لقد قادنا التقدم في فهم تاريخ وآليات التطور البيولوجي إلى تطبيقات جبارة تُشَكِّل تنوعاً كبيراً من حقول المعرفة الراهنة. وقد ثوّرت تقنية متقدمة حديثة تعرف بالميتاجينوميات (ما بعد الجينوميات) قدرة العلماء على تقصي أنواع الميكروبات التي تعيش في منطقة ما، مما أدى إلى حصول أكثر التغيرات عمقاً في فهمنا للتنوع الميكروبي منذ اختراع المجاهر. ومؤخراً، قام فريق من الباحثين من جامعة جدة، وجامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية، بالاشتراك مع جامعتي القاهرة وقناة السويس المصريتين بقيادة الأستاذ الدكتور طارق عبد الموجود موسى بدراسة مقارنات ميتاجينومية لتوصيف المجتمعات الفطرية في تربة المنطقة الساحلية الغربية بالمملكة العربية السعودية.
ومن المعروف أن الحمض النووي المأخوذ من كائن واحد يشكل جينوماً واحداً. فإذا جمعت الأحماض النووية من جماعة من الميكروبات ذات أنواع مختلفة تعيش في موضع ما، فتحصل على ميتاجينوم. وبمقدور علماء الأحياء في أيامنا عزل شذرات الحمض النووي من مثل هذه الجماعة، ثم تحديد تسلسل هذه الشذرات، ثم إعادة تجميعها ضمن تسلسلات متقاربة دونما الحاجة إلى الخطوات المعملية الصعبة والمكثفة المتضمنة في إنماء الميكروبات في المختبر. ولقد كشف التحليل الميتاجينومي للميكروبات التي تعيش في عينات ماء مأخوذة من المحيط الهادئ، ومن بحر سارغاسو في شمال المحيط الأطلسي، أنه لم يتم بعد اكتشاف وفهم قدر كبير من التنوع البيولوجي في المحيطات. ولا يعرف العلماء إلا القليل نسبياً عن القدرات الاستقلابية والوظائف البيئية لهذه السلالات الميكروبية المختلفة. إننا بحاجة لأن نعرف الكثير عن الجماعات الميكروبية لأنها مسؤولة عن دعم الحياة على الأرض. إنها ذات صلة بمعظم البناء الضوئي في عالمنا، وتجعل عناصر ضرورية مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين والكبريت متاحة لأشكال الحياة الأخرى، بما فيها البشر.
إن استخدام التطور المعتمد على التحليلات الميتاجينومية من أجل معرفة تركيب الجماعات في مختلف الظروف ما هو إلا الخطوة الأولى في مجال معرفة ما يفعله أعضاء الجماعة، وكيف يتآثرون، ويتغيرون، ويستمرون عبر الزمن. ويمكن استغلال الميكروبات المكتشفة حديثاً في تطوير مضادات حيوية جديدة، وفي اكتشاف إنزيمات لاستخلاص الجلوكوز من السليلوز (الذي يمكن فيما بعد تخميره ليتحول إلى إيثانول الذي يستخدم كوقود)، وفي المعالجة البيولوجية للتربة أو المياه الملوثتين.
التنوع الفطري للتربة في المملكة العربية السعودية
التنوع الفطري للتربة في المملكة العربية السعودية غير واضح نظراً لقلة الدراسات التفصيلية المنشورة سابقاً. وباعتبارها منطقة قاحلة وشبه قاحلة، فمن المقبول تقليدياً أن نتائج التنوع الفطري ستكون منخفضة كقاعدة معيارية، نظراً للتحلل البطيء لحطام النبات الذي يحدث عادة في التربة المحرومة من الرطوبة. وقد وصفت الدراسات التقليدية السابقة الفطريات المتواجدة في ترب المملكة العربية السعودية من الأجسام المثمرة، وأعراض المرض على العديد من أنواع النباتات الطبيعية. وقد استخدمت تقنيات الميتاجينوميكس الحديثة مؤخراً لدراسة التنوع الفطري في التربة، وتمكنت من وصف التنوع البيولوجي للكثير من الترب في جميع أنحاء العالم بسرعة كبيرة. ومع ذلك، تم استخدام عدد قليل نسبياً من دراسات الميتاجينوميكس للمساعدة في توصيف التربة في البلدان النامية، وليس في المملكة العربية السعودية فقط.
إن استخدام التطور المعتمد على التحليلات الميتاجينومية من أجل معرفة تركيب الجماعات الميكروبية في مختلف الظروف ما هو إلا الخطوة الأولى في مجال معرفة ما يفعله أعضاء الجماعة، وكيف يتآثرون، ويتغيرون، ويستمرون عبر الزمن. فهل الجماعات الميكروبية المتنوعة أكثر مرونة تجاه التغير البيئي من الجماعات الأقل تنوعاً؟ وهل بعض مجموعات أنواع معينة ذات أهمية بالغة في استمرارية نظام بيئي ما؟ ثم ما الذي يملي التكوين والتحول في تركيب الجماعات الميكروبية؟ إن المفاهيم والطرق اللازمة لهذا المستوى التالي من الفهم موجودة إلى حد كبير ضمن علم البيئة التطوري، الأمر الذي يستتبع دراسة كل التآثرات في داخل كل نوع من الأنواع وفيما بينها، والتآثرات بين الجماعات وبيئاتها.
