تشكل حياة البشرية الممتدة على مئات آلاف السنين مغامرة شيِّقة في عالم الاكتشاف والمعرفة، مكّنت الإنسان من استخدام العصا، فالحجر، فالمعدن، وسمحت بتدجين النار، فالماء والهواء، فالتفاعلات الكيميائية ، فالذرَّة.
وتكاد المرحلة الممتدة على الألوف العشرة الأخيرة منها أن تتميز بتراكم نوعي يحولها إلى حقبة من نوع آخر هي، برأينا، حقبة البناء الحضاري. وتبدو مغامرة التحضر كأروع قصص البشرية وأكثرها برهاناً على وحدتها، مغامرة ما نزال نعيش في خضمّها المتفاعل، نشارك فيها ثلاثمئة جيل من أجدادنا، في عظمة المعرفة وجمال الشعور بالمساهمة في حُجَيرٍ بسيط في صرح البناء الحضاري.
ومن البديهي أنّ تاريخ العلوم لا يتجزأ عن تاريخ صانعيها لكