مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الفارابي.. مقالة في إحصاء العلوم والصناعات من أجل أبستمولوجيا عربيّة هادفة

الكاتب

الكاتب : د. سعيد الجابلي

باحث في الفلسفة - تونس

الوقت

09:46 مساءً

تاريخ النشر

29, مايو 2018

"وكما أنّ النّحو عيار اللسان، فيما يمكن أن يغلط فيه اللسان من العبارة، كذلك علم المنطق عيار للعقل، فيما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات".

سعينا في هذه الدراسة إلى مقاربة موضوع إحصاء العلوم والصناعات عند الفارابي، مع ما يتيحه لنا ذلك من تعرّف على ملامح إبستمولوجيا العلوم العربيّة خلال العصر الوسيط، كما شرّع إليها المعلم الثاني وطفق في عرض أبعادها ومقاصدها بلا هوادة. بهذا المعنى، من الوجاهة بمكان، التلميح إلى الفضاء الإشكالي العامّ الذي تتنزّل ضمنه هكذا مسألة، والمتعيّن تدقيقا، في تبيّن الطّابع المركب لفلسفة الفارابي من خلال تنوّع المباحث التي وجّهت انهمام فيلسوفنا ضمن مدوّنته الفلسفيّة برمتها، أين يستجلي القارئ، فعل التآلف العضوي بين مؤلفاته، سيّما من جهة البنية والمضامين والمناهج، تأكيدا للخاصيّة الموسوعيّة لهذا الفيلسوف العربي المتعدّد.

لعلّ جوهر فلسفة العلوم، أو الإبستمولوجيا الفارابيّة، هو ما عبّر عنه كتاب "إحصاء العلوم"، الذي أفرده المعلم الثاني، تفصيلا للقول الممكن بشأن تصنيف العلوم والصناعات. فضلا عن كونه محاولة في رسم حدود ومجال العقل في مستوييه: النظري والعمليّ. هذا تساوقا مع قوله: " قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علماً علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كلّ واحد منها، وأجزاء كلّ ما له منها أجزاء، وجمل ما في كلّ واحد من أجزائه".

وتبعا لذلك، نُلفي لدى الفارابي، تثمينا لمزايا كتابه: "الإحصاء"، من جهة صلاحياته الإبستمولوجيّة، مشدّدا في ثنايا ذلك على قيمته الإجرائيّة، البيداغوجيّة أو الدّيداكتيكيّة، بشكل لافت، وهو في تقديرنا سبق لا نعثر عليه في باقي مؤلفاته الأخرى. هذا مصداقا لقوله: "وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم، فيعلم أيّها أفضل وأيّها أنفع وأيّها أتقن وأوثق وأقوى، وأيّها أوهن وأوهى وأضعف". ويضيف في ذات الإطار، "وينتفع بما في هذا الكتاب، لأنّ الإنسان إذا أراد أن يتعلم علما من هذه العلوم وينظر فيه علم على ماذا يقدّم وفي ماذا ينظر وأيّ شيء سيفيد بنظره وما غناء ذلك وأيّ فضيلة تنال به، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا على عمى وغرر". ولأمر كهذا، نفهم وجاهة تقريظ "صاعد الأندلسي" لهذا المؤلف، بقوله: "ثمّ له كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الإهتداء به وتقديم النّظر فيه".

وعليه، لا غرابة في شيء أن يحظى هذا الكتاب باهتمام واسع، اعتبارا لما ينطوي عليه من مضامين معرفيّة ومقاصد إبستمولوجيّة ذات بال، جعلت منه أوّل "موسوعة علميّة" ألفت آنذاك وذاع صيتها، لا في الأوساط العلميّة الإسلاميّة فحسب، بل كان لها امتداداتها، حتى في الآفاق المدرسيّة المسيحيّة، التي وقعت تحت جاذبيّة هذا المدّ العلميّ ولم تسلم من ذلك الإغواء. الأمر عينه ذهب إليه "عثمان أمين" في تقديمه لإحصاء العلوم، مؤكّدا بدوره على جملة الفضائل المترتبة على ذلك الكتاب في العالم الإسلامي وخارجه، والتي تكمن أساسا في طريقة الترتيب التي توخاها المعلم الثاني في تصنيفه للعلوم.

ورد هذا الإحصاء وفقا لتبويب معيّن يلائم الإرتباط المنطقيّ بين الموضوعات ويتناسب مع نظريّته العامّة في تصنيف العلوم التي أوردها ضمن "رسالة التنبيه على سبيل السّعادة". إذ من شأن هذا التصنيف أن يعيّن العلم الذي سوف يتكفل بمهمّة تحصيل السّعادة، وكذلك منزلته بين العلوم الأخرى وهو ما يستلزم إحصاء لمجمل العلوم والصناعات من أجل الوقوف على موضوع كلّ منها، وكذلك على السبيل الذي سوف يؤدي غرض وغاية كلّ علم على حدة. وهذه هي المهمّة المنوطة بعهدة الفارابي من خلال انجازه "لرسم تخطيطي يتمّ وفقه إنتاج، وترتيب العلوم".