لقد اقتضى الأمرُ التطرقَ إلى التطبيقات المنبثقة من الميتاجينوميات الميكروبية وعلم البيئة التطوري، لأن الميكروبات تنتج وتستهلك معاً كلاً من ثنائي أكسيد الكربون، والميثان، وغازات الاحتباس الحراري الأخرى، وقد تؤدي هذه الميكروبات دوراً في تقرير نجاح الجهود للتقليل من الاحترار العالمي. باركود الحمض النووي، والعلامات البيو كيميائية، والتحقيق في تنظيم سلسلة الأسيل في الطبقة الثنائية الفوسفورية يعطي أيضاً أدوات قوية لعلم البيئة الميكروبية دون الحاجة إلى الزراعات التقليدية للفطريات فى المختبر.
من هذه التقنيات، شريط التشفير للحمض النووي أو شفرة الحمض النووي الخيطيةDNA Barcoding، وهو أسلوب تصنيف يستخدم علامة جينية قصيرة في الحمض النووي في الكائنات الحية للتعرف على أنها تنتمي إلى نوع معين من الكائنات. والهدف الرئيسي ليس تحديد التصنيف للكائن الحي ولكن للتعرف على عينة غير معروفة من خلال تصنيف معروف للكائن مقدماً. وتستخدم هذه التقنية عادة للتعرف على الأنواع التي تستخدم ترتيبات المناطق الجينية، والتي يتم حفظها عبر أصناف واسعة ومتنوعة. ويعطي صون الجينات مخططاً للبنية ولتخصيص التجمعات إلى أجناس وأنواع لفحص تنوع المجتمع الميكروبي. وتشمل منهجية الميتاجينوميكس التمييز بين الأنواع المختلفة من العينات البيئية باستخدام الجينات المحددة التي تم اختيارها بشكل خاص مع الهدف النهائي للتعرف عليها. هذه الجينات هي عادة مماثلة لتلك التي يتم استخدامها كجزء من عينة لشريط التشفير للحمض النووي على نطاق واسع.
وفي هذه الدراسة المنشورة حديثاً، حاول الباحثون فك ميكروبيوم عينات التربة المختلفة التي تم جمعها من مواقع مختلفة على أساس منطقتين من مناطق "النريتس"، أو ما يمكن تسميته بمباعد المنسوخ الداخلي النووي الريباسي خاص بالريبوسوم Nuclear Ribosomal Internal Transcribed Spacer وهما: ITS1/2 وITS3/4. ويركّز تقييم التنوع الفطري في هذه الدراسة على مجتمعات التربة بالقرب من ساحل البحر الأحمر نظراً للأهمية العالية لحفظ الطبيعة، والأغراض الترفيهية وإدارة الموارد المائية بهذه المناطق الساحلية بالمملكة؛ حيث تشمل الكثبان الرملية في المنطقة الساحلية مناطق ذات تنوع بيئي عالي.
وتقع جميع المواقع الأربعة التي تمت دراستها بالقرب من ساحل البحر الأحمر في جدة بالمملكة العربية السعودية، وتم التحقق من صحة ما يقارب 145 ألف قراءة استناداً إلى معايير التصنيف. وكشفت الدراسة ثراء المجتمع الفطري في موقع خليص مقارنة بالمواقع الأخرى، في حين كانت عينات طريق عسفان أقل عدداً من الأنواع الفطرية. وأثبتت الدراسة أن الميتاجينوميات أداة قوية لتوصيف تنوع الأنواع الفطرية في تربة المملكة العربية السعودية التي توفر نتائج مقارنة للعديد من الأنواع والأجناس. ووفرت هذه الدراسة الوقت الطويل المستغرق لتحديد هوية هذه الكائنات، والذي كان سيستغرق سنوات من الاستزراع وتحديد الهوية. وأظهرت الدراسة أن عينات التربة التي تم الحصول عليها من طريق عسفان ذات تنوع منخفض في الأنواع، في حين أن العينات التي تم الحصول عليها من خليص وثول كانت ذات تنوع عال في الأنواع الفطرية. وكانت الأجناس المهيمنة ثيلافيا Thielavia، مادوريلا Madurella، والرشاشياتAspergillus في جميع المواقع الأربعة.
وتم الكشف عن الفطريات غير المستزرعة بكميات عالية في جميع المواقع الأربعة. وتم العثور على أنواع فطرية غير معروفة تنتمي إلى عائلة Pezizaceae في خليص وطريق مكة القديم. وانتقل الباحثون الآن إلى أبعد من مسألة الميكروبات الموجودة في التربة إلى تقييم ما الذي يمكنها فِعله. وسيمكنّهم استخدام التسلسل الميتاجينومى بالاشتراك مع التحليلات المبتكرة للمعلومات الحيوية من استخلاص تصنيف وتوصيف جيني أكثر شمولاً عن المجموعات الفطرية، مقارنةً بالمحاولات السابقة. وسوف يحاول مؤلفو الورقة العلمية دراسة الميتاجينوميات الوظيفية لتحديد هوية هذه الكائنات المجهولة في المستقبل القريب.
رابط الدراسة هو:
المقال بصيغة PDF للقراءة والتحميل أعلى الصفحة.
البريد الإلكتروني للكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg
