عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات القدرات الخاصة التي تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
أقوى غراء طبيعي في العالم من بكتيريا مائية
تتعدد مصادر الحصول على الغراء/الصمغ/المواد اللاصقة (Glue)، فمنها ما هو طبيعي من أصل حيواني، مِن (عظامها، جلودها، وحوافرها، وكذلك بروتيني الألبومين، والكازيين)، ومنها ما هو من أصل نباتي، مثل الصمغ العربي، والشوح البلسمي (Canada balsam)، وهناك الكثير من الأنواع المخلقة كيميائيا Synthestic. مؤخراً وضع العلماء أيديهم على ما قد يشكل أقوى غراء في الطبيعة، وهو من أصل بكتيري، تقوم بإنتاجه بكتيريا تعرف باسم كاولوباكتر كريسنتس Caulobacter crescentus.
هذه البكتيريا هي بكتيريا مُحِبَّة للماء، سالبة الغرام (Gram-Negative)، استمدت اسمها من شكلها الهلالي الذي ينتج عن بروتين الهلالين (Crescentin). البكتيريا منتشرة على نطاق واسع يشمل مياه البحر والبحيرات، وكذلك المياه العذبة والجداول، وحتى مياه الينابيع المعبأة في زجاجات. تستطيع هذا البكتيريا تثبيت نفسها على بعض الركائز الصلبة مثل النباتات، والكائنات الدقيقة الأخرى، وعلى الزجاج، والحجارة، والمعادن. يساعدها على ذلك، إنتاجها لمادة لاصقة شبيهة بالغراء. تكيَّفت هذه البكتيريا للعيش بل وتزدهر في البيئات المُفْتَقِرة للمغذيات، وهذا يفسر قدرتها على الوجود في مياه الصنابير، ولحسن الحظ، فإن وجودها في مياه الشرب غير ضار للإنسان، فهي لا تنتج أي سموم من شأنها إحداث ضرر أو أمراض فهي تصنف كغير ممرضة.
تُعّد بكتيريا Caulobacter crescentus نموذجاً مهماً لدراسة تنظيم دورة الخلية، والانقسام غير المتماثل للخلايا، إضافة للتمايز الخلوي. تَمُرُّ هذه البكتيريا في دورة حياة ثنائية التشكل الصوري (Dimorphic)؛ أي تحدث في شَكْلَين مُخْتَلِفَيْن، حيث ينتج عن انقسام الخلية الأم نوعان من "الخلايا الابنة" المتمايزة شكلاً، واحدة ثابتة غير متحركة وتمتلك هيكلاً أنبوبياً يُسَمَّى الساق (Stalk)، يحمل في نهايته جُسيماً يُسمى Holdfast، تخرج منه المادة اللاصقة الشبيهة بالغراء والتي تتكون من سكريات متعددة، أما الخلية الأخرى فتكون سبَّاحة وتمتلك سوطاً. وحدها الخلايا ذات الساق تخضع لعملياتِ مضاعفةِ الحمض النووي replication DNA، لتنقسم مرة أخرى، مُكوِّنةً خلايا سبَاحة، وخلايا تمتلك ساقاً، من جديد. وفي نهاية المطاف، تفقد الخلايا السبَاحة السوط، وتقوم بتنمية ساق؛ فتصبح خلايا تحمل ساقاً، ومُنتجةً للمادة اللاصقة، التي تُعَد الغراء الطبيعي الأقوى على الأقل حتى وقتنا الحالي.
اكتشفت مجموعة بحثية من جامعة إنديانا قوة الالتصاق العظيمة لبكتيريا C. crescentus أثناء قيامهم بدراسة بعض جوانب النمو الخاصة بها. فقد تم ملاحظة صعوبة التخلص من هذه البكتيريا على الرغم من قوة الغسل المستخدمة. وعند قيامهم بالتلاعب جينياً بالبكتيريا بحيث أصبحت تفتقر إلى القدرة على إنتاج الجزيئات السكرية في طرف "الساق"، كانت البكتيريا غير قادرة على الالتصاق. وبالتعاون مع فيزيائي من جامعة براون، تم تحديد القوة اللازمة لإزالة بكتيريا مفردة من بكتيريا C. crescentus من ماصَّة زجاجية، وتبيَّن أنها تبلغ ثلاثة أضعاف القوة التي تم استلزامها للتخلص من كمية مماثلة من الغِراء التجاري في ماَّصة زجاجية أخرى. فقد احتاج فصل البكتيريا عن سطح الزجاج الذي التصقت به قوةً زادت عن 70 نيوتن/ ملم 2. وهي مكافئة للقوة التي تبذلها ثلاث سيارات مصطفة فوق بعضها، على بقعةٍ بحجم العملة المعدنية. بينما تطلَّب فصل الغراء التجاري قوةً تراوحت بين 18-28 نيوتن/ ملم 2.
هذا الغراء الطبيعي، الآمن وغير السام، يمتلك أقوى قوة التصاق من أي مادة طبيعية معروفة. وعلى عكس الغراء التجاري الذي غالباً ما يكون سام، فإن غِراء بكتيريا C. crescentus يلتصق جيدا تحت الماء، حتى المياه المالحة، وبالتالي، فإن مستقبل هذا الغراء سيكون حافلاً بمجموعةٍ واسعةٍ من التطبيقات المحتملة مثل استخدامه كلاصقات جراحية للمساعدة في التئام الجروح، أو لإصلاح الأسطح التي قد تتضرر جرّاء تعرضها للمطر أو البحر، وغيرها الكثير. يمكن انتاج الغراء بسهولة عن طريق تنمية البكتيريا بأعداد كبيرة، أو يمكن للكيمياء الحيوية دراسة التكوين الدقيق للغراء، ومحاولة نسخه.
تجدر الإشارة إلى أن إنتاج هذه المادة اللاصقة لا يقتصر على بكتيريا C. crescentus، حيث تقوم أنواعٌ متعددة بإفرازها عند تشكيلها للأغشية الحيوية (Biofilms)، ولكن يَكْمُن الفرق في قوة هذه المادة، فهي أقوى في بكتيريا C. crescentus بمئة مرة منها في الأنواع الأخرى.
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com