عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات القدرات الخاصة التي تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
لطالما اعْتَرَت علاماتُ الدهشةِ ملامِحَنا عند مُشَاهَدَتِنَا أسراب النملِ وهي تسيرُ حاملةً ما يفوقُ حجمَها بأضعافٍ مضاعفة، واستَحْضَرْنَا عَظَمَةَ الخالقِ سبحانه الذي وَهَبَ مخلوقاتٍ بهذه الضآلة قوة بهذا القدر. سنتطرق في هذا المقال لنموذج آخر، ولكن على المستوى المجهري، وهي بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة (Neisseria gonorhoeae) التي أصبحت نموذجاً لدراسة القوى الفيزيائية في العالم البكتيري. معظم الميكروبات التي تسبب أمراضاً جنسية إن لم يكن جميعها توصف بأنها هشَّة ولا يمكنها البقاء في ظروف بيئية لا تشبه ظروف جسم الإنسان إلا لفترات وجيزة. إنها حساسة للتغيرات بدرجة عالية ويمكن القول بأنها مصممة للانتقال عبر الجنس وغالبا لا تصيب إلا الإنسان. ضعيفة خارج الجسم لدرجة أن ارتفاع درجة الحرارة إلى 38 درجة كاف لموتها، تتأثر بأقل التراكيز من المطهرات، والجفاف يدمرها. ولربما من أبرز هذه المُمْرِضات بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة (Neisseria gonorhoeae)
بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة هي مكورات ثنائية، هوائية، سالبة الغرام، قام ألبرت نيسر بعزلها في العام 1879. تنتقل جنسياً؛ مُسببةً مرض السيلان. مرض السيلان معروف منذ القدم وكان يعتبر إلى حد قريب المرض الجنسي الأكثر شيوعاً في أوروبا وأمريكيا وبعض الدول الأخرى. تستطيع هذه البكتيريا البقاء في المناطق الجنسية برغم الإفرازات التي من شأنها طرد هذه البكتيريا وذلك بفضل امتلاكها قدرة التصاق استثنائية.
تَخرُج من سطح هذه البكتيريا زوائدُ رقيقةٌ (6 نانومتر في القطر) وطويلةٌ (تصل إلى 30 ميكرون في الطول)، وهي بوليمرات حلزونية من وحدات البيلين (Pilin) تُسمَّى: النوع الرابع من الأهدابtype IV pili ، والتي تقوم بمجموعة واسعة من الوظائف، منها: امتصاص الحمض النووي DNA من البيئة المحيطة، التصاق الخلايا، الحركة الانتفاضية (Twitching motility)، وكذلك تشكيل الأغشية الحيوية (Biofilms). تُمكّن هذه الزوائد بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة من الالتصاق على خلايا العائل، والقيام بالسَّحِب بقوةٍ تعادل وزن جسم البكتيريا بحوالي مائة ألف مرة. ولتقريب الصورة أكثر، إن ما تقوم به البكتيريا يشبه كما لو أن إنساناً يسحب عشرة ملايين كيلوغرام.
تَمُر الزوائد (النوع الرابع من الأهداب) بدورات من عمليات التمدد (Extension) ثم التراجع (Retractions)، وتقوم بتوليد القوة خلال عملية التراجع التي تستلزم وجود البروتين الحركي (PilT) الذي يُعَد أساساً لحدوثها. يكون الليف المفرد قادراً على انشاء قوة تقدّر ب 100 بيكو نيوتن، أما إذا تجمّعت مجموعة من الألياف (8-10) في حُزَم، فإن القوة تصل إلى 1 نانو نيوتن.
