"اللون الأبيض والأحمر ليسا أبداً بالضرورة أن يحملا معاني الحرب والسلام. فمع أنها هي التي تقتل العدو إلا أنها تتلون بـاللون الأبيض، تلك هي الخلايا المناعية. ومع أنها لا تقتل بل بها سر الحياة إلا أنها تتلون بـاللون الأحمر، تلك هي خلايا الدم الحمراء".
الهدف من مقالي هذا أن نتعلم من هذا الجهاز النظام والتخصصية في نظام العمل. صحيح أن جميع الخلايا في الجسم متخصصة، حيث أن خلايا كل نسيج تمت برمجتها للقيام بوظيفة واحدة، إلا أن خلايا كل نسيج لا تتحدث مباشرة إلى الخلايا الأخرى في الأنسجة المجاورة. وتزداد صعوبة التواصل كلما ابتعدت الأنسجة عن بعضها البعض. وتقوم خلايا كل نسيج بأداء وظيفتها المنوطة بها من خلال أوامر تأتيها إما مباشرة من نواة الخلية نفسها أو غير مباشرة من خلايا أخرى بعد أن تخضع لحكم الخلية المستقبلة للأوامر. وعلى عكس كرات الدم الحمراء التي تقوم بوظيفة واحدة والتي تجري جنباً إلى جنب مع كريات الدم البيضاء في الدم، نجد أن الأخيرة تقوم بأكثر من وظيفة، حيث تحترم كل خلية ما تقوم به الخلية الأخرى وتقدره بل تساعدها على القيام بوظيفتها في أفضل حال. ومع تعدد الوظائف التي تقوم بها الخلايا البيضاء إلا أنها تتعاون تعاوناً كبيراً بحيث لا تبغي خلية على الأخرى، بل تعمل كفريق واحد وتتحدث سوياً، بل وتنادي على بعضها البعض إذا لزم الأمر لطلب المدد والعون ليأتي باقي أعضاء الفريق الذي يسكن في مناطق نائية من الجسد.
والخلايا المناعية درجات ورتب، مثلها تماماً مثل الرتب بوزارة الداخلية والدفاع. فهناك خلايا بسيطة الحال وكثيرة العدد مثل عساكر الأمن المركزي، فهي التي تتصدر لأي جسم غريب فتتعامل معه بسرعة عالية وقوة ضاربة دون التفريق بين نوع هذا العدو سواء كان فيروس أو بكتيريا أو طفيل فهي تضرب بلا هوادة فليس لديها وقت للتفاهم. ولكي تقوم عساكر الأمن المركزي هذه بوظيفتها فقد تم تسليحها بمجسات مختلفة على سطحها تستطيع بها التعرف على أي جسم غريب. ولا تترك هذه الخلايا المعركة – والتي تبدأ خلال ثوان من التعرض للعدو – إلا بعد موت العدو أو موتها. وفي كل الحالات لا تترك هذه الخلايا أرض المعركة إلا بعد أن تنظفها من أجساد القتلى أولاً بأول.
ولكن إذا ماتت هذه الخلايا أثناء المعركة فتقوم بتقديم نفسها وما بها من بقايا أجساد العدو إلى خلايا أخرى أعلى منها قليلاً في الرتبة، خلايا تم تزويدها بآليات للتعرف على هذه الأجساد وتمكنها من أن تكمل المعركة، وذلك بالاستمرار في الهجوم وقتل العدو وفي نفس الوقت تقوم بتقديم بقايا الأجساد التي استلمتها إلى خلايا أخرى أعلى رتبة منها ولها القدرة على التعامل مع أي خلية في الجسد استطاع الميكروب أن يختبأ بـداخلها للهروب من القتل. ولذلك تلعب هذه الخلايا دوراً محورياً بين ربط الخلايا الأقل والأعلى منها رتبة. ولأهمية هذه الخلايا في عرض أجزاء جسم الميكروب للخلايا الأرقى منها فقد زُودت بإمكانية غير عادية لزيادة مساحة سطحها عن طريق مد زوائد تشبه أعواد المكرونة الإيسباجيتي تخرج من سطحها في كل الإتجاهات تحمل عليها مجسات تستطيع تقديم الآلاف من قطع أجساد العدو إلى الخلايا الأعلى منها رتبة. وبسبب وجود هذه الزوائد التي تشبه فروع الأشجار سميت هذه الخلايا بالشجيرية. وتشبه هذه الخلايا في وظيفتها ودورها صف الضباط في الجيش والشرطة واللذين يقومون بالربط بين العساكر (الجنود) من ناحية والضباط من ناحية أخرى.
