شواهد كثيرة عبر التاريخ تدل على اهتمام أصحاب السلطة برعاية وحضانة العلم والعلماء لأسباب ترجع للوعي الحضاري الراقي لدى بعضهم أو حتى لمجرد استخدام علومهم وخبرتهم التقنية لتدعيم السلطة السياسية والاقتصادية لدى البعض الآخر. ففي التاريخ الإسلامي كلنا يعرف حفاوة الخليفة العباسي المأمون بالعلم والعلماء وإطلاق حركة الترجمة والتأليف.
وقل مثل ذلك عن الخليفة الأندلسي المستنصر والسلطان محمود الغزنوي والسلطان السلجوقي جلال الدين ملك شاه وبعض سلاطين المغول في الهند والوزير السلجوقي نظام الملك. أما في تاريخ الشعوب الأخرى فنجد أمثلة رعاية العلماء متكررة عند شخصيات سياسية مشهورة مثل الإمبراطور الروماني يوليس قيصر وأبنه أغسطس وشخصية بطليموس الأول حاكم مصر والملك الانجليزي تشارلز الثاني والإمبراطور الألماني فردريك الثاني الكبير والإمبراطورة الروسية كاثرين الأولى وعدد كبير من عائلة آل مديتشي الايطالية مطلقي عصر النهضة.
نصر الكهرباء أمام الملكة فكتوريا (المنتصرة)
ومن صور العلاقة الوطيدة بين العالم وبين الراعي السياسي Patron له أن يقوم ويحرص العالم أو المخترع بعرض غرائب ونفائس اكتشافاته العلمية واختراعاته التقنية بين يدي صاحب الجلالة والسلطان المحتضن له كنوع من التباهي من جهة أو كوسيلة لبيان أن الرعاية الكريمة من قبل صاحب العصر والأوان أتت ثمارها. وقد تجمع لي طائفة من أخبار أهل الطب والفلك والكيمياء وغيرهم من العلماء الذين حرصوا على عرض نتائج وقطاف اكتشافاتهم أمام سادة القوم وأهل السلطة في أزمانهم. ولما للفيزياء بشكل عام والكهرباء بصورة خاصة من اثر جوهري على تطور الحضارة البشرية لذا سوف نقتصر في حديثنا هنا على استعراض التجارب الكهربائية التي عرضها علماء الفيزياء في حضرة أصحاب السمو.
فمن أشهر القصص التي تروى في هذا الشأن أن العالم الانجليزي البارز مايكل فارداي Faraday قام أمام الملكة البريطانية فكتوريا بإجراء بعض تجاربه العلمية عن التيار الكهربائي والحث الكهرومغناطيسي وكيفية أن المغناطيسية مرتبطة بالمولد الكهربائي وبالرغم من أن تلك التجارب كانت شيقة إلا أن تطبيقاتها في الحياة في تلك الفترة لم تكن واضحة وهنا سألت الملكة فارداي عن فائدة هذا الاختراع وهنا رد فارداي بجواب ذكي جدا قائلا: أنا لا أعلم لكن في يوما ما سيكون بمقدور جلالتك أن تحصلين ضريبة مالية من ورائها. كما أن هذه القصة تروى بجواب آخر أن فارداي رد قائلاً: وما فائدة أي طفل حديث الولادة وهذا رد ذكي ومنطقي كذلك فالطفل حديث الولادة ضعيف جدا ولا ينفع بشيء لكن في حال اكتمال رجولته ربما يغير مصير دولة أو امة بأكملها وهذا ما حصل بالضبط مع هذا الاختراع الطفولي الكهربائي الذي غير مجرى تاريخ الحضارة البشرية بصورة غير مسبوقة.
وللملكة الانجليزية فيكتوريا قصة أضافية مع الاختراعات الكهربائية وقد حصل ذلك عندما قام المخترع الشاب الايطالي ماركوني Marconi في عام 1898 باستعراض اختراعه الجديد المتمثل في تقنية الراديو أمام الملكة فوكتوريا حيث جعلها تجرى اتصال لاسلكي مع ابنها الأمير إدوارد ولي العهد البريطاني الذي كان موجودا على بعد عشرات الأميال على اليخت الملكي حيث كان يتعافي من اثر إصابة ألمت به وبهذا لم تمت الملكة العجوز فكتوريا (التي بلغت من العمر ثنتان وثمانين سنة) إلا بعد أن شاهدة عياناً انتصار الكهرباء التي تعجبت يوما ما من أهميتها وفائدتها.
نبل نابليون يمتد للكهرباء
من الجوانب المجهولة نسبيا في حياة الإمبراطور والقائد الفرنسي الأسطورة نابليون بونابرت اهتمامه بالعلوم وتشجيعه وتبنيه للعلماء والذي انعكس بجلاء منذ بداياته السياسية حيث حرص على أن يصطحب معه عشرات العلماء في حملته العسكرية على مصر كما إنه لاحقا سوف يقوم بتعيين عدد من وزرائه وكبار موظفي الدولة من علماء الكيمياء (بيرتيلو وفوركوري) والفلك (لابلانس) والرياضيات (فورييه) بل يقال إن نابليون كان يدرس أساسيات علم الكيمياء على يد عالم كيميائي فرنسي شهير يدعى كلايد بيرتوليه. في السنوات الأولى لتولي نابليون سدة الحكم في فرنسا أعجب كثيراً باختراع العالم الايطالي إليساندرو فولتا Volta لأول بطارية كهربائية في التاريخ لدرجة انه عندما عرض فولتا بطاريته التاريخية أمام أعضاء أكاديمية العلوم في باريس وفي الحضور الشخصي للإمبراطور نابليون عام 1800 أمر بمنحه ميدالية ذهبية كما أمر بتأسيس جائزة سنوية للأبحاث المتعلقة بالكهرباء.
وهذا جاء في نسق استشعار نابليون للأهمية العلمية الكبرى لهذا الاختراع الكهربائي. ولقد كان من أوائل من فاز بتلك الجائزة العلمية التي أمر بها نابليون حول أبحاث الكهرباء الكيميائي همفري ديفي Davy حيث دعاه نابليون ومنحة جواز سفر للتنقل في فرنسا وزيارة باريس التي أقام فيها لمدة شهرين تقريباً أجرى فيها العديد من تجاربه عن الكيمياء الكهربية وكذلك منح خلالها جائزة تقديرية وتكريمية بلغت 3000 فرنك فرنسي (وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك الزمن) وقد حصل ذلك في عام 1803 أي في عز سنوات العداء بين بريطانيا وفرنسا لكن نابليون الراعي والمحتضن للعلوم شرّع وحافظ بوعي حضاري كبير على القاعدة الذهبية (لا سياسة في العلم). الجدير بالذكر أن همفري ديفي استطاع بتقنية التحلل الكهربائي Electrolysis وباستخدام البطارية الكهربائية اكتشاف عددا من عناصر الجدول الدوري الكيميائي وكنتيجة لتشجيع نابليون للعلماء الفرنسيين لصنع بطارية كهربائية أكبر وأقوى سوف يتمكن من خلالها عالم الكيمياء الفرنسي الشهير جاي لوساك Gay-Lussac من منافسة الكيميائي البريطاني ديفي ويخلد اسم جاي لوساك نتيجة اكتشافه المزيد من العناصر الكيميائية.
الرعشة الكهربائية تسري في القسس ايضاً
التجارب الكهربائية السابقة الذكر كانت تتم باستخدام تيار كهربائي يتم توليده بواسطة البطاريات الكهربائية وهي اختراع علمي حديث نسبياً تم على يد العالم الايطالي فولتا في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر لكن تاريخ الكهرباء يعود لفترة زمنية أبعد من ذلك بعدة قرون. ولعل من أقدم الباحثين في هذا المجال العالم البريطاني وليم جلبرت Gilbert (الملقب بأبو الكهرباء وهو في الواقع كان طبيباً يعمل لدى الملكة البريطانية الأشهر اليزيبث الأولى) والذي درس ظاهرة الكهرباء والمغناطيسية ومن أبحاثه استطاع لاحقا بعض العلماء عام 1745 أن ينتجوا ويقوموا بتخزين الكهرباء الساكنة فيما يسمى بوعاء ليدن Leyden Jar نسبة إلى المدينة الهولندية الشهيرة. ووعاء ليدن هذا هو في الواقع نوع بدائي مما يعرف اليوم بالمكثفات الكهربائية التي تستخدم لتخزين الشحنة الكهربائية الساكنة. على كل حال لقد قام عالم الفيزياء الفرنسي جان نوليت Nollet (والذي كان قسيساً أيضاً) بتعديل وتحسين الخواص التخزينية لوعاء ليدن الكهربائي بحيث أصبحت له القدرة على تخزين شحنة كهربائية هائلة.
وللتباهي بهذا الاختراع العلمي العجيب قام نوليت عام 1746 باستعراض جهازه الكهربائي أمام الملك الفرنسي لويس الخامس عشر حيث أطلق شحنة كهربائية كبيرة من وعاء ليدن وجعلها تمر عبر 180 جندياً من جنود الحرس الملكي متشابكي الأيدي لتتسبب في قذفهم في الهواء. وفي تجربة ثانية قام جان نوليت بربط مائتين رجل من الكهان والقساوسة بسلك من الحديد مشكلاً خطا بطول كيلومتراً واحداً وعندما سمح نوليت بالشحنة الكهربائية بالانطلاق من وعاء ليدن تسببت تلك الموجة الكهربائية في قذف هؤلاء الرجال جميعا في الهواء في نفس الوقت مما يدل على قوة الصدمة الكهربائية وسرعة انتقالها. وختاماً لعل من الطريف الإشارة إلى التجربة المشهورة للمكتشف الأمريكي بنجامين فرانكلين Franklin الشهير بتجربته الخطيرة عن طريق إطلاق طائرة ورقية عبر سحابة ماطرة وذلك لإثبات أن البرق نوع من الكهرباء.
صحيح أن فرانكلين لم يقم بإجراء تجربته هذه أمام أي أحد من أصحاب الجلالة لكن لا يمكن الإغفال أنه هو نفسه يمكن لدرجة كبيرة اعتباره من أصحاب السمو فهو قطعا أحد أهم الرواد الأوائل للساسة الأمريكيين فقد كان من ضمن خمسة أشخاص كتبوا ووقعوا إعلان استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني كما انه كان من ضمن الأشخاص الذين شاركوا في كتابة مسودة الدستور الأمريكي. وربما لولا تقدمه الكبير بالسن لتم انتخابه كأحد رؤساء الولايات المتحدة ولأصبح حقاً من أصحاب الجلالة بعد أن استحق بجدارة عالية أن يكون من أصحاب السمو السياسي وإن كان يكفيه أن صورته موضوعه الآن على العملة الأمريكية من فئة المائة دولار والتي هي حاليا أكبر عملة مالية متداولة في الولايات المتحدة.
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com