عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات قدرات خاصة تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
فيروس وعملاق
هذا أشبه بعنوان لشد الانتباه لا أكثر، أم أن هناك حقاً فيروسات عملاقة؟ أم أن اصطلاح عملاق هو نسبيي لمقارنة فيروس بأقرانه المعروفة!! دعونا نتعرف على حقيقة هذا الأمر من خلال هذه السطور. تندرج جميع الكائنات الحية، وفقاً لتصنيفات العلماء، تحت ثلاث نطاقات رئيسية، وهي: البكتيريا، البكتيريا القديمة، وحقيقيات النوى؛ التي تضم النباتات والحيوانات والفطريات. أما بالنسبة للفيروسات فما زالت محور جدل بين العلماء، فهي عوامل مُمْرِضة دقيقة جداً، لا تمتلك خلايا، ولا تستطيع أن تتكاثر بصورة مستقلة؛ بل يلزم أن تكون داخل خلايا العائل (إجبارية التطفل)، فيراها البعض كائنات غير حية؛ وبالتالي يصعب إدراجها ضمن المجموعات الثلاث الرئيسية، خصوصا أنها لا تمتلك من صفات الحياة سوى التكاثر.
ومن المعروف أن الفيروسات صغيرة جدا لدرجة أننا لا يمكن أن نراها بالمجهر الضوئي ونحتاج إلى مجهر إلكتروني للحصول على صورة لها. ولتوضيح الفروقات في الحجوم يرجى الاطلاع على الصورة المرفقة. يمكن القول بأن الفيروسات المسببة للأمراض تختلف في أحجامها وقد يصل أكبرها (فيروس الجدري) إلى حجم أصغر بكتيريا (المياكوبلازما) في العام 2003، تم اكتشاف مجموعة من الفيروسات العملاقة (بالمقارنة مع ما هو معروف)، وكانت الأميبا عائلاً لها، وأُطلق عليها اسم الفيروسات المحاكية (المقلدة) Mimiviruses، وذلك لأنها أظهرت تشابها مع البكتيريا، حيث تمت ملاحظتها تحت المجهر بعد صباغتها، وشُخصت في بادئ الأمر على أنها بكتيريا موجبة غرام.
تمتلك هذه الفيروسات أحجاماً كبيرة، وتحمل أكثر من 2500 جين (الجين هو الشيفرة الوراثية لصناعة بروتين)، ومن خلال دراسة جيناتها يعتقد بعض العلماء بأن أسلافها من الممكن أن يكونوا قد استطاعوا العيش خارج خلايا العائل (معيشة حرة عكس ما هو معروف عن الفيروسات)، فهي تمتلك جينات لإنتاج بروتيناتها الخاصة بها. هذا الاكتشاف أدى مرة أخرى إلى نقاش بين العلماء وتتلخص أراء العلماء في قسمين: القسم الأول يعتقد أن الفيروسات بدأت ككائنات مكتفية ذاتياً، ثم حوصرت داخل خلايا أخرى، فانتهى بها المطاف لتصبح متطفلة وتضطر للتخلص من الجينات التي لم تعد بحاجة لها، بمعنى أن الفيروسات العملاقة هي بقايا لنطاق رابع للحياة وأصبح الآن منقرضاً.
بينما ينظر القسم الآخر للفيروسات على أنها جزيئات قامت على مدى مئات الملايين من السنين بانتزاع واختطاف المواد الوراثية للكائنات المضيفة، ولا يؤمن مؤيدو هذه النظرية بأن هناك ما يلزم لأن تكون الفيروسات ضمن مجموعة رابعة، فهم يعتقدون أن الفيروسات العملاقة تنتمي لمجموعة من الفيروسات التي تحتوي فيروسات أصغر لكنها قامت بإدراج المزيد والمزيد من المواد الوراثية، إلى أن أصبحت ضخمة.
في العام 2017، تعاونت مجموعة من الباحثين من معهد الجينوم المشترك في وزارة الطاقة بولاية كاليفورنيا، مع مجموعة علماء نمساويين للتعرف على ميكروبات الرواسب الطينية في محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في كلوستيرنيوبورغ، النمسا. وتم اكتشاف نوع آخر من الفيروسات العملاقة، أطلق عليها اسم فيروسات كلوسنيو Klosneuviruses. يحتوي جينوم فيروسات كلوسنيو على شيفرات لعشرات الإنزيمات والآليات الجزيئية الأخرى المستخدمة في صنع البروتينات، بعض هذه الأجزاء، فريد جداً ولم يسبق له مثيل في أي نوع من الفيروسات الأخرى، بما فيها الفيروسات المحاكية.
كان اكتشاف هذا النوع الجديد من الفيروسات العملاقة فرصة للتأكد ما إذا كانت قد انحدرت من نطاق رابع للحياة الخلوية أو من فيروسات أخرى. وباستخدام برامج حاسوبية معقدة لتتبع التاريخ التطوري لجينوماتها الغامضة، وجد الباحثون من خلال مقارنة جينومات الفيروسات العملاقة المختلفة، أن آليات صنع البروتين هي إضافة وراثية حديثة نسبياً، وليس بقايا من جينومات الأسلاف. وخلُص الباحثون إلى أن الفيروسات العملاقة التي تم تحليلها في هذه الدراسة تطورت عدة مرات من فيروسات أصغر حجماً، وقاموا برفض فكرة أنها تطورت من أشكال الحياة الخلوية (النطاق الرابع). ولا يزال الوقت مبكراً للجزم بأن الجدل حول أصل الفيروسات قد تمت تسويته. فالكائنات المضيفة لفيروسات كلوسنيو والتي تبرعت بجيناتها لها، مازالت مجهولة، فلم يستطع العلماء عزل الفيروس وتنميته.
لا يتوقف العلم عن إبهارنا يومياً بكل ما هو جديد ومثير، ومع تعدد الدراسات واختلاف النتائج والآراء، تبقى الجهود المبذولة مقدرة، ويبقى التطلع نحو مزيد من الدراسات الواعدة أمراً قائماً. إن مثل هذه الاكتشافات المستمرة والتي تُظهر لنا بوضوح بأن البشر ورغم امتلاكهم لأدوات متقدمة وتقنيات عالية ما زال أمامهم طريق طويل بل لا متناهي لاكتشاف مخلوقات الله سبحانه وتعالى. الشيء الذي لا يقبل به عقل الإنسان المسلم الذي يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، هو فكرة تطور المخلوقات لتشكل مخلوقات جديدة وهذا ما يسعى إليه العلماء من غير المسلمين بشكل مستمر وتستهويهم الاكتشافات الجديدة لمخلوقات لم تكن معروفة من قبل لعلهم يجدون حلقة وصل بين كائنين تثبت بأن التطور ممكنٌ.
البريد الإلكتروني أ.د. عبدالرؤوف على المناعمة: elmanama_144@yahoo.com
البريد الإلكتروني روان حسن ريدة: rawaaan10001@gmail.com