وقد تنتهي العساكر من هذه المعارك في خلال ست ساعات ولكنها قد تطول أحياناً إلى يوم كامل حسب شكل وأعداد العدو. تستغرق هذه الفترة الانتقالية من يومين إلى ثلاثة أيام وهي فتره كافية لتقوم الخلايا الشجيرية من الإنتهاء من وظيفتها. وهنا يأتي دور الضباط برتبهم المختلفة والتي تعرف جميعاً بالخلايا المتخصصة لأنها الوحيدة التي تستطيع أن تتعرف على العدو بمجرد أن تتحسس قطعة صغيرة منه قدمتها لها الخلايا الشجيرية. وما أن تتعرف على هذه القطعة من جسد العدو حتى تبدأ بالزئير وتجميع كل قواها التي تسكن فيها لتزداد في العدد أضعاف مضاعفة بحيث تكتسب كل خلية تتولد منها خاصية التعرف على نفس الجزء من جسد العدو كالخلية الأم.
وهناك ثلاثة أنواع من هذه الخلايا المتخصصة. أعلاها رتبة هي الخلايا التائية وأدناهم رتبة الخلايا البائية. وما هذه الأسماء سواء كانت بائية أو تائية إلا رمزاً للمكان الذي تنمو وتنضج فيه هذه الخلايا وكذلك وظيفتها. والخلايا التائية هي أعلى رتبه لأنها لا تتعرف على العدو ببساطة بل لها شروط تعرفها بقية الخلايا. والخلايا التائية هذه نوعان. نوع هو الأعلى رتبة وهو الذي يأمر بالقتل ويقتل كل خلية في الجسد يختبأ فيها الميكروب الذي تعرفت من قبل على جزء من جسده. وقد زودت هذه الخلايا بأساليب عديدة للقتل ولكنها لا تستخدمها أبداً وعمداً لأذية نفسها ولا أذية خلايا الجسد الأخرى الذي تقوم على حراستها. وأدوات الموت هذه قد تشمل تلامس الأكتاف مع الخلية المصابة بالميكروب فيؤدي هذا التلامس إلى تشابك وعراك بالأيدي بأذرع خاصة تشبه أذرع الروبوت يؤدي في أقل من ثوان معدودة بقتل الخلية المصابة. وقد يشمل هذا التلامس أيضاً حقن مواد سامة محللة تشبه الصودا الكاوية أو مواد الحرب الكيماوية وذلك بأن تمد الخلايا التائية هذه أنابيب من جسدها فتغرسها في جسد الخلية المصابة فتشل حركتها تماماً ثم تفجرها نتيجة تدفق السوائل إليها فتنتفخ الخلية المصابة وتنفجر. ولذلك سمي هذا النوع من القتل "بقبلة الموت". وقد تشمل آلية القتل إفراز كميات كبيرة من الرصاصات التي تحتوي على مواد محللة للخلية المصابة فتمطرها بوابل من هذه الرصاصات فتميتها على الفور. ولحسن الحظ فإن هذه المواد وبإبداع غير عادي تقوم بتنشيط الخلايا المناعية دون أن تؤذيها.
الخلايا القاتلة هذه ليست سيئة السمعة لأنها لا تقتل هكذا عشوائياً ولكن بشروط منها
- لا تتعامل إلا مع خلايا مثلها فتتركها إذا كانت سليمة وتتعارك معها إذا كانت مصابة.
- أن تتعرف أولاً على جزء صغير جداً من جسم الميكروب على أن تقدمه لها الخلايا الشجيرية فهي لا تتعامل أبداً مع الميكروب نفسه مهما كان حجمه، فلابد من قتله أولاً وإبتلاعه ثم تقطيعه إرباً لأجزاء صغيرة جداً بواسطة العساكر ثم تقوم صف الضباط من الخلايا الشجيرية بتقديم هذه القطع إليها.
- إذا حدث خطأ وقامت خلايا ضباط الصف بتقديم قطع صغيرة ولكن من الجسم نفسه وليس من ميكروب فلا تقوم هذه الخلايا بقتل الخلايا السليمه الصادر منها هذه الأجسام الصغيرة.
