احتفل الأمريكيون باليوم الوطني للحمض النووي الديوكسي ريبوزي والمعروف اختصاراً بالـ"دي إن إيه" (DNA). وهو الاحتفال السنوي الذي يتم عادة في يوم 25 إبريل من كل عام لإحياء ذكرى اكتشاف بنية الحمض النووي.
بدأ الاحتفال بيوم الحمض النووي في عام 2003م، عندما تم الانتهاء من مشروع الجينوم البشري بعد مرور 50 عاماً على اكتشاف بنية الحمض النووي. وتم إقرار الاحتفال الرسمي بهذا اليوم بموجب قرار للكونجرس الأمريكي لتذكر أعظم الإسهامات العلمية في تاريخ البشرية حتى الآن. وجاء قرار الاحتفال بهذا اليوم تزامناً مع عدة احتفالات أقيمت في المحافل العلمية العالمية للاحتفال بالذكرى الخمسين لاكتشاف اللولب المزدوج في عام 2003م، وقامت بعض الدوريات العلمية بتخصيص أعداد كاملة للاحتفال بهذا العمل التاريخي. كما أصدرت دار سك العملات الملكية في بريطانيا قطعة نقدية جديدة ضمن الاحتفالات المقامة في الذكرى الخمسين لاكتشاف بنية الحمض النووي. ويمثِّل التصميم الخلفي لقطعة النقد الصادرة في فئة الجنيهين الإسترلينيين بنية جزيء "دي إن إيه" الفريدة، وقد وردت على طرفها عبارة "الحمض النووي الديوكسي ريبوزي".
كما طُرحت في السوق نسخ خاصة بأصحاب المجموعات مصنوعة من الفضة والذهب، ونسخة مخصَّصة للتداول. وما زاد روعة الاحتفالات في عام 2003م هو أن "جيمس واطسون" و"فرانسيس كريك" الحاصلين على جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا عام 1962م لإسهامهم في هذا الاكتشاف الكبير كانا لا يزالان على قيد الحياة وشاركا في هذه الفاعليات. ويأتي احتفال هذا العام بطابع خاص أيضاً، فقد شارك فيه وأحتفى به العلماء والمهتمين بالشأن العلمي في العديد من دول العالم؛ حيث يأتي هذا اليوم بعد 60 عاماً كاملة على اكتشاف بنية الحمض النووي.
تاريخ الحمض النووي الديوكسي ريبوزي
الحمض النووي (DNA) أشبه ما يكون بورقة التعليمات التي تصاحب الآلات. يأتي فيها اسم أجزاء الآلة ووظيفتها، و آلية تركيبها و تفكيكها. وهو موجود داخل كل خلية من خلايا كل كائن حي، وبه خريطة مفصّلة لكل صفاته التي يرثها منه أبناؤه. ويوافق هذا العام الذكرى الخمسين لاكتشاف اللولب المزدوج أو الحمض النووي (DNA). بدأت أولى محاولات اكتشاف الحمض النووي (DNA) في عام 1928م عندما ظهر لأول مرة أن الحمض النووي هو مادة الوراثة، بعد تجربة شهيرة أجراها العالم "جريفيث"، وأشار فيها إلى أن هناك "مادة" يمكن أن تغير التركيب الوراثي للبكتريا. وتم التحقق من أن هذه المادة هي الحمض النووي "حمض نواة الخلية" عام 1944م بواسطة عالمين أمريكيين، هما "آفري" و"مكلويد". ثم أجريت تجارب أخرى عديدة بعد ذلك، وأثبتت جميعها أن الحمض النووي الديوكسي ريبوزي هو الحمض الذي يحمل الصفات الوراثية التي تنسق جميع العمليات الحيوية في الخلية الحية. وجاء الحدث التاريخي الأهم في عام 1953م عندما تم الإعلان عن اكتشاف التركيب الجزيئي للحمض النووي؛ حيث وضع العالمان "جيمس واطسون" و"فرانسيس كريك" من مختبر "كافنديش" في جامعة "كامبردج" نموذجاً للحمض النووي يسمى بـ"اللولب المزدوج"، ونشر نبأ الاكتشاف في مقال علمي مقتضب، عرف رسمياً بأنه "رسالة" باسم "واطسون" و"كريك" في عدد مجلة "نيتشر" العلمية في 25 أبريل 1953م.
