أثبت الباحثون في جامعة نيوساوث ويلز (UNSW) أن تخزين البيانات في الحمض النووي بات أمرًا ممكنًا. ولقد بات من الممكن حاليًا أن يتم الحفاظ على إرث البشرية جمعاء، بما في ذلك سوناتات شكسبير، بطريقة تخزين أفضل في قواعد البيانات المشكلة من الحمض النووي «DNA». فهل يلبى هذا الحل النهائي الاحتياجات المتزايدة لتخزين المعلومات في هذا العصر الرقمي؟ لقد حان تحقيق هذا الحلم الذي بات أقرب إلى الواقع بعد الكشف عن تقنية جديدة صممت لهذا الغرض في طبعة هذا الأسبوع من مجلة "نيتشر" العلمية.
ومن المعروف أن الحمض النووي DNA هو عادة مدمج، خفيف الوزن وسهل النقل، وإذا خُزن في بيئة باردة، فإنه قد يستمر لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن أنظمة التخزين للحمض النووي «DNA» ليست متاحة تجاريًا حتى الآن، فإنها يمكن أن تشكل حلاً طويل الأجل للمشاريع والسجلات التاريخية التي تولد كميات هائلة من البيانات. ومن المعلوم أن جميع النظم البيولوجية استخدمت الحمض النووي باعتباره جزيء التخزين للمعلومات، ومازالت تستخدم هذ الطريقة لمدة تصل إلى مليارات السنين. ومن ثمّ فإنه يمكن تخزين كميات هائلة من البيانات المشفرة داخل مجلدات مجهرية، وفي الحقيقة فكل منا يحمل الدليل القاطع على ذلك المفهوم في كل خلية من مليارات الخلايا التي تحتويها أجسامنا.
في الورقة البحثية التي تم نشرها في العدد الأخير من مجلة "نيتشر" العلمية العالمية أثبت فريق من الباحثين برئاسة نيك جولدمان وايوان بيرني من معهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي في مختبر علم الأحياء الجزيئي الأوروبي (EMBL-EBI) إمكانيات استخدام هذه التقنية لتخزين ونقلها للبيانات بشكل مماثل للطرق التي صنعها الإنسان، مثلما نجحت من قبل في نقل البيانات الوراثية عبر مليارات السنين.
وشملت البيانات، التي تتميز بحسن الاختيار، بعض العناصر المبدعة (الأيقونية) الشهيرة مثل سوناتة 154 لشكسبير، قام الفريق بترميز مقطع صوتي ومقتطفات صوتية بطول 26 ثانية من خطاب مارتن لوثر كينج الشهير "لدي حلم"، ونسخة من الورقة البحثية الكلاسيكية الشهيرة لواتسون وكريك التي كشفت عن البنية التركيبية للحمض النووي «DNA»، وصورة ملونة لمعهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي وملف يصف كيفية تحويل البيانات. وقام الباحثون بنشر نتائجها على موقع مجلة "نيتشر" العلمية، وهذه الملفات المخزنة في أشكال رقمية، شائعة موجودة تقريباً على كل سطح مكتب في أي جهاز كمبيوتر، قد تم ترميزها حرف بحرف من جزيئات الحمض النووي (بايت ببايت) وتم شحنها من الولايات المتحدة الأمريكية إلى ألمانيا دون تعبئة أو تغليف متخصص، وأخيراً تم فك الشفرة مرة أخرى إلى صيغها الإلكترونية الأصلية. ويمثل هذا المشروع، بقيادة جولدمان نيك من معهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي في هينكستون ببريطانيا(EBI) خطوة أخرى نحواستخدام الأحماض النووية باعتبارها طريقة عملية لتخزين المعلومات – وهى واحدة من أكثر الطرق إحكاماً ومعمرة أكثر من وسائل التخزين الحالية مثل الأقراص الصلبة أو الأشرطة المغناطيسية.
على الرغم من أن هذه الدراسة اشتملت فقط على أقل من واحد ميجا بايت من البيانات في المجموع، لكن هذا الحجم من البيانات بالفعل أكبر حجماً من جميع ما سبق تشفيره كـحمض نووي «DNA» مُخلق من قبل. ويرى المؤلفون أنه في نهاية المطاف، وبشكل مقنع، أنه يمكن توسيع نطاق هذه التقنية لإنشاء سعة تخزين قد تتخطى حجم جميع المعلومات الرقمية المخزنة في جميع أنحاء العالم اليوم بحجم قد يصل إلى واحد زيتابايت، وهي حوالي 1015 ميجا بايت. ومن المعلوم أن الحمض النووي «DNA» يُعَلب المعلومات في مساحة أقل بكثير من وسائل التخزين الأخرى. فعلى سبيل المثال، فإن مختبر الجسيمات الأوروبي للفيزياء «CERN» المتواجد بالقرب من جنيف، يخزن حالياً حوالي 90 بيتابايت من البيانات على نحو100 من الأقراص (الشرائط). ويمكن لطريقة جولدمان أن تخزن جميع تلك البيانات في حوالي 41 جراما من الحمض النووي «DNA».
