الصحة العامة، مهنة الطب، وبناء الدولة في الوطن العربي: نظرة تاريخية
إليزابيث لونغينيس - سيلفيا شيفولو - نبيل قرنفل - عمر دوه جي
الكاتب : أ.د .محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم/جامعة طنطا
12:00 مساءً
11, نوفمبر 2015
قال الله تعإلى "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَأواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاً" سورة الأحزاب
"قد تكون الأمانة ممثلة في كلمة أو كلمات. والكلمات هي طاقة الأرواح وهي الإفرازات العقلية التي بدورها نتاج البصمات العقلية. والكلام العاقل هو الذي يحرك العقول فتهتز الكلمات وتتظاهر في مسيرات سلمية تردد شعارات في ميادين الجمل الراقية داعية إلى حالة إنسانية تتحول فيها الكلمات إلى أفعال تديرعجلة الحياة بعيداً عن المصادمات الدموية. وهكذا يكون إعجاز الكلمات عندما يعلم أصحابها بجمال بصمات حروفها. وفي هذا المقال أقدم إجتهاداً عن العلاقة بين البصمة العقلية وإفرازاتها الفكرية".
العلاقة بين العقل والفكر
العقل والفكر لفظان مختلفان، ووجودهما في القرآن أكبر دليل علي ذلك، ولا نقصد بالعقل هنا" الدماغ ". فما هو العقل؟ وما هو الفكر؟ هل هناك علاقة بينهما؟ وإن وجدت فما نوعها؟ هل هما متضادان أم متكاملان أم متوازيان ؟؟ ولو تأملنا آيات التفكر نجد أنها تحث على البحث في الحكمة من وراء ما نراه بينما آيات العقل تشير إلى الظواهر البينه الظاهره التي يمكن إدراكها بالحواس. وبالتإلى فإن التفكير مرحله أعلى من العقل حيث يجمع الإنسان بحواسه المعلومات ويحيط بها ثم يقوم بربطها ليشكل الحقائق ويصيغ الواقع ثم معالجه هذه البيانات لتكوين مفاهيم غير ملموسه بشكل مباشر فيكتشف ويستنتج ويطبق مأوصل إليه في حياته ويستفيد منه. فالعقل يوصل الإنسان إلى الإيمان بالله والتفكر يزيده مرتبه في الإيمان.
وقبل الحديث عن العلاقة بين البصمة العقلية والإفرازات الفكرية أود أن أقدم التفكير وأنماطه المختلفة التي بناءا عليها ينتج العقل افرازاته الفكرية. والتفكير في أبسط صورة هو سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواس الخمس. والتفكير بمعناه الواسع هو عملية بحث عن معنى في الموقف أو الخبرة، وقد يكون هذا المعنى غامضا حينا وظاهراً حينا آخر، ويتطلب التوصل إليه تأملاً وإمعانا للنظر في مكونات الموقف أو الخبرة التي يمر بها الفرد. ومن الممكن تقسيم مناهج التفكير إلى أنماط أربعة هي :التفكير البدائي والقياسي (الإستدلإلى) والمركب والناقد والإبتكاري والعلمي.
والتفكير العلمي يتطلب قدرات خاصة للمفكر منها الطلاقة وهي القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة. المرونة وهي القدرة على تغيير الحالة الذهنية والأفكار بتغيرالموقف والتحرر من القوالب النمطية في التفكير. الأصالة وهي القدرة على إنتاج الحلول الجديدة والطريقة وعدم تكرار الأفكار والحلول التقليدية للمشكلات. الإثراء وهي القدرة على إضافة تفاصيل غزيرة على فكرة أو إنتاج معين. ويشمل حل المشكلات في التفكير العلمي المراحل الاتية:
ومن هنا يتضح أن للتفكير مميزات كثيرة منها اكتساب القناعة والتعرف على النفس وما لها وما عليها. كما انه يجدد الإيمان والبصر النافذ في الأمور سواء كانت الأخروية أو الدنيوية مما يقلل من التصادمات الانسانية. وبالطبع عمليات التفكير آيا كان نوعها تتم من خلال العقل. والعقل أمانة أودعها الله سبحانه وتعإلى لدي الإنسان دون المخلوقات الأخرى. وكما أن هناك بصمات حسية للأفراد مثل بصمة الأصابع وبصمه العين وبصمه المادة الوراثية والتى لا تتشابه بين إثنين فهناك أيضا بصمات معنويه مثل بصمة العقل وإفرازاتها الفكرية. وإذا كانت البصمات الحسيه لا تتأثر بالظروف وتبقى كما هى طوال الحياه، فهل تنطبق نفس الحقيقه العلميه على البصمه العقلية وإفرازاتها الفكرية أم أن الأخيرة تتأثر وتتغير بالتأثيرات البيئية. فإذا كانت البصمه العقلية ثابته فمعناه أن العقل ثابت في فكره وإن ظهرت إفرازاته الفكرية بأشكال مختلفه. وحينئذ لا يكون هناك مردود من النقاشات الفكرية مهما طال النقاش حيث تبقى البصمه الفكرية ثابته وتصبح المناقشات والحوارات لا رجاء منها تحتويها دائره بـداخلها بصمات عقائديه لا تتغير ولا تخرج عن حيز الدائرة ولا تتأثر بما خارج الدائرة.