ومن الطريف أن "واطسون" و"كريك" لم يجريا أي تجربة عملية، ولم يحملا أنبوبة اختبار واحدة للتوصل لهذا الكشف المثير، ولكنهما وضعا نموذجهماً استناداً إلى البيانات التي وفرها باحثون في مختبرات جامعة "كامبردج" على مدى 3 سنوات، وكان من أهمهم البروفيسور "موريس ولكنز" الذي استخدم الأشعة السينية (أشعة أكس) لدراسة وتحليل الحمض النووي، وساعدته في ذلك الدكتورة "روزلندا فرانكلين" التي ساهمت في التقاط العديد من الصور للحمض النووي في عام 1952م. وكشفت هذه الصور النقاب عن التركيب الجزيئي للحمض النووي، وبنى "واطسون" و"كريك" نموذجهما للحمض النووي بعد أسبوعين فقط من الحصول على الصور. وباكتشافهما لحقيقة أن جزيئات الحامض النووي تكون تركيباً لولبياً مزدوجاً، يشابه السلم الملتوي، تبين كيف يمكن للحمض النووي أن ينسخ نفسه.
وبعد عامين من اكتشاف الـ"دي إن إيه" تحقق "آرثر كورنبرج" من إمكانات نسخ الحمض النووي لنفسه. و في عام 1960م تمكن مارشال "نيرنبرج" و"هار خولانا" و"سيفيرو أكوا" من التحقق من أن 3 أحرف من الأحرف الأربعة للحامض النووي تشكل رمزاً لأحماض أمينية. وفي السبعينيات تمكن العلماء من التعرف على حروف الحمض النووي، ثم تمكنوا من قطع و لصق أجزاء من الحمض النووي، ثم تمكنوا من نسخه بعد ذلك. وفي عام 1983م استطاع العالم الأمريكي "كاري موليس" أن يطور طريقة لاستنساخ آلاف النسخ من الحمض النووي؛ وهو ما وضع أسس الهندسة الوراثية الحديثة. ثم توجت أبحاث العلماء في نهاية القرن العشرين بدراسة تتابعات الجينوم (كامل المحتوى الوراثي للكائن الحي)، وفي منتصف عام 2000م تم فك ترميز جينوم الإنسان (الأطلس الوراثي البشري).
وتم الانتهاء من النسخة الأولية من مشروع الجينوم البشري في أوائل عام 2001م، وصحب ذلك ضجة إعلامية كبيرة. ولاتزال في ذاكرة التاريخ الاحتفالية التي شهدها العالم يوم الاثنين 26 يونيو عام 2000م حين أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس وزراء بريطانيا عن الانتهاء من مسودة خريطة الجينوم البشري. ومن ذلك التاريخ بدأ التنافس والسباق المحموم للمراكز العلمية وشركات التقنية الحيوية والهندسة الوراثية على المستوى العالمي لاستخدام مخرجات الجينوم البشري لتشخيص الأمراض الوراثية والبحث عن عقاقير تعمل على مستوى الجينات وتركيبها. وبحلول شهر سبتمبر عام 2007م، تم التعرف على التسلسل الكامل لجينوم 1879 فيروساً و577 نوعاً من البكتيريا و23 نوعاً من الكائنات حقيقية النواة تقريباً كان نصفها من الفطريات. وتم التعرف على تتابعات جينات خميرة الخبز وهي كائن نموذجي للخلية حقيقية النواة، وغيرها من الكائنات كذبابة الفاكهة وأسماك الزبرا و نبات الرشاد Arabidopsis Thaliana الذي يستخدم لدراسة النباتات المزهرة. وفي عام 2007م تم الإعلان عن انتهاء مشروع الجينوم البشري بواقع خطأ واحد في كل 20 ألف نيكلوتيده في كل الكروموسومات.