التقاط البيانات
قام فريق جولدمان بترميز 5.2 مليون بت من المعلومات في الحمض النووي «DNA»، وقام فريق جورج تشيرش المتخصص في علم الوراثة الجزيئية في كلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن، ماساتشوستس بترميز نفس الكمية من البيانات تقريبًا. ولكن فريق تشيرش استخدم طريقة ترميز بسيطة (شفرة بسيطة)، حيث مثلت قواعد الحمض النووي «DNA»، الأدينين أو السيتوزين أصفارًا، ومثلت قواعد الجوانين والثايمين الرقم واحد. وأدّى هذا في بعض الأحيان إلى إستطالة الحروف نفسها، بطريقة يصعب على آلات قراءة التسلسل الوراثي قراءتها وتؤدى في النهاية إلى وقوع بعض الأخطاء. وفي المقابل قامت مجموعة جولدمان بتطوير شفرات أكثر تعقيدًا يمثل فيها كل بايت سلسلة من ثمانية أحرف من رقمي 1 أو صفر، في محاولة للحد من الأخطاء. علاوة على ذلك، قام الفريق بكسر شفرة ترميز قواعد الحمض النووي «DNA» إلى سلاسل متداخلة، كل منها بطول 117 حرفًا، مع إضافة معلومات الفهرسة لتوضيح المكان الذي تنتمي إليه كل سلسلة في التعليمات البرمجية بشكل عام. ويقوم النظام بتشفير البيانات في سلاسل متداخلة جزئيًا، بطريقة يتم فيها فحص الأخطاء في أي سلسلة عبر مقارنتها بثلاثة سلاسل أخرى. وقامت شركة اجيلنت تكنولوجيز في سانتا كلارا، كاليفورنيا، بتخليق هذه الجمل وشحنها مرة أخرى إلى الباحثين، الذين تمكنوا من إعادة بناء كافة الملفات بدقة متناهية (100%).
طريقة مثالية لتخزين البيانات
جزيئات الحمض النووي هي وسائل طبيعية للحصول على معلومات رقمية. أنها تتكون من أربع مواد كيميائية مرتبطة نهاية إلى نهاية مثل حروف الأبجدية لتقوم بتشكيل سلاسل طويلة مماثلة لسطر من النص. جزيئات الحمض النووي «DNA» مماثلة أكثر لتسلسل الأرقام الثنائية (0 و1) التي عادة ما يتم استخدامها في الحواسيب الرقمية لتمثيل المعلومات. وللحمض النووي «DNA» مزايا كبيرة مقارنة بالنص المطبوع والوسائط الإليكترونية. أهمها على الإطلاق ميزة واحدة فقط، وهي أنه يمكن أن يبقى مستقراً لفترات طويلة من الزمن مع حد أدنى من الرعاية. فقد تم استخراج الحمض النووي سليماً من العظام (وغيرها من المواد العضوية) التي تصل أعمارها إلى عشرات الآلاف من السنين، وتم إعادة بناء تسلسلها وحل تشفير بياناتها بقدر من التفصيل كما لوأنها كانت تأتي مباشرة من كائن حي في يعيش بيننا حالياً. وهناك ميزة أخرى للحمض النووي تتفوق على الوسائط الإلكترونية الأخرى، وهي أنه لا يتطلب أي امدادات بالطاقة للحفاظ على سلامته، مما يجعل من السهل نقله وتخزينه، وأن يكون عادة أقل عرضة لاحتمالات الفشل التكنولوجي. ولعل أكبر ميزة للحمض النووي كوسيلة للتخزين هو دقته (حجمه صغير جدًا). فعلى سبيل المثال، فقد نشر معهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي بالإشتراك مع مختبر علم الأحياء الجزيئي الأوروبي بياناً صحافياً في الصحافة الرسمية يدعي فيه أنه يمكن تخزين أكثر من 100 مليون ساعة من الفيديوعالي الوضوح في حجم يقارب حجم "الكوب" من الحمض النووي.
