص القرآني الذي يقدم الحالة العلمية بصورة قصصية وأدبية رائعة كما في قصة سيدنا موسى والخضر، وقصة الملكين طالوت وجالوت، وقصة أهل الكهف، وقصة سيدنا نوح والطوفان، وقصة سيدنا إبراهيم والشمس والقمر وكذلك قصته مع النار وما فيها من خيال علمي يصدقه المؤمن، وقصة سيدنا سليمان مع بلقيس ملكة سبأ وكذلك مع الجن، وقصة الإسراء والمعراج لسيدنا محمد وما فيها أيضا من خيال علمي يصدقه المؤمن تصديقا قاطعا. ويمثل هنا القصص القرآني وسيلة رائعة لتبسيط الأمر وتقريبه لذهن المتلقي حتى يستوعبه ويفهمه ويحلله بسهوله ليطبقه ويأخذ منه العبر. وكذلك الأدب عندما يتزاوج مع العلم تكون وظيفته التشويق ورسم صور جمالية للنص الحاف فيبدوا للمتلقي وحبة أدبية يستسيغها ويألف بها.
وتزاوج العلم والأدب تمتد جذوره إلى أرض التاريخ البعيدة سواء عند علماء العالم عموما أو العرب والمسلمون مثل جابر بن حيان، ابن الهيثم، ابن سينا وغيرهم من العلماء الذين جمعوا بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية بما فيها الأدب. وقد كان هذا التزاوج آنذاك هو الواقع أما الآن فهو المأمول. الإنسان وجدان قبل أن يكون جسد ورغبات، والأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع والفنانون هم المنوط بهم تغذية هذا الجسد بالوجودان والمشاعر الحالمة لكي يستمتع بحلو الحياة. فإذا كان العلم ضرورة للواقع، فالأدب قارورة من الجمال تصون العلم ليتذوقه الناس .
البريد الإلكتروني للكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com