عجائب الـ"دي إن إيه"
ويتألف جزيء الـ"دي إن إيه" من شريطين يلتفان حول بعضهما باتجاه عقارب الساعة، حول محور واحد؛ أحدهما يتجه إلى أعلى والآخر إلى أسفل، على هيئة سلم حلزوني مزدوج. و كل شريط عبارة عن خيط من وحدات كيماوية تسمى النيوكلتيدات. والنيوكلتيدات من أربعة أصناف لا تختلف إلا في نوع القاعدة النيتروجينية. وهذه القواعد النتروجينية هي: "الأدنين" Adenin، و"الثايمين" Thymine، و"السيتوسين" Cytocine، و"الجوانين" Guanin. وتشكل هذه القواعد أزواجا؛ فقاعدة "الأدنين" ترتبط دائما بـ"الثايمين"، بينما ترتبط "الجوانين" بـ"السيتوسين". وتتوزع القواعد بالترتيب على اللولب المزدوج؛ بحيث يوجد 10 أزواج فقط على كل دورة لولب مزدوج. وتشكل القواعد كلمات وجملاً وراثية تحفظ المعلومات الوراثية للكائن الحي من الإنبات إلى الممات، على هيئة جينات، وتتطابق كل مجموعة مؤلفة من ثلاثة أحرف مع حامض أميني واحد.
ولقد كشفت الدراسات الحديثة أن للولب المزدوج خصائص مذهلة، لا سيما في العلاقة بين التركيب والوظيفة التي تؤكد أن التصميم الدقيق لهذا اللولب المزدوج المثير يشير بقوة إلى قدرة إبداع الخالق. فلك أن تعلم أنه إذا تم تمديد جديلة الـ"دي إن إيه" الموجودة في أي خلية من خلايا الإنسان فسيبلغ طولها مترين. وإذا وضعت جميع جزيئات الحمض النووي للجسم البشري سوية من نهايات أطرافها؛ فإنها قد تصل إلى الشمس وترتد أكثر من 600 مرة. هناك ستة أقدام من الـ"دي إن إيه" في كل خلية من الخلايا البشرية موجودة في تركيب لا يتجاوز قطره 0.0004 من البوصة. وهناك 3.1 مليارات حرف من الـ"دي إن إيه" في كل خلية من الخلايا البشرية البالغ عددها 100 تريليون خلية.
يختزن الجرام الواحد من الـ"دي إن إيه" معلومات بقدر ما يختزنه ألف مليار قرص كومبيوتر، ويستطيع محلول الـ"دي إن إيه" أن ينجز 2 × 1910 عملية ربط بالجول الواحد في درجة حرارة الغرفة، علماً بأن أفضل الكمبيوترات الحالية ينجز 910 عملية فقط بالجول الواحد، وأن الحد الأقصى الذي لا يمكن تجاوزه ثرموديناميكياً هو 34 × 1910 عملية في الجول الواحد. والمعلومات الموجودة في الـ"دي إن إيه" يمكن أن تملأ مجموعة من الكتب يصل ارتفاعها إلى 60 متراً أو 200 دليل هاتف، كل واحد منها مؤلف من 500 صفحة. يتألف البشر من عدد من الجينات يتراوح ما بين 26500 و30000 جين بشري، وهو عدد يقل عن التقديرات السابقة التي تراوحت بين 60 و140 ألف جين. والمثير أن عدد الجينات في جينوم نبات الخردل تتساوى تقريباً مع نفس عدد جينات الإنسان، كما أن خريطة الجينات للإنسان وللفئران تكاد تكون متقاربة تماماً. كما أكدت الدراسات أنه ليس هناك أي أساس علمي للطبقات العنصريّة؛ حيث إن البشر متشابهون في حوالي 99.9% على مستوى الـ"دي إن إيه".
والمتابع للأبحاث العلمية الجارية حالياً، سيجد ثورة في علوم الجينومات، وغيرها من العلوم المعتمدة على الحمض النووي الـ"دي إن إيه" وغيره من الأحماض النووية التي تم اكتشافها تباعاً. كما تتوالى الاكتشافات العلمية في هذا المجال الحيوي الذي أفرغت له كبرى المجلات العلمية العالمية حيزاً كبيراً من صفحاتها، فضلاً عن المجلات المتخصصة التي لا تعد ولا تحصى. وفي إبريل من العام الماضي تم نشر أول صورة للحمض النووي "دي إن إيه" بإستخدام الميكرسكوب الإليكتروني؛ حيث إحتاج الأمر لخدعة تقنية لتصويره بشكل مباشر. ومؤخراً أعلنت إحدى الشركات عن فك تتابعات الـ"دي إن إيه" في ساعة واحدة فقط، مما سيكون له العديد من الآثار العلمية ويبشر بثورية طبية شاملة في مجالات التشخيص والعلاج. وتستمر الآثار المترتبة على اكتشاف أسرار اللولب المزدوج. ويعلم الله وحده إلى أين ستنتهي؟
البريد الإلكتروني للكاتب: tarekkapiel@hotmail.com