وللأسف، فلن تكون أجهزة التخزين DNA متوفرة في السوبر ماركت في أي وقت قريب. العقبة الرئيسة في هذه التقنية هي التكلفة العالية الحالية لتخليق الحمض النووي «DNA» بالكميات المطلوبة والتي تقدر بنحو12400 دولاراً لكل ميجا بايت من البيانات المخزنة. ولكن هذه التقنية قد تكون فعّالة من حيث الكلفة للمحفوظات التي يستهدف تخزينها إلى مئات أو حتى آلاف السنين، وهو أمر لا يفكر فيه الكثيرون. وعادة ما تكون أعلى تكلفة في مجال حفظ وتخزين البيانات والحفاظ على الأرشيف الإلكتروني عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة هي تكلفة نسخ البيانات واستبدالها دورياً، في حين أن حفظ البيانات من خلال الحمض النووي «DNA» يحتاج فقط إلى تخزينه في مكان بارد وجاف ومظلم فقط. ولكن إذا كان من الممكن خفض تكلفة تخليق الحمض النووي «DNA» إلى نصف أو ربع التكلفة الحالية والتي، إذا حكمنا من خلال الاتجاهات الحالية، فإنها يمكن أن تحدث خلال عقد من الزمن – فإن حلم تصنيع أرشيفات أو محفوظات الحمض النووي «DNA» التي يمكن أن تستمر لمدة أقل من 50 عاماً قد بات ممكناً.
وثمّة مسألة أخرى هي تكلفة فك المعلومات المخزنة في الحمض النووي «DNA» والتي تقدر بحوالي 220 دولار أمريكي لكل ميجا بايت. وبحسب هذا السعر المرتفع نسبياً، فإنه لن يتم استخدام أرشيف الحمض النووي «DNA» إلا نادراً. ولكن بالطبع من الممكن أن يتغير كل هذا في المستقبل القريب نظراً لتسارع وتيرة الإبتكار في التكنولوجيات ذات الصلة بالحمض النووي «DNA». ومع ذلك، فلا ينبغي لنا أن ندع هذه القضايا العملية تحوّل الأنظار عن أهمية هذا الابتكار المثير.
آراء المبتكرين
يقول جورج تشيرش: "اعتقد انها علامة فارقة مهمة حقاً "، ولقد قام شيرش بترميز مسودة كتابه الأخير في الحمض النووي «DNA» العام الماضي، وأضاف: "لدينا حقل واقعي الآن". ويقول غولدمان: " يجب أن تستمر هذه المعلومات لآلاف السنين في ظل ظروف باردة وجافة ومظلمة". كما هو واضح من استرداد الحمض النووي القابل للقراءة من الحيوانات المنقرضة منذ فترة طويلة. ويضيف: "تمت هذه التجربة منذ حوالي 60,000 سنة مضت عندما نفق الماموث العملاق ووضع هناك في الجليد، وهذه لم تكن عينات مجهزة بعناية". ويضيف جولدمان : "بينما وسائل التخزين الحالية مثل شرائط الكاسيت أو الأقراص المدمجة عفا عليها الزمن في أقرب وقت، ويتم استبدال كل منها واستبدال الأجهزة القارئة لها بالتكنولوجيا الجديدة، فسيظل العلماء يريدون دائما قراءة ودراسة الحمض النووي «DNA»، وقد تتغير طريقة سَلسَلة الحمض النووي «DNA»، ولكن يمكنك "لصق الحمض النووي «DNA» في كهف في النرويج لألف سنة قادمة وسوف نكون قادرين على قراءتها". وهذا يخلق فرص هائلة للتخزين لأمناء المحفوظات، والذين لن يكونوا مضطرين للحفاظ على شراء معدات جديدة لإعادة كتابة أرشيفهم في أحدث الأشكال.
ولكن كما ذكرنا من قبل فإنه يعوق هذه التقنية ارتفاع تكلفة الكتابة والقراءة، مما يصعب تحقيق الوعد بتمديد وسائل التخزين عن طريق استخدام تقنية الحمض النووي «DNA» إلى حد كبير. ومع ذلك، فإن هذه التكاليف تنخفض باطراد. وكما يشير المبتكرين، قد تكون هذه التقنية بالفعل قابلة للحياة اقتصادياً وجذابة لبعض المحفوظات الأرشيفية التي لا تحتاج للوصول إليها بشكل متكرر على المدى الطويل، بما في ذلك المحفوظات الحكومية وبعض السجلات التاريخية، أو المشاريع العلمية التي تولد كميات هائلة من البيانات. وتشمل أمثلة المشاريع العلمية التي تولد كميات هائلة من البيانات المهمة واسعة النطاق تجارب فيزياء الجسيمات وعلم الفلك والطب. ولكن ربما كان الجانب الأكثر إثارة في هذه الدراسة هو إثبات صحة المفهوم وأنه سيوفر زخماً كبيراً لمواصلة الإبتكار وفتحه للعديد من الأبواب غير المستكشفة من الإمكانيات.
المصادر
- http://bit.ly/11T4aw7
- http://pda.sciencealert.com.au/features/20132401-23993.html
- http://www.nature.com/news/synthetic-double-helix-faithfully-stores-shakespeare-s-sonnets-1.12279
البريد الإلكتروني للكاتب : tarekkapiel@hotmail.com