مما لا شك فيه أننا نشهد في هذه الآونة ثورة علمية هائلة في جميع المجالات تتمثل في اكتشاف واماطة اللثام عن العديد من الحقائق العلمية في نواحي العلوم المختلفة كالطب والهندسة والفيزياء والجيولوجيا والبيولوجيا وفي المجالات الحديثة مثل النانوتكنولوجي Nanotechnology والليزر والتكنولوجيا الحيوية Biotechnology. ومن خلال هذا التقدم الهائل في العلوم أصبح الإنسان قادراً على مواجهة العديد من المشاكل مثل اكتشاف الأمراض وتشخيصها مبكراً، مما يؤدي إلى وصف العلاج المناسب في الوقت المناسب.
يعد التعرف على الجينوم من أهم الاكتشافات العلمية الحديثة، حيث أدى إلى اكتشاف وظائف العديد من المورثات (الجينات) والتي استخدمت في مجالات عديدة لتوفير الاحتياجات الضرورية للإنسان. كما أمكن باستخدام الجينوم تعديل وتحسين سلالات مختلفة من الحيوانات والنباتات والتي تستخدم كمصادر غذائية للإنسان (انظر الجدول). ومع مميزات التقدم العلمي هذه إلا أن هناك كثير من المشاكل التي قد تحدث لو ابتعدنا عن أخلاقيات البحث العلمي. وسوف نتناول في هذا المقال الجينوم البشري واستخداماته في التكنولوجيا البيولوجية وتداعيات استخدامه خارج نطاق أخلاقيات البحث العلمي.
ما هو الجينوم البشري؟
الجينوم البشري Human Genome هو عبارة عن المادة الوراثية دي إن أيه "DNA" والتي تتواجد بداخل النواة في خلايا الكائنات الحية، ونلاحظ أن كلمة الجينوم هي مزج لكلمتين وهما (الجين) Gene والصبغيات (الكروموسوم)Chromosome . والجينوم يوجد في خلايا الكائنات الحية سواء كانت حيوانية أم نباتية، بسيطة أو معقدة التركيب. ويمكن تشبيه أهمية الجينوم لوظائف الخلية بأهمية المخ لوظائف الجسد. فالمخ Brain هو مكان التدبير حيث يقوم بالتنسيق والترابط بين الأعضاء المختلفة في الجسم مما يضمن استمرار عمل الجسم بشكل محكم ومنظم. ولأهمية المخ فإنه محاط بغلاف صلب وهو الجمجمة. وبالمثل وللأهمية القصوى للجينوم فإن الله سبحانه وتعالى قد وضعه في مكان أمين للغاية وهي النواة Nucleus التي تتوسط الخلية ولا يخرج الDNA منها أبداً بل يرسل نيابةعنه mRNA الحمض النووي الريبوسي الرسول لكي ينقل الرسائل المهمة للخلية والتي تترجم إلى بروتينات.
ولذلك إذا أردت معرفة الإنسان فما عليك إلا أن تفك شفرات جينومه. ففي الإنسان على سبيل المثال، توجد في الخلايا الجسدية 46 كروموسوم (23 زوج من الكروموسومات) بينما تحتوي الخلايا الجنسية على نصف هذا العدد من الكروموسومات أي (22+(X او ) 22+ (Y والتي تعطى 46 كروموسوم بعد اندماج الحيوان المنوي في البويضة بعد التلقيح. ففي النواة توجد الكروموسومات التي تتمثل في المادة الوراثية DNA والتي تحتوي على الجينات الوظيفية وغير الوظيفية. وتتكون المادة الوراثية من شريط مزدوج يلتف التفاف حلزوني حول نفسه حيث ترتبط النيكليوتيدات على كل من الشريطين بشكل مكمل ويدعم هذا الارتباط وجود بروتينات هستونية Histones.
لم تكن هناك معلومات كثيرة عن الجينوم أو المادة الوراثية إلى أن جاء اكتشاف العالمين واطسون وكريك لتركيب المادة الوراثية. ومع نهاية عام 1980 قدّر عدد الجينات البشرية التي اكتشفها العلماء في ذلك الوقت بحوالي 450 جين، وفي عام 1985 ازدادت إلى 1500 جين بعضها من الجينات المسببة للأورام والكوليسترول وأمراض أخرى. ولقد نشأت فكرة عمل خريطة للجينوم البشري تحديداً سنة 1984 حيث اشتركت ثماني عشرة دولة منها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والصين واليابان وروسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا وهولندا والسويد واسرائيل لإرساء خريطة جينية الجينوم البشري. وللأسف الشديد لم تكن من بين تلك الدول أى دولة عربية على الاطلاق. واستهدف المشروع عمل خريطة لمعرفة أماكن الجينات الوظيفية وغير الوظيفية على الجينوم البشري ومعرفة ترتيب القواعد النيكلوتيدية لكل جين على حدة مما يؤدى إلى استخدام تلك المعلومات في المجالات المختلفة مثل قطاع الصحة والصناعة والرزاعة وغيرها من المجالات المختلفة.
وبعد سنوات من العمل المتواصل تمكن العلماء من الانتهاء من رسم الخريطة الجينية للجينوم البشري حيث وجد أنه يحتوي على حوالي 30 ألف إلى 40 ألف من الجينات الوظيفية، وتسمى كذلك لأنها تحتوي على شفرات محددة يمكن ترجمتها إلى بروتين معين يقوم بوظيفة محددة لخدمة الخلية نفسها أو خلية أخرى. أما باقي الجينات فهي جينات غير وظيفية Junk genes لا يمكن الاستفادة منها في الترجمة (أي بناء البروتينات) ولكن تلعب أدواراً أخرى في الخلية. ونظرا لأهمية الجينوم البشري فإن الكشف عن تحديد أماكن الجينات الوظيفية 40 ألفاً على كل كروموسوم ومعرفة التتابع النيكليوتيدي (القواعد) أهمية بالغة. وتعرف عملية تحديد مكان الجين الوظيفي بإسم رسم الخرائط Mapping أما عملية تحديد ترتيب القواعد النيكليوتيدية لكل جينوم على حدة في الجينوم البشري تسمى باسم التتابع الجينى Sequencing. ومن خلال الدراسات المتواصلة والبحث في هذا المجال وجد أن طول جزئ ال DNA في كل خلية من خلايا جسم الإنسان يقدر بحوالي من 1.8 إلى 2 متر في الطول. ونظراً لأن جسم الإنسان يحتوي تقريباً على حوالي 100 ترليون خلية ولذلك فإن طول جزئ ال DNA في الجسم كله يقدر بحوالي 8000 ضعف المسافة بين الأرض والقمر ذهاباً وإياباً.
وقد وجد أن الجينوم البشري مكون من رسالة يتكون نصها من حوالي 3 مليار حرف وفي حالة كتابتها جملة واحدة فسوف نحتاج إلى 200 كتاب بحجم دليل الهاتف لكي تكتب جميع الحروف أي ما يعادل 100 ألف صفحة من الحجم الكبير. وتحتوي المادة الوراثية DNA في جسم الإنسان على حوالي 3000 مليون زوج من القواعد الوراثية، وبالتالي فإن جسم الإنسان يحتوي على 3 مليار زوج من تلك القواعد، وعليه يمكن استنتاج أن طول كل جين على حدة من ال 40 ألف جين الوظيفية يتراوح طوله من 20 ألف إلى 400 ألف قاعدة نيتروجينية.
كيف تمكن العلماء من فك شفرات الجينوم البشري
تمكن العلماء من فك شفرات الجينوم البشري بعملية تشبه لعبة القص واللزق، وذلك بالاستعانة بالبكتريا والبلازميدات Plasmids والتقنيات الحديثة من الأجهزة المختلفة مثل أجهزة الطرد المركزي عالية السرعة Ultracentrifuges والتي تعمل تحت درجات حرارة منخفضة وكذلك المعامل المجهزة لنمو تللك البكتريا وتكاثرها بشكل لا يوجد معه أي تلوث.
- تم فصل الجينوم البشري عن طريق استخدام مواد تعمل على فصل المادة االنوويةDNA من باقي مكونات الخلايا بحيث تكون في صورة شديدة النقاء ولا تحتوي على أي مكونات أخرى.
- تم تقطيع المادة النووية إلى شظايا (قطع صغيرة) من DNAتراوح طول كل منها من 40 ألف إلى 200 ألف حرف.
- وتم تمييز وفصل كل قطعة على حدة بحيث يمكن بعد ذلك معرفة مكانها الأصلي على الكروموسومات وبالتالي على الجينوم البشري.
- تم ربط هذه القطع (الشظايا) بصبغ اصطناعي بكتيري لاستنساخ عدد كبير من تلك الشظايا على أن يتم فصلها بعد ذلك من الخلايا البكتيرية.
- وبعد ذلك تم تكسير كل شظية على حدة إلى قطع أصغر حجماً وبصورة عشوائية ويتم ربط كل قطعة من تلك القطع الصغيرة بواسطة بلازميد Plasmid (البلازميد هوعبارة عن حلقة من المادة النووية تتمكن من التكاثر تلقائياً في الخلايا البكتيرية دون الاندماج مع المادة النووية للبكتريا).
- وتم ادخال البلازميد في الخلايا البكتيرية وبالتالي تم اكثار القطع الجينية المحملة على البلازميد مع زيادة أعداد الخلايا البكتيرية المتكاثرة وفصل البلازميد لاستخلاص القطع الجينية والتعرف على تسلسلل القواعد النيكلوتيدية عليها بواسطة استخدام التقنيات الحديثة.
نعمة اكتشاف الجينوم
تمكن العلماء منذ عام 1986 إلى الآن من فك معظم شفرات الجينوم البشري ومعرفة وظائف الجينات المختلفة التي توجد على الكروموسومات الجسدية والجنسية، وذلك بعد عمل متواصل ومجهود شاق في العديد من المخابر المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى كثيرة في انحاء العالم والتي ساهمت في تمويل هذا المشروع والذي وصلت تكاليفه إلى مليارات من الدولارات. ولعل من أهم الأسباب التي دفعت العلماء إلى فك رموز الجينوم البشري هو الرغبة في معرفة أماكن الجينات المسببة للأمراض الوراثية. ونستطيع القول أن الوقت قد حان للاستفادة من هذا الاكتشاف الهائل في حل المشكلات الصحية المختلفة والتي تنشأ نتيجة لحدوث طفرات في التركيب الوراثي، حيث يوجد أكثر من 400 مرض وراثي ناتج من هذه الطفرات الجينية وعلى رأسها مرض فقر الدم المنجلى Sickle cell anemia والعديد من الأمراض الأخرى كأمراض القلب والأوعية الدموية والأورام ومرض ضمور العضلات لدى الذكور ومرض السكري. وبالفعل، قد استطاع العلماء معرفة الخلل في كثير من الجينات وتصحيح الخلل بها باستخدام الجينات الصحيحة بدلاً منها. وفي بعض الدول توجد شركات تقوم بتحليل الجينوم البشري لبعض الأشخاص وبالتالي يستطيع أن يتعرف الشخص على ما إذا كانت هناك احتمالية لظهور أي مرض في المستقبل، وبالتالي يستطيع تفادي الإصابة بذلك المرض. ويمكن الاستفادة كذلك من الجينوم البشري في تصنيع الأدوية عن طريق الهندسة الوراثية مثل الانسولين وهرمون النمو. وعلى صعيد استخدام التكنولوجيا البيولوجية فإن اكتشاف أسرار الجينوم في الكائنات الحية الأخرى مثل الحيوانات والنباتات حيث يتم استنباط انواع جديدة تقاوم الأمراض وتحتاج إلى كميات بسيطة من المياه لكي تعطي محصول وفير.
نقمة التطبيق السيئ
ومع كل المميزات البالغة الأهمية لتطبيقات الجينوم البشري كما ذكر أعلاه، إلا أن اكتشاف الجينات الوظيفية في الإنسان والكائنات الأخرى قد يكون سلاح ذو حدين وذلك من خلال انتاج أشكال مختلفة من الكائنات الحية الغير مرغوب فيها مثل انتاج فيروسات أو بكتريا معدلة وراثياً واستخدامها في الحروب البيولوجية مما يؤدي إلى سيطرة بعض الدول على الأخرى ونشوب مشاكل اجتماعية وأخلاقية لاحصر لها. فعلى سبيل المثال، كلنا نعلم أن الخلايا الجسدية تموت بموت صاحبها ولكن الخلايا الجنسية قد تستمر حية لعدد كبير من الأعوام إذا حفظت حتى بعد موت صاحبها في ثلاجات تبريد. ومن هنا فإن هناك جدل واسع حول امكانية استخدام الجينات المعدلة في علاج تلك الخلايا وتكوين أجنة تحمل صفات وراثية مختلفة. وكذلك يمكن من خلال معرفة الخريطة الجينية أن يرفض الأزواج إنجاب أطفال، وذلك لاحتمالية وجود اعاقات طفيفة بعد الولادة، وحيث جرى العرف على تقبلها في معظم الأحيان مما قد يؤدى إلى نشوء مشاكل اجتماعية ونفسية. ومن خلال الجينوم البشري أيضاً وإساءة تطبيقاته يمكن تحسين النسل البشري باستخدام خاصية الانتقاء مما قد ينتج عنه وجود العنصرية والتمييز إلى طراز معين من البشر من حيث اللون والصفات الأخرى. ومن الممكن أيضاً في حالة العبث العلمي وعدم تطبيق أخلاقيات البحث العلمي أن يتم إنتاج أجنة بشرية معدلة وراثياً وذلك لأغراض بحثية. ومع اكتشاف الخريطة الجينية فإن بعض الحكومات قد تستخدم معرفة الخريطة الجينية ضد بعض الأفراد، وكذلك الشركات قد ترفض التأمين أو قبول الأشخاص للعمل لديها إذا ما اتضح أن الخريطة الجينية للمتقدم توجد بها احتماليات للإصابة بالأورام أو الأمراض الأخرى مستقبلاً. ومما سبق يتضح لنا قيمة أهمية اكتشاف الجينوم البشري وفك شفراته للاستفادة وللتطبيق في شتى المجالات الطبية والصناعية والزراعية وخلافه. ولذلك من الضروري أن تتجه الدول العربية إلى المشاركة والاستفادة من تلك الاكتشافات التي قد تؤدي إلى وجود علاجات غير تقليدية للأمراض المختلفة.
البريد الإلكتروني للكاتب أ.د. محمد لبيب سالم: mohamedlabibsalem@yahoo.com
البريد الإلكتروني للكاتب أ.د علي محمد النجار: Sabry_elnaggar2014@yahoo.com