عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات القدرات الخاصة التي تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
يعتبر ريش الدواجن من النفايات المتزايدة والمزعجة وفي كثير من البلدان يتم التخلص منها كنفايات صلبة وبالتالي تُشكّل عبئاً على مكبات النفايات بالإضافة إلى بطء تحللها. ولا يستفاد من الطاقة المخزونة في الريش وذلك بسبب وجود الكيراتين الذي يصعب تحلله. وفي عالم يزداد سكانه بشكل غير مسبوق فإن البحث عن موارد ومصادر جديدة يعد من الأوليات القصوى. وتعتبر آلاف الأطنان من مخلفات الريش الناتجة عن تربية الدواجن محط أنظار علماء التكنولوجيا الحيوية ويسعون جاهدين للحصول على ميكروبات تنتج كميات كبيرة من إنزيمات الكيراتينيزز التي يمكنها أن تحطم كبراتين الريش وتجعله مادة يسهل الاستفادة منها بسهولة. تندرج إنزيمات الكيراتينيزز (Keratinases) ضمن مجموعة الإنزيمات البروتينية التي تعمل بشكل أساسي على كسر الرابطة ثنائية الكبريت في الكيراتين. وتمتاز بقدرتها على تحليل كل من الكيراتين اللين مثل المواد الخلوية الهيكلية في الأنسجة الطلائية التي تحتوي 1% كبريت، وكذلك تستطيع تحليل الكيراتين القاسي مثل الأنسجة الواقية في الشعر والأظافر والتي تحتوي على 5% كبريت.
تم التعرف على مجموعة متنوعة من الكائنات الحية الدقيقة ذات القدرة على انتاج إنزيمات الكيراتينيزز، بما في ذلك البكتيريا، الشعاويات (Actinomycetes)، الفطريات المترممة (Saprophytic fungi)، والفطريات الجلدية (Dermatophytes). وكثيرا ما يتم عزل هذه الكائنات الحية الدقيقة من البيئات الغنية بالكيراتين مثل التربة ومياه الصرف الصحي المرتبطة بمزارع الدواجن، وكذلك مخلفات المدابغ.
يمكن عزل إنزيمات الكيراتينيزز الميكروبية من مصادر متنوعة، وتختلف خصائصها باختلاف الكائنات المنتجة. فعلى سبيل المثال، تكون لدى إنزيمات الكيراتينيزز الموجودة في البكتيريا والشعاويات والفطريات مجموعة واسعة من المواد مثل: الريش، صوف الأغنام، شعر الأنسان والحيوانات، الأظافر، الحوافر، وكذلك القرون. ومن المواد الأخرى التي تستطيع إنزيمات الكيراتينيزز تحليلها: الكولاجين، الايلاستين، الجيلاتين، الألبومين، والهيموغلوبين. ومن البروتينات غير الاعتيادية والتي تستطيع إنزيمات الكيراتينيزز تحليلها، البريونات (Prions)؛ وهي عوامل معدية مدمرة للأعصاب، وتتسبب في أمراض غير قابلة للشفاء في البشر والحيوانات.
تعد الفطريات الجلدية من أهم أنواع الفطريات المنتجة للكيراتينيزز, ولكن بسبب المخاطر المحتملة لها في التسبب بالعدوى, لم يتم دراسة إمكانية استخدامها في تطبيقات التكنولوجيا الحيوية بشكل واسع. أما الأنواع الأخرى التي لا تتسبب في الأمراض فتشمل أنواعاً من Aspergillus، Coprinopsis، Doratomyces، Penicillium، Purpureocillium. أما أهم أنواع البكتيريا موجبة غرام المنتجة للكيراتينيزز: بعض أنواع من ال Bacillus مثل B. licheniformis القادرة على تحليل الريش. أما عن فئة البكتيريا سالبة غرام، فإن بعض أفراد الجنسين Chryseobacterium وStenotrophomonas تقوم بإنتاج الكيراتينيزز، وتكون قادرة على تحليل الريش، وشعر الحيوانات وحوافرها وقرونها. كما أظهرت بعض أنواع البكتيريا اللاهوائية المحبة للحرارة القدرة على إنتاج الكيراتينزز مثل: Fervidobacterium pennavorans و F. islandicum.
اكتسبت إنزيمات الكيراتينيزز مكاناً مميزا في سياق التكنولوجيا الحيوية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، فتمتعها بالتخصصية، وقدرتها على مهاجمة البروتينات المترابطة والبروتينات الهيكلية المقاومة للإنزيمات المعروفة، جعلت منها محفزات حيوية قيمة في الصناعات التي تعتمد على المواد الكيراتينية. ولازالت التطبيقات الجديدة لإنزيمات الكيراتينيزز تُكتشف باستمرار.
من أهم التطبيقات
يتم إنتاج حوالي 8.5 مليون طن متري من مخلفات الدواجن في جميع أنحاء العالم سنوياً. وتكون مخلفات مزارع الثروة الحيوانية والدواجن والمسالخ على شكل ريش، شعر، قرون، وحوافر. وتقوم صناعة الدواجن حاليا بإدارة نفاياتها عن طريق عدة طرق، منها تحويلها إلى سماد طبيعي؛ حيث يتم تحويل النفايات الكيراتينية العضوية إلى نيتروجين غير عضوي وكبريتات، فتقوم النباتات بامتصاصها بسهولة. ولكن قد تكون عملية تحليل المواد الكيراتينية بطيئة؛ لهذا يلزم تدخل البكتيريا والشعاويات خلال الأسابيع الأولى من العملية. ثم يتم استبدالها تدريجياً بالفطريات. إن إضافة المواد المنتجة للكيراتينيزز بشكل عام، بعمل على تسريع وتحفيز العملية.
