أي لقاح لا بد أن يحتوي على أجزاء من الميكروب أو الميكروب كاملاً فيروساً كان أو بكتريا، وفي الحالتين يجب أن يكون الميكروب إما ميتاً أو ضعيفاً للدرجة التي لا يسبب فيها المرض، في الوقت نفسه يمكنه تحفيز الجهاز المناعي على تكوين أجسام مناعية مضادة، كما تتكون خلايا لديها ذاكرة بشكل الميكروب وهيئته، لتبقى كحائط صد وخط دفاعي عند غزو نفس الميكروب ثانية. تلك الحالة الدفاعية لجهاز المناعة تبقى ثابتة ما لم يحدث تغيير في شكل الميكروب، وهذا الذي يتم مع بعض الفيروسات الأكثر ثباتاً في الشكل والتركيب، مثل فيروس الحصبة، وفيروس الإلتهاب الكبدي بي، بحيث لا يحتاج الناس للحقن باللقاح سنوياً.
لسوء الحظ، فيروس الإنفلونزا يعتبر من أكثر الفيروسات تمويهاً وهروباً من ملاحقة الجهاز المناعي، فبمجرد دخوله الخلية، يقوم بإيقاف الاستجابة المناعية الضد فيروسية Antiviral للخلايا، عن طريق تسخير آليات بالخلية لصنع نسخ عديدة منه، وفي تلك الأثناء، وباستمرار تضاعفه يحدث تغيير في شكله الخارجي، فتنتج بالتالي سلالات-تحت أنواع Subtypes تختلف قليلاً في جزء فقط من التركيب الخارجي لأسلافها من الفيروسات.
ولأن فيروس الإنفلونزا يحتوي على حامض نووي من النوع "أر إن إيه RNA" فتكثر به الطفرات مقارنة بالفيروسات التي تحتوي على "دي إن إيه DNA" وذلك لغياب إنزيمات تصحيح الأخطاء التي تحدث عند النسخ، والتي تسمى "بروف ريدينج Proofreading"، هذا إضافة إلى أن RNA الإنفلونزا سالب ومجزأ إلى ثمانية أجزاء كل جزء يحمل جين معين، ويكمن التغييرات السريعة التي تحدث في الفيروس في الأجزاء التي تشفر لنوعين من الجليكوبروتينات موجودة على سطح غلاف الفيروس، وهما "هيم أجلوتينين HA" و"نيورامينيداز NA"، وتسمى السلالات الجديدة، تحت الأنواع Subtypes، حسب أرقام حرفي H و N، مثلاً سلالة H1N1 و H3N2، تلك البروتينات هي التي يتعرف عليها الجهاز المناعي في الإنسان، فإذا حدث تغيير ولو بسيط في تلك البروتينات وحتى لو في حمض أميني واحد، وهي عملية تحدث طبيعياً، مما يؤدي إلى فشل جهاز المناعة في عملية التعرف، ومن ثم تنجح الإصابة بالفيروس.
يحدث في فيروس الإنفلونزا نوعان من التغيير في الشكل:
النوع الأول يحدث غالباً في الأوضاع والإصابات العادية، ويكون بطيئاً وبسيطاً ويحدث في بعض القواعد النيتروجينية فقط، ويسمي "حيود جيني Antigenic Drift"، بينما النوع الثاني هو الاستثناء ويحدث فيه تغيير وتبادل لبعض أجزاء الفيروس الثمانية وهو حاد ويسمى "التغيير الجيني الحاد Antigenic Shift"، وهو ما يؤدي إلى ظهور الوبائيات العالمية Pandemic، مثل التي حدثت في 1918، بسبب السلالة H1N1 وأُطلق عليها الإنفلونزا الأسبانية، والتي أصابت ثلث سكان العالم ومات بسببها ما يقرب من 50 مليون فرد، والسلالة H2N2 في 1957، كما ظهرت سلالة جديدة وأحدثت وباءً عالمياً في 2009.
تلك الوبائيات تحدث فيما إذا حدث واجتمعت سلالتان في خلية واحدة، فيحدث اختلاط وتبادل لأجزائهما الجينية، تلك العملية يسميها العلماء "تفنيط أو خلط Re-assortment، وهي غالباً تحدث في الخنازير والطيور المصابة بالإنفلونزا، والتي قد تنتقل الإصابة منهما للإنسان من خلال أماكن تواجدهم مثل المزارع، أو الأسواق، وغيرها، ولحسن الحظ فإن فيروسات الإنفلونزا المنقولة من الخنازير أو الطيور للإنسان، لا تتضاعف بصورة جيدة في الإنسان.
لكن المشكلة الكبيرة تكمن فيما إذا حدث واجتمعت سلالة من إنفلونزا الإنسان وأخرى من الطيور في نفس الخلية، وذلك الحدث يطلق عليه العلماء "الإصابة الفائقة أو السوبر Super Infection"، حيث تتم عملية الخلط الجيني وتكون النتيجة سلالة جديدة على جهاز المناعة للإنسان ومسببة لوباء عالمي، لذلك يلزم إنتاج لقاحات جديدة على الأقل كل عام كي تتكيف مع السلالات الجديدة من الفيروس، والتي غالباً ما تكون للنوعين A وB، بينما لا ينتج لقاح للنوع الأقل شيوعاً وهو النوع C.
تجتمع منظمة الصحة العالمية WHO مرتين في العام، إحداهما عن نصف الكرة الجنوبي والأخرى في نصف الكرة الشمالي، لمناقشة السلالات الأكثر شيوعاً، ومن ثم تخرج بتوصيات عن السلالات والوبائيات المتوقعة، وكذلك المواصفات التي سوف تكون عليها اللقاحات الجديدة للإنفلونزا، والتي تقي من أغلب السلالات لهذا الفيروس.
البريد الالكتروني للكاتب: redataha962@gmail.com