غريزة حب البقاء وما حبا الله به كل مخلوقاته من قدرات عجيبة ومتنوعة للدفاع عن نفسها تتجلى في أصغر الميكروبات وأعقدها. وفي ظل نفاذ الخيارات وفي أحلك الظروف يضطر المرء للدفاع عن نفسه بشتى الطرق. هذا عن البشر، فماذا عن البكتيريا ؟!
يشير مصطلح الأميبا الحرة الى الكائنات الحية وحَيدة الخلايا، التي تستوطن بيئات أرضية ومائية وفيرة، وتفترس العديد من الكائنات الحية الدقيقة، بما فيها البكتيريا؛ وهي تستخدم الأقدام الكاذبة لاصطيادها (تُعرف هذه العملية بالبلعمة)، وعند الإمساك بها، تقوم بهضمها وامتصاصها. ولكن بعض انواع البكتيريا تَعرِف كيف تدافع عن نفسها ضد البلعمة بواسطة الأميبا، فهي لا تنجو وحسب، بل تزدهر وتصبح الأميبا موطناً مفضلاً لها، مما يؤدي في نهاية المطاف الى تأسيس تجمعات تكافلية مستقرة.
اكتشف باحثون من جامعة فيينا أحد أنواع البكتيريا سالبة غرام، التي تنتمي إلى العصوانيات Bacteroidetes, وهي بكتيريا داخل خلوية اجبارية, تعيش معيشة تكافلية مع الاميبا, تم اكتشافها داخل أحد انواع الأميبا المعزولة من رواسب احدى البحيرات. أطلق على تلك البكتيريا اسم الاميبوفايلس Amoebopohilus أي المحبة للأميبا.
تمتاز بقدرتها على الدفاع عن نفسها إذا ما حاولت الأميبا هضمها؛ وذلك من خلال استخدامها لأجهزة تشبه البنادق، تقوم هذه الأجهزة بإطلاق خناجر صغيرة تعمل على تدمير الاميبا من الداخل؛ فتحمي البكتيريا نفسها من الهضم.
ولفهم الآلية التي تتبعها البكتيريا للدفاع عن نفسها بصورة أوضح، تعاون الفريق الذي اكتشف بكتيريا الاميبوفيلاس مع فريق آخر من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ- ألمانيا. وتبين أن هناك غمداً sheath مرتبطاً بالغشاء الداخلي للبكتيريا من خلال قاعدة ومنصة تثبيت، يكون الغمد محملاً بنوابض (زنبركات)، تتواجد الخناجر الصغيرة داخلها. وعند انقباض الغمد، يتم إطلاق الخناجر نحو الخارج بسرعة فائقة، ويكون ذلك عبر الغشاء البكتيري.
عندما تمتص الاميبا البكتيريا، فإنها تصبح محصورة في بيئة غير مضيافة للبكتيريا، تتمثل في حجرة هضمية خاصة محاطة بغشاء phagosome، وأشارت نتائج دراسة الفريقين الى أن البكتيريا تكون قادرة على إطلاق الخناجر باتجاه غشاء الحجرة الهضمية الخاصة بالأميبا؛ مما يؤدي الى تفكيك الغرفة وإطلاق سراح البكتيريا، أي تصبح البكتيريا خارج الحجرة الهضمية، ولكنها لا تزال داخل الأميبا نفسها، فتبقى على قيد الحياة وتستمر في الانقسام. لا تزال العملية التي يتم من خلالها تحطيم الحجرة الهضمية غير معروفة على وجه اليقين، ولكن يعتقد البعض أنها تحدث بسبب تمزق الغشاء لأسباب ميكانيكية، والبعض الآخر يعتقد أن الخناجر الصغيرة التي تطلقها البكتيريا تكون مشرَّبة بنوع من السموم، إضاقة إلى بعض الانزيمات المحللةِ للغشاء.
للحصول على شكل ثلاثي الأبعاد للخناجر الصغيرة، ولتحديد آليات الإطلاق بدقة كبيرة، طبّق العلماء طريقة جديدة تماماً، ولا تستخدم على نطاق واسع عَبْرَ العالم. ما قام به العلماء في هذه المرحلة يشبه الى حد كبير عالم الحفريات، حيث يتم استخدام المطرقة والازميل لتحرير الأحافير من الصخور. فقد قاموا بتجميد الأميبا -بعد ابتلاعها للبكتيريا-على درجة حرارة (-180) درجة مئوية. ثم استخدموا شعاع أيوني مُركّز على العينة المتجمدة، فكان الشعاع بمثابة إزميل ناناوي، وكان قادراً على إِبعاد الأميبا والتجمعات البكتيرية؛ كاشفاً عن الخناجر الجزيئية، ومنصات الإطلاق؛ ليتم أخيرا إنتاج مقطع الكتروني ثلاثي الأبعاد.
توجد أيضا أنظمة متعلقة بالخناجر الصغيرة في أماكن أخرى من علم الأحياء، كالعاثيات (Bacteriophages) الفيروسات التي تتطفل البكتيريا، حيث تستخدم هذه الأنظمة لحقن الجينوم في البكتيريا. ويمكن لبعض أنواع البكتيريا أيضا أن تقوم بإطلاق أجزاء مماثلة للخناجر الصغيرة في محيطها لمحاربة الكائنات الحية الدقيقة التي تنافسها. تجدر الاشارة الى أن الخناجر الصغيرة التي تم العثور عليها في السابق، كانت كأجهزة فردية. أما بالنسبة لبكتيريا الأميبوفيلاس, فقد وُجدت أنها تحدث في تجمعات تصل الى 30, وصفها أحد المشاركين في الدراسة بأنها أقرب ما تكون كبنادق متعددة الفوهات.
قام الباحثون كذلك بالعديد من المقارنات الجينية، والتي خلصت الى أن الخناجر الصغيرة لا تقتصر فقط على بكتيريا الأميبوفيلاس، ولكن أيضا في العديد من الأنواع البكتيرية الأخرى التي تندرج – على الأقل-ضمن تسعٍ من المجموعات البكتيرية الأكثر أهمية. لم يتحرَّ الباحثون بعد ما إذا كانت هذه البكتيريا تستخدم أيضا خناجرها من أجل تجنب الهضم عن طريق الأميبا، أم تستخدمها لأغراض مغايرة. وبالتالي يبقى المجال مفتوحاً لمزيد من الدراسات على هذه الانواع. كما ويمكن للباحثين استخدام تقنية الأيونات المركزة للإجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالخلية، والعدوى والبيولوجيا الهيكلية، وغيرها.
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com