تستفيد بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة من النوع الرابع من الأهداب في الزحف على طول السطوح والالتصاق بالخلايا وإصابتها. وتَبيّن أن الالتصاق بالخلايا الظهارية (Epithelial cells) والقوى الميكانيكية المرتبطة بهذا الالتصاق تقوم بتحفيز سلسلة من الاشارات المتتالية والتعابير الجينية التي تعزز العدوى. هناك نوعان أساسيان من التقنيات المستخدمة لقياس قوى الارجاع للأهداب. النوع الأول يتم فيه استخدام الملاقط البصرية (Optical tweezers) ويستهدف قياسَ القوة التي تنشأ عن بكتيريا مفردة. أما النوع الثاني يقوم على استخدام مصفوفات من أعمدة البولي اكريلامايد الدقيقة (Polyacrylamide MicroPillars) والذي يستهدف قياسَ القوى المتولدة عن مجموعة متعددة من البكتيريا، كأن تكون البكتيريا في حالة أغشية حيوية. بمعنى آخر، ظروف شبيهة بظروف حدوث العدوى.
في الصورة المقابلة، يلاحظ في الصف الأول (من اليسار إلى اليمين) استطالةُ الهدب وتمددهُ، دون أن يلتصق بالعامود. في الصف الثاني، يُظهر الهدب استطالة، ثم يقوم بالرجوع فينكمش، أيضاً دون التصاق. وفي الصف الثالث، يستطيل الهدب ويلتصق بالعامود. في الصف الرابع، يظهر هدبان، أحدهما تمدد والتصق بالعامود وبدأ بسحبه، أما الهدب الآخر فيبدأ بالاستطالة بعد التصاق الهدب الأول. وفي الصف الأخير، واستكمالاً للصف السابق، نلاحظ أن الهدب الثاني التصق بالعامود، وتضاعفت قوة الهدبين، فتظهر استمالة العامود بشكل أوضح من الصف الرابع.
إضافة إلى القوة الهائلة التي تمتلكها بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة والتي تُمَثِّل عامل ضراوة، استطاعت أن تضيف إلى قدراتها المزيد من خلال قيامها بتطوير مقاومة للمضادات الحيوية. ويُعد مرض السيلان الذي تسببه هذه البكتيريا ثاني أكثر الأمراض المنتقلة جنسياً شيوعاً بعد الكلاميديا، يُقدّر عدد المصابين سنوياً بنحو 78 مليون شخص. تصيب بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة الأعضاء التناسلية للرجال والنساء، ويُمكن العثور عليها في أنسجة الحلق والمستقيم كذلك، وتؤدي إلى مضاعفات بما في ذلك العقم وزيادة قابلية التقاط فيروس نقص المناعة البشرية المسبب لمرض الايدز.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين، تم علاج الأمراض البكتيرية المنقولة جنسيا مثل السيلان، الكلاميديا، والزهري باستخدام كورسات علاجية بسيطة من المضادات الحيوية. ولكن بعد ظهور البكتيريا الخارقة (البكتيريا التي اكتسبت مقاومة للعديد من المضادات الحيوية)، أصدرت منظمة الصحة العالمية تحذيراً بشأن الزيادة المطردة في مقاومة بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة لعدة أنواع من المضادات الحيوية التي تُوصف عادة للسيلان. فقد أظهرت 97% من البلدان التي شملتها دراسة استقصائية بين عامي 2009 و2014 مقاومة للسيبروفلوكساسين (Ciprofloxacin)، وأفادت نحو 66% من البلدان عن مقاومة بكتيريا النَيْسَرِيّة البُنِّيّة لمجموعة من المضادات الحيوية التي تُعتبر الملاذ الأخير، تسمى السيفالوسبورينات ذات الطيف الممتد (Extended-spectrum cephalosporins).
يتضح من المعلومات المتعلقة بهذه البكتيريا مدى هشاشتها وتأثرها السريع بالظروف البيئية الخارجية إلا إنها أيضا تمتلك من عوامل القوة الكثير والتي تؤهلها لأن تكون من أكثر الميكروبات شيوعاً من بين تلك التي تنتقل عن طريق الجنس. فسبحان الذي أودع القوة في الضعف وأودع الضعف في القوة.
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com