تحتوي نفايات الريش على كميات كبيرة من الأحماض الأمينية مثل سيستين، غليسين، أرجينين والفينيل ألانين. ولكن لا يمكن إطلاق هذه الأحماض الأمينية المهمة إلا بعد أن يتم تحليل الريش. تقوم عمليات معالجة الريش عادة على استخدام الحرارة والمواد الكيميائية، هذه العمليات تحتاج للطاقة، وغالبا ما يترتب عليها تدمير للأحماض الأمينية فتفقد قيمتها الغذائية. ولهذا، يمكن التغلب على هذه المشكلة من خلال استخدام الكائنات المنتجة للكيراتينيزز.
ينتج عن تحليل المخلفات الكيراتينية نسب مرتفعة من الأحماض الأمينية والنيتروجين، فتعمل على تخصيب التربة وتعزيز نمو النباتات.
خلال العمليات التقليدية لإزالة الشعر من الجلود، يتم استخدام كميات كبيرة من كبريتيد الصوديوم، فينتج عن هذه العمليات مخلفات تتسبب في مشاكل بيئية، ويصعب التخلص منها. أشادت مجموعة من الدراسات باستخدام الكائنات الدقيقة المنتجة للكيراتينيزز كبديل للمواد الكيميائية. فقد نجحت بكتيريا B. brevis US575 في إزالة الشعر من الأرانب، الماعز، الأغنام وكذلك من جلود الأبقار. بينما استطاعت بكتيريا P. aeruginosa A2 القيام بإزالة الشعر من جلود الأبقار. عادة ما تتطلب عمليات إزالة الشعر باستخدام إنزيمات الكيراتينيزز كميات ضئيلة من كبريتيد الصوديوم، لذلك يمكن اعتبارها بديل صديق للبيئة. وبعض أنواع الكيراتينيزز يمكن تطبيقها حتى في غياب كبريتيد الصوديوم تماماً، مثل الأنواع التي تنتجها Trichoderma harzianum MH-20 و B. subtilis S14. كما سجلت إنزيمات الكيراتينيزز نجاحاً في عمليات الدباغة، ففي العمليات التقليدية، يتم تصريف كميات كبيرة من الكروم المستخدم مسببة مشاكل بيئية عديدة. وتجدر الإشارة إلى أن كميات الكروم Cr التي تسمح معظم الدول بتواجدها في النفايات يجب أن تقل عن 2 ملغم/لتر. ولهذا كانت هناك حاجة لتحسين عمليات امتصاص الكروم خلال الدباغة. من النجاحات المسجلة لاستخدام بكتيريا B. subtilis، قدرتها على تقليل مستويات الكروم في المياه العادمة من 35% إلى 10% . وللكيراتينيزز تطبيقات هامة في صناعة الغزل والنسيج، فكانت الأنواع التي أنتجتها كل من B. licheniforms، B. cereus , Chryseobacterium L99 , وبعض أنواع Pseudomonas قادرة على تحسين خصائص مقاومة انكماش المنسوجات, وكذلك خصائص الصباغة, دون المساس بوزن الألياف.
لأن الكيراتينيزز تتمتع بتخصصيتها، تكون قادرة على التنظيف في مدة قصيرة، ودون الحاق أي ضرر بقوة أو هيكلية الألياف. فعلى سبيل المثال، يكون الكيراتينيز القلوي ل P. woosongensis TKB2 فعال جداً في إزالة بقع الدم من ملابس الجراحة، وفعال أيضاً في إزالة خليط من البقع تشمل بقع الدم، وصفار البيض والشوكولاتة من الأقمشة العادية. يستطيع هذا الكيراتينيز إزالتها جميعا في فترة زمنية قصيرة ودون تغيير هيكلية النسيج أو أليافه.
معظم نواتج تحلل الكيراتين المستخدمة في منتجات العناية بالشعر، يتم الحصول عليها من الأظافر، والقرون، والصوف باستخدام الطرق الكيميائية أو الطرق الحرارية المائية. ولكن بدأت إنزيمات الكيراتينيزز الميكروبية باكتساب شعبية واسعة. فقد وجدت احدى الدراسات أن نواتج تحليل بكتيريا S. maltophilia لريش الدجاج, عملت على تحسين مرونة و قوة كل من الشعر العادي و التالف. وتم استخدام منتجات التحلل الإنزيمية أيضا في شامبو وبلسم، وأظهرت لمعان ونعومة الشعر.
قامت عدة مجموعات بحثية باستكشاف إمكانية استخدام الكيراتينيزز في المكافحة البيولوجية. و توصلت إلى أن الكيراتينيزز التي تنتجها بكتيريا S. maltophilia R13 و Thermoactinomyces كانت فعالة ضد العديد من مسببات الأمراض الفطرية مثل: Fusarium solani , F. oxysprum , A. niger . كما أن الكيراتينيز الذي تنتجه Bacillus sp. 50-3 فعال ضد الآفات الزراعية مثل ديدان العقد الجِذرية (Toot-knot nematodes).
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com