- لا تقوم هذه الخلايا بالعراك مع الخلايا المصابة إلا إذا تم تزويدها بمساعدة من خلايا تائية أخرى والتي يجب أن تتعرف هي الأخرى على الأجزاء الأكبر من نفس جسم الميكروب المطلوب قتله بشرط أن يتم ذلك في نفس الوقت الذي تتعرف هي فيه على الأجزاء الأصغر. وليس هذا فحسب، ولكن بشرط آخر وهو أن يتم تعرف هذه الخلايا القاتلة والمساعدة على الأجزاء الصغيرة والكبيرة من جسم الميكروب على نفس الخلية الشجيرية وذلك لضمان خصوصية القتل. وممكن تصور هذه العملية بصف ضابط وقد قام بالقبض على عدو كان يجري هنا وهناك فأمسك به وهاجمه وقضى عليه ثم أخذ بعض من علاماته ليقدمها بإحدى يديه إلى الخلايا القاتلة وباليد الأخرى علامة للخلايا المساعدة ليتعرفا عليها ويسجلاها في الذاكرة في نفس الوقت. وعندها يشتد أزر الخلايا المساعدة على الفور وتفرز مواد لتنشيط الخلايا القاتلة وحثها على التضاعف السريع لتعطي خلايا قاتلة جديدة. ثم تترك هذه الخلايا القاتلة والمساعدة لها مكان التعارف هذا وتبحر في الجسم باحثة عن أي خلية في الجسد أصبحت مصابة بهذا الميكروب وهنا لا تفكر كثيراً قبل أن تقضي على هذه الخلية المصابة أياً كان نوعها وموقعها في الجسد، فتخليص الجسد من الخلايا المصابة واجب وطني حتى لو تمت التضحية بخلايا الجسد التي كانت يوماً ما سليمة.
- لا تدخل هذه الخلايا في أي عراك ومثلها الخلايا المساعدة إلا إذا توفر على سطح الخلايا الشجيرية مجسات وعلامات محددة أثناء عملية التعرف تؤكد لها أن الأجسام المعرضة فعلاً لميكروب وليس لأجزاء من خلايا الجسد وذلك لأن الخلايا التائية هذه تعلم علم اليقين أن هذه العلامات لا يمكن أن تظهر على الخلية الشجيرية إلا إذا كانت قد تعرضت وتعاركت وقتلت جسم غريب وقطعته إرباً. أما في حالة حدوث خطأ نتيجة أن تعاركت الخلايا الشجيرية مع جزء من خلايا وافرازات الجسد فهنا تقف عند هذا الحد وتعترف بخطأها ولا تظهر هذه العلامات.
وبالإضافة للخلايا التائية عالية التخصص هذه توجد خلايا متخصصة أخرى وهي البائية والتي زودت هي الأخرى بأساليب قوية ومختلفة للقتال والقتل ولكنها أيضاً إكتسبت صفات تجعلها قادرة على تقديم القطع الصغيرة والكبيرة من جسم الميكروب شأنها في ذلك شأن الخلايا الشجيرية ولكن بأقل كفاءة بكثير نظراً لعدم قدرتها على تكوين زوائد على سطحها. ولأن هذه الخلايا لها وظائف الخلايا الأقل رتبة فيمكن اعتبارها أقل رتبة ودرجة من الخلايا التائية لأن الأخيرة لا تقوم إلا بوظيفة واحدة إما قتل أو المساعدة على القتل. ولتواضعها الجم وعلى عكس الخلايا التائية تقوم الخلايا البائية بالتعرف على الميكروب في أي من صورة. فهي تستطيع التعرف على هويته قبل موته وتقطيعه أو بعد تقطيعه أياً كانت هذه القطع صغيره أم كبيرة. وهي تقتل بإفراز كميات كبيرة من المواد التي لها القدرة على الالتصاق بالميكروب وشل حركته والتي نسميها الأجسام المضادة. ولا توجد في الجسم أي خلية أخرى قادرة على إفراز هذه المواد سوى الخلايا البائية. وتقوم الخلايا البائية أيضاً بمساعدة أي نوع من أنواع الخلايا التائية سواء كانت القاتلة أو المساعدة نفسها ولذلك فالخلايا البائية متواضعة للغاية وممكن القول أنها على رأي المثل حمالة أسية.