أما إذا كانت البصمه العقلية ثابته ولكن افرازاتها الفكرية متحررة حينئذ تكون البصمه الفكرية قادرة علي أن تتغير وتتشكل وتتمدد وتنكمش على حسب الحاله الفكرية مع بقاء البصمه العقلية ثابته . فالتغيير هنا ليس فى البصمه ذاتها ولكن فى افزازاتها الفكرية. واذا كان ذلك حقا تكون المناقشات والحوارات مفيدة وذات مردود إيجابي حيث يتأثر الفكر ويؤثر ويعطى ويستوعب الإفرازات الفكرية الأخرى أيا كان مصدرها من أفراد أو مجتمعات أو مساجد أو مدارس أو جامعات ولكن تبقى دائما البصمه العقلية بمثابه الإطار الذهنى للإفرازات الفكرية. وقد أشبه الفرق بين ثبات البصمه العقلية من جانب وتغير الإفرازات الفكرية من جانب أخر كالماء فى حالته الصلبه (المتجمده) والسائلة. فثبات البصمه العقلية وإفرازاتها هو بمثابة الماء المتجمد فى الإناء والعكس تماما عندما توضع نفس كميه الماء ولكن في حالة سائلة في نفس الإناء أو أواني أخرى حيث يتغير شكل الماء بتغير شكل وحجم الإناء دون أن يؤثر على خصائص الماء نفسه. ونحن أحوج ما يكون إلى إفرازات فكريه تعبرعن البصمات العقلية لكل منا ولكن علي شكل الماء السائل عندما يوضع فى الأواني الفكرية فيتمدد باتساعها وينكمش بتضييقها.
وقد أشبه أيضاً الثبات العقلى مع الجمود الفكرى وإختلافه عن الثبات العقلى مع التحرر الفكرى بمرض أصاب الجسد حتي أصبح الجزء العليل شاذا عن أجزاء الجسم السليمة الأمر الذى يتطلب علاج دقيق يستهدف العله والتي تمثل هنا الافرازات الفكرية – فيصححها حتى تعود عافيه مره أخرى وإن طال أمد العلاج دون أن يؤثر علي الخلايا السليمه – والتي تمثل هنا العقل. وقد يتحول الجمود الفكري من حالة مرضية بسيطة الى ورم مما يتطلب تدخل جراحى لإزالته. وقد يفسر تحليلي هذا وإعتقادي بنظريه الماء السائل والإفرازات الفكرية وجود العديد من الإختلافات البينة في النقاشات والحوارات الفكرية للعقول المتحأورة فمنها ما هو متفتح ويقبل الرأى والرأى الأخر فيعطى ويستوعب فيكون الإدراك الفكرى لمنطق الأمور. وعلى الجانب الاخر هناك عقول ينطبق عليها نظريه البصمه الفكرية الثابته والماء المتجمد حيث يصير الحوار بين الأطراف جامدا متجمدا فلا ينفع بل يضر. ولأن لكل قاعده شواذ فإنى أعتقد أن ثبات البصمات العقلية وإفرازاتها الفكرية هو الشذوذ عن القاعدة وهي ثبات البصمات العقلية مع المرونة الفكرية.
ويبقي السؤال الكبير، كيف يتم التعامل مع البصمات العقلية الثابته ذات الإفرازات الفكرية الجامدة. والإجابه على هذا السؤال من الصعوبة بمكان ولكن قد يكون من الممكن علاج الجمود العقلى والفكرى على مستوى الفكر وليس العقل وذلك لإعتقادى ان جمود الفكر هو نتاج مؤثرات بيئية أو مجتمعية صارمة أدت الى اختزال المسافة بين البصمة العقلية الثابتة وإفرازاتها الفكرية بحيث أصبحا وحدة واحدة. ومع أنه من الممكن التدخل جراحيا لفصل البصمة العقلية عن إفرازاتها الفكرية إلا أن التدخل الجراحى قد يفشل حيث قد يؤدى إلى عطب أحدهما أو كلاهما. ولذلك فالعلاج الأمثل قد لا يكمن في الجراحة بل في تعرض الإفرازات الفكرية لمؤثرات خارجيه لفترات طويله الأمد قد تؤدى فى النهايه إلى رسم الحدود بين كلا منهما فيصبح الإفراز الفكرى حراً ومجدداً وليس منفذاً بصورة عمياء لبصمة المحتوى العقلي.
وكما للجمود الفكرى من عيوب بينه فان التحرر الفكرى أيضا قد ينتابه بعض العلل فقد يكون الفكر المتحرر هذا دون المستوى فيظهر ضعيفاً يسمح باختراق الفكر الأخر بسهوله وبدون مقأومه مثله مثل الجسد العليل عندما تتداعى عليه وتصيبه الميكروبات لضعف جهازه المناعى. وقد يكون تحرر الإفرازت الفكرية زائدا عن الحد فيصبح منفراً للأخر وذلك مثله مثل الجسد الذى يصاب بالامراض ذاتيه المناعه نتيجه لإفراط ملحوظ فى نشاط الخلايا المناعيه فتبدأ بمهاجمة الجسد فتؤدي إلى تأكله وانكماشه وقد يكون الموت فى النهاية. وعادة ماتحدث هذه العلل مع الشباب حديثي السن وقليلي الخبرة وذو النظرة السطحية للأمور خاصة في عصر العولمة وتكنولوجيا الاتصالات. فمن السهولة بمكان ان تخترق الافكار الأجنبية أو الغريبة افكار الشباب المتحرر الذي لا يعي ثقافته وعاداته ودينه ثم ينقلها لمجتمعه دون ان يدري فيؤثر فيه تأثيراً سلبياً. وقد صاغ القدماء مقوله "العقل السليم فى الجسم السليم" وأنا أضيف "الجسم السليم هو العقل السليم" وسلامة العقل هنا هى المرونه الفكرية المعبره عن البصمه العقلية لكل فرد مثلها في ذلك مثل أوراق شجره اللبلاب التى تنمو من جذر ثابته ولكنها تتشكل بشكل الجدران التى تنمو عليها.
وحيث أن الكثير من الظواهر الحياتية والفكرية من الممكن ردها إلى ظواهر بيولوجية، فإن نظرية البصمة العقلية والإفرازات الفكرية تذكرني بالخلايا المناعيه المتخصصه (الليمفاوية) حيث لديها قدره فائقة علي التعرف علي الأجسام الغريبه. وقد تمثل هذه الظاهرة أو الوظيفة بالبصمه العقلية حيث أن كل خليه مناعيه لها بصمة خاصة بها فقط ومختلفة عن بصمة الخلايا الأخرى بحيث كل بصمة تتعرف علي جسم غريب واحد دون الأخر. وبعد ان تتعرف الخلية المناعيه علي الجسم الغريب ببصمتها تقوم الخلية بترجمه هذا التعرف من خلال مجموعة من العمليات الدقيقه إلى إشارات متشابكة تؤدي مجتمعة إلى افراز بروتينات قد يزيد مستواها أو ينقص حسب الحالة المناعيه والتي تشبه هنا الإفرازات الفكرية الناتجة عن البصمة العقلية. وحتى تستقيم وتصح العلاقات الإنسانية فعلى كل عاقل أن يحرص على معرفة بصمته العقلية وطبيعة إفرازاتها الفكرية وإذا ما كانت الأخيره جامده أو متحرره وذلك كحرصه على معرفة بصمة اليد والعين والماده الوراثية. فالعلم بالشىء يظهره فى أحسن صورة ويجعله مفيداً. ومن يدرى لعل يأتى إلىوم الذى يسجل فى بطاقه الرقم القومى لكل منا نوع بصمته العقلية ونوع إفرازتها الفكرية. فقد يكتب يميني أو يساري أو شمالي أو جنوبي أو الإتجاهات التى بينها مثلها مثل فصيله الدم وبصمة الأصابع والعين والمادة الوراثية وبصمة الأنسجة التوافقية على الخلايا المناعية.
وعلينا ألا ننتظر حتى يتم الكشف عن بصماتنا العقلية والفكرية لأن كل منا يستطيع تحديد بصمته. فقد أرى علي سبيل المثال أن بصمتي يمينية/شرقية وأعني باليمينية الاعتدال والشرقيه الميل تجاه موروثاتنا الفكرية والتى تستوعب جميع الأفكار العقائدية. ولأن العقل أمانة استودعها الله في عقولنا، فعلينا أن نكون قادرين على حمل الأمانة وحمايتها من كل جمود أو زيادة أو نقصان فكرى الأمر الذى لا يتم إلا بفضل وتوفيق من الله الواهب للأمانة واجتهاداً منا مع إرادة وتصميم لصالح العلاقات الانسانية ببساطة لأن الدين هوالمعاملة.
اللهم أنرعقولنا وزكي بها أفكارنا.
البريد الإلكتروني للكاتب: Mohamed.labib@science.tanta.edu.eg
الكلمات المفتاحية