عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات القدرات الخاصة التي تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
أذهلت بكتيريا Deinococcus radiodurans العلماءَ منذُ اكتشافِها عام 1956م عندما قام فريقٌ بحثي في محطة التجارب الزراعية في ولاية أوريغون باختبار فعالية استخدام الإشعاع لتعقيم الأطعمة المعلَّبة، حيث تم تعريضها لأشعة غاما (فوتونات عالية الطاقة) مستخدمين كمياتٍ كافيةً لقتل جميع أشكال الحياة المعروفة، ولكن لاحظ آرثر اندرسون فساد إحدى تلك العلب حتى بعد التعرض لتلك الجرعات العالية من الطاقة. أي أن هناك كائناً دقيقاً استطاع التغلب على الإشعاعات ومقاومتها، ونجح في عزل بكتيريا حمراء، وأُطلق عليها فيما بعد اسم Deinococcus radiodurans والذي يعني "الكرويات الرهيبة المقاومة للإشعاع". ومنذ ذلك الحين تم دراسة هذه البكتيريا بشكل مكثف لخصائصها الُمَقاوِمة للإشعاع، فهي تتحمل مستويات تصل الى 1000 مرة من المستويات التي من شأنها أن تقتل الإنسان العادي.
بكتيريا D. radiodurans هي من نوع موجبة غرام، غير متحركة، غالباً ما تشكل أزواجاً أو رباعياتٍ كروية، مستعمراتها ناعمة ومحدبّة تتدرج في اللون من الأحمر إلى الوردي، ويشير لون الخلايا الأحمر إلى أصباغ الكاروتينات التي تنتجها هذه البكتيريا. تُوصَف بأنها مُحِبّة للعديد من الظروف القاسية (Polyextremophile)؛ فهي تستطيع النجاة في الظروف الباردة، وظروف الجفاف، وكذلك في وجود الأحماض. لا عجب في إدراجها في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأصرم وأقسى بكتيريا في العالم. يتم العثور عليها في مجموعة واسعة من البيئات مما يجعل تحديد الموطن الطبيعي لها أمراً صعباً. وغالبا ما يتم تنميتها في المختبرات من براز الحيوانات، مثل الفِيَلَة. وعُثِرَ عليها بصورة طبيعية في عينات تربة من مختلف البيئات، بما في ذلك التربة عالية الإشعاع في مواقع النفايات النووية، و وُجِدَت كذلك في الصخر الجيري.
من الجوانب المثيرة للاهتمام فيما يتعلق بتركيب الخلية لبكتيريا D. radiodurans هو احتفاظها ب 4 – 10 نسخ من جميع جيناتها في أي وقت اعتماداً على مرحلة النمو, و يَعْتَقِد العديدُ من الباحثين أن هذا الأمر يُسَاعِدُهَا على تَحَمُّلِ الكثيرِ من الإشعاعات. هذه القدرة لا تعتمد على بعض الجينات السحرية التي تحميها من الإشعاع، ولكن بسبب قدرة هذه البكتيريا على إصلاح الضرر الذي تُلحِقه الإشعاعات بشريطَيْ الحِمض النووي DNA الخاص بها بكفاءة عالية جداً في غضون 12-24 ساعة، ويعود الفضل في ذلك إلى النسخ الإضافية من الجينات إضافة إلى مجموعة من البروتينات الخاصة. كما أظهر تحليل المجهر الإلكتروني الماسح أن الحمض النوي DNA في بكتيريا D. radiodurans يكون مًنَظَّماً في شكل ملفات حلقية (Toroids) مرتبة بشكل مشدود, وهذا قد يُسِّهل عملية إصلاح الحِمض النووي.
أحدث الأبحاث المتعلقة بالبكتيريا المقاومة للإشعاع
في دراسة لمجموعة من الباحثين في جامعة الخدمات المنظمة للعلوم الصحية تم نشرها في PLOS ONE عام 2016، اكتشف الباحثون وجود مُجَمَّع قوي من مضادات الأكسدة المرتكزة على المنغنيز(Mn2+) لدي بكتيريا D. radiodurans والتي يُمكن الاستفادة منها من خلال استخدامها لحماية الحيوانات من الإصابات الإشعاعية. قام الفريق بتوليف مضادات الأكسدة التي تحتوي على ببتيدات المنغنيز في المختبر-يتم اختصارها ب MDP– ثم أعطيت هذه الببتيدات لمجموعة من الفئران التي تم تعريضها لجرعات كبيرة من أشعة غاما. فَنَجَتْ جميع الفئران المُعَالَجَة ب MDP من الموت، مع ملاحظة انخفاض كبير في مستويات الأمراض التي تنجم عن الإشعاع، بالمقارنة مع 63٪ من الوفيات وفقدان الوزن في الحيوانات غير المُعَالَجَة. استطاعت هذه الدراسة إثبات أن هذه المواد المضادة للأكسدة آمنة ويمكن أن تحمي الحيوانات من ضرر الإشعاعات ومن الموت. أي أن هذه النتائج تمهد الطريق لإمكانية العلاج في حال تم تعرضنا للإشعاعات. كما تفتح هذه النتائج الأبواب أمام جميع الاحتمالات المعنية بتطوير المستحضرات الصيدلانية التي تحمي من الإشعاع. تجدر الإشارة الى أن مُجَمَّع مضادات الأكسدة قد حصل على براءة اختراع، ويسهل إنتاجه بكميات كبيرة.
وفي دراسة منفصلة من نفس الجامعة، نُشِرَت في PLOS ONE عام 2017, تم فحص خصائص النمو للبكتيريا تحت مستويات عالية و مستمرة من إشعاعات غاما, فوجدوا أن خلط بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) الحساسة للإشعاعات, مع بكتيريا Deinococcus radiodurans المقاومة للإشعاعات قد مكَّن البكتيريا الحساسة من البقاء على قيد الحياة بالرغم من الجرعات العالية والمستمرة من الاشعاع. تشير هذه النتائج إلى أن بكتيريا Deinococcus radiodurans، التي تحتوي على تراكيز عالية من مضادات الأكسدة، يمكن استخدامها على شكل مكملات غذائية من البكتيريا الحية (Probiotics) لحماية النبيت الميكروبي المعوي لدى المرضى الذين تتم معالجتهم بالإشعاع، مثل مرضى السرطان. هذه النتائج غير المتوقعة تشير أيضا إلى أداة جديدة يمكن أن تساعد في حماية الأفراد العسكريين ورواد الفضاء الذين يعانون من آثار جانبية معوية بسبب التعرض لمستويات عالية من الإشعاعات. وُيمكن لمثل هذه النتائج وغيرها القيام باستقطاب أجيال من الباحثين من أجل تسخير بكتيريا Deinococcus radiodurans لأغراض عملية أخرى.
ربما في يوم من الأيام نستطيع استخدام البكتيريا التي سببت فساد أطعمتنا في التخلص من المواد السامة
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com