ومن هنا نرى أن الخلايا التائية أرقى وأعلى رتبة من الخلايا الأخرى بما فيها البائية وذلك لتخصصها الشديد في عملية القتال. والخلايا التائية القاتلة هي الأرقى من الخلايا التائية المساعدة والتي يقف نشاطها ووظيفتها على المساعدة فقط وإن كانت لا تقوم بهذه المساعدة إلا في وجود نفس الشروط التي تطلبها الخلايا القاتلة ولكن دون أن تقتل. ولأني أؤمن بأن الأمور الحياتية ممكن فهمها وتحليلها منطقياً من خلال دراسة العمليات البيولوجية، فنحن على هيئة أفراد أو مجتمعات أو دول من الممكن التعلم من الجهاز المناعي كيف يعمل وينظم عمل خلاياه وكيف تتعاون وكيف تقبل الترقي فيما بينها دون أن تتذمر. ونتعلم أن الأعلى في الدرجة ليس معناه ألا يعمل ولكن عليه أن يقوم بأهم المهام وهي الدفاع حتى الموت عن وطنه شريطة أن يقدم كل أبناء الوطن المعونة المخلصة. فالخلايا التائية القاتلة مع أنها الأرقى إلا أنها هي التي تقوم بأهم خطوة حتى لو كانت الأخيرة، بما في ذلك من خطر شديد عليها ولكنها لا تقوم بذلك إلا إذا توافرت لها كل الشروط والقواعد التي تضمن لها التدخل الآمن، وإلا حدث هرج ومرج وتعرض الجسم إلى ضرر شديد. ومع أن الخلايا التائية المساعدة على درجه عالية من الترقي فهي تلتزم بحدودها وتؤدي وظيفتها دون أن تخالف الخلايا التائية القاتلة.
هكذا نتعلم من الجهاز المناعي كيف أن وجود آلية محددة ومسبقة للعمل يتوافق عليها الجميع تجعل تنفيذ الأوامر قاطعاً ويسيراً حتى لو أدى إلى القضاء على بعض الخلايا المريضة لصالح الجسد ككل. فالخلايا المناعية لا تتردد أبداً في تنفيذ مهامها أياً كانت، فلا توجد هناك وساطات أو استثناءات. طريقة العمل هذه هي التي نحتاجها لنجاح المؤسسات وليس فقط نجاح الأفراد وذلك لغياب النظام (SYSTEM). ولذلك فلا غرابة أن نطلق لقب "جهاز" على كل مجموعة من الأعضاء في الجسم التي تقوم بعمل محدد مثل الجهاز المناعي وذلك لأنها تتبع نظام عمل ثابت ولا تحيد عنه بأي حال من الأحوال. ولا غرابة أيضاً أن يتعرض الجسم للأمراض والتي قد تكون مميتة أحياناً، إذا حدث أي عطب في عمل أي جهاز. ولذلك فالمشكلة الحقيقية وراء متاعبنا في الحياة عموما هي عدم وجود نظام عمل جهازي يطبق على الجميع أياً كان وفي أي زمان ومكان. والغريب أن الدول أطلقت مسمى "جهاز" على بعض المصالح، ولكن للأسف لم يغير ذلك من الأمر شيئاً في كثير من الدول التي لم تنهض بعد، فلم يحل الاسم مشكلة عمل الجهاز نفسه. هكذا علمنا الله من خلال دراسة بيولوجيا أجسادنا وأوصانا أن نتعلم من الآيات التي بداخلنا والتي أعاننا سبحانه على اكتشافها حيث قال:﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ 21، سورة الذاريات
أقدم هنا الجهاز المناعي كجهاز فوق العادة ممكن التعلم منه الكثير من القواعد والنظم في حياتنا العملية دون اللجوء إلى فلسفات وسفسطة علمية. ولن نجد جهازاً يعمل بهذا النظام المعقد وبكفاءة عالية مثل الجهاز المناعي، ليس لأني منحاز لهذا الجهاز بحكم تخصصي في عمل هذا الجهاز باحثاً وأستاذاً، ولكن لبراعة هذا الجهاز المتحرك والذكي والمتخصص والذي يعرف كيف يفرق بين العدو والحبيب ليقتل العدو ويترك الحبيب حتى لو اضطر أن يضحي بكثير من خلاياه. ويكفي أنه يحفظ في ذاكرته أشكال الميكروبات وكيف يؤمن ويعمل بناء على التخصصية مطبقاً النظام بصرامة وجدية وتضحية غير عادية.
البريد الإلكتروني للكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com