من نافلة القول، الإشارة إلى أنّ إحصاء العلوم والصناعات لدى الفارابي، لا ينحصر في مؤلف "الإحصاء" فقط، بل في أعماله الأخرى، نخصّ بالذكر منها: "تحصيل السّعادة"، "آراء أهل المدينة الفاضلة"، "كتاب الحروف"، "كتاب الملة"، "السياسة المدنيّة" و"الألفاظ المستعملة في صناعة المنطق"… وغيرها. ولنا في ذلك كله وقفة تأمّل لاحقا، لنتبيّن من خلالها، تجليّات إبستمولوجيا العلوم العربيّة وأبعادها، كما تبلورت لدى الفارابي. إنّ تفصيل القول الممكن في هذه المسألة، يدعونا منهجيّا إلى طرح الإشكاليّة التالية: على أيّ نحو رتّب الفارابي العلوم والصناعات في مستوى مدوّنته الفلسفيّة؟ أيّة علاقة بين المنطق الفلسفيّ والنّحو العربي ضمن الإبستمولوجيا الفارابيّة؟

سنعتمد في تفصيلنا للقول الممكن بخصوص إبستمولوجيا العلوم العربيّة لدى الفارابي على نظام البرهنة التالي:

  • سنحاول في القسم الأوّل، بحث خصوصيّة إحصاء الفارابي للعلوم وتصنيفها ضمن مدوّنته الفلسفيّة، وعلاقة ذلك بتأصيله لإبستمولوجيا عربيّة هادفة.
  • أمّا في القسم الثاني، قصدنا النّظر في علاقة المنطق الفلسفيّ بالنّحو العربيّ، وما ارتبط بهما من إعضالات إشكاليّة، أساسها جدليّة التباعد والتقارب، حيث ركزنا على المراجعات الإبستمولوجيّة، التي قام بها الفارابي بخصوص هذه المسألة، وما استوجبه ذلك، من إرجاع القهقرى نحو أصداء المناظرة بين "متّى" و"السّيرافي".

 

ومع ذلك، فإنّه يبقى من الضروري في نهاية هذا العمل، البحث في فعل التناسب بين الإبستمولوجيا الفارابيّة ومطلب السّعادة، بوصفها غاية المشروع الفلسفي الفارابي برمته.

لقد حاولنا في هذا العمل أن نستقرئ مفهوم الإبستمولوجيا من خلال توقفنا عند إحصاء العلوم والصناعات أوّلا، وتقصينا لأوجه العلاقات الممكنة بين النّحو العربي والمنطق الفلسفي لدى الفارابي، بإرجاعنا القهقرى شطر المناظرة بين "متّى" و"السيرافي" ثانيا. من هذا المنطلق، تراءى لنا، أنّ الفارابي، قد توخّى في فلسفته أسلوب الرّبط بين النواحي النظريّة والعمليّة وجاءت فلسفته متميّزة بالتسلسل المنطقي والتدرّج الواضح والدقة والترابط الصّارمين، حتى أنّك لتلاحظ التماسك الوثيق بين جميع أجزاء فلسفته ممّا يسوّغ لنا الإقرار، بأنّ فلسفة الفارابي على غاية من الإنتظام والإتساق المنهجي.

وما بدؤه بتصنيف العلوم، إلا إشارة منه على عزمه بدأ الطريق في النّظر الفلسفي، اِنطلاقا من تمييز مجالاته وموضوعاته ومناهجه أوّلا، ثمّ الإرتقاء من ذلك إلى الرّبط بينها في وحدة تكامليّة تسمح له بوضع نسق فلسفي متين. ويكون هذا الشّاهد كافيا، للبرهنة على رأيه، فموضوعات العلوم إمّا أن تكون "إلهيّة وإمّا طبيعيّة وإمّا منطقيّة وإمّا رياضيّة أو سياسيّة وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها".

هذا القول فيه إختزال لمعنى الفلسفة وأساسها، إذ بها تتقوّم جميع العلوم وبها تتأسّس. الأمر الذي بمقتضاه، تكون كليّة من حيث الأصل، جزئيّة من حيث هي تأسيس لأصل جزءا جزءا. هذه الوظيفة التي تحتلها الفلسفة، تجعل هذه الصناعة أشمل كلّ الصناعات والأساس المؤسس لكلّ صناعة. ولكن، اللافت للنّظر، أنّ أبا نصر، لم يتعرّض للفلسفة في مؤلفه :"إحصاء العلوم"، الذي خصّصه ليجوس في مراتب العلوم وتقسيمها، على نحو ما رأينا سابقا، لأنّها العلم الذي نجده في كلّ علم فهي العلم الكلي الذي تحتاج إليه جزئيات العلوم كي تقوم.

ولنا في تعريف: "لالاند" للفلسفة المنهجيّة أو المنهج شاهد على هذا التماسك في فلسفة الفارابي، بقوله: "المنهج مجموعة عناصر يتوقف بعضها على بعضها الآخر بحيث تشكّل هذه العناصر كلا منتظما. والفلسفة المنهجيّة هي مجموعة أفكار مترابطة منطقيّا. وينظر إليها في أتساقها المنطقي، بحيث تفسّر الأفكار الأخيرة بالأفكار الأولى التي تشكّل نقطة إنطلاق النّظام المنهجي وفرضياته. ويهتمّ الفيلسوف المنهجي بدقة التسلسل المنطقي الذي يحكم أفكاره، ويبقى محتفظا بنقطة انطلاقه محاولا فرض فكرته الأساسيّة".

إنّ النّاظر في هذا التعريف عليه أن يتذكّر أوّلا، أنّ "لالاند" هو باحث في علم المناهج وأنّ ما يقوله في هذه الفقرة (وفي بداية القرن العشرين)، إنّما ينطبق تماماً وإلى حدّ بعيد على المنهج الذي عالج به الفارابي موضوعاته الفلسفيّة ولم يؤسّس الفارابي هذه المنهجيّة المتينة (إذ لم يسبقه أحد من المفكرين العرب والمسلمين إلى ذلك)، إلا بعد أن نهل بتواضع وصبر كبيرين من عدّة منابع منها: البيئة الشرقيّة وخاصّة التاريخ السياسي للعراق القديم. ومنها الإسلام، والفلسفة اليونانيّة التي وصلت إليه عن طريق السريان إضافة إلى مدرسة الإسكندريّة، ممثلة في أفلوطين وأتباعه.

يتضح ممّا أسلفنا ذكره، أنّ المنهجيّة التي توخّاها الفارابي في سياق إحصاء العلوم، لبلورة ملامح إبستمولوجيا عربيّة هادفة، إنّما لغاية تعليميّة قحّة. ويتجلّى لنا ذلك في العديد من مؤلفاته، الحاملة للطابع التعليمي منها: "إحصاء العلوم" و"آراء أهل المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنيّة" وكتابه "تحصيل السّعادة" خصوصا، على نحو ما بيّنا ذلك في قسم التحليل.

ولنا تخريج نميل إليه في نهاية هذه الدّراسة أساسه، أنّ الإبستمولوجيا الفارابيّة، تتعاضد والمشروع الفلسفيّ الفارابي في مناحيه الواسعة، تحصيلا لسعادة الفرد والمدينة الفاضلة. فالمعرفي إذا، سابق للسياسي وأنّ السياسي بالنسبة للفلسفي يتأسس على المعرفي. وهذا التصوّر الفارابي مستوحى من الموقف الأفلاطوني، القائم على ربط الرياضيات بالفلسفة عموما. وبالمشروع السياسي تخصيصا. فالرّياضيات شكلت الأنموذج الذي شرّع به أفلاطون تأصيل مشروعه السياسي برمته. كما يُعزى أيضا، إلى الطرح الأرسطي، حيث عُدّ المنطق في تقدير المعلم الأوّل، النّموذج. علما وأنّ علم المنطق لديه، قد استند على علم الأحياء وتصنيف الكائنات الحيّة.

لا جرم في القول، أنّ هذا التقليد سيترسّخ في الفلسفة الحديثة، سيّما مع كلّ من: "ديكارت"، في اعتباره الرّياضيات نموذجا للدقة والبداهة والوضوح، بما يفسّر التوجّه العقلاني للفلسفة الدّيكارتيّة. وكذا مع "سبينوزا"، الذي بنى الأخلاق على أساس هندسي.

لا بأس من الإشارة ختاما إلى مسلمة هامّة مُفادها، أنّ ماهيّة الإبستمولوجيا على نحو ما قال بها الفارابي، لا ينبغي أن تحمل على دلالتها الحديثة. اِعتبارا إلى أنّ المعلم الثاني، لا يرسم قطيعة بين المعرفي والأنطولوجي، إلا على جهة التمييز بين التقدّم الزّمني والتقدّم المنطقي. فمبادئ الوجود في نظر الفارابي، لهي مبادئ المعرفة التامّة. كما أنّ السّؤال الإبستمولوجي يقود لديه إلى المسألة السيكولوجيّة المتصلة بمبدأ التصوّرات والتصديقات، أو بعبارة أدق، بالملكات المنتجة للمعرفة أو المتقبلة لها.

 

 

البريد الإلكتروني للكاتب: hamza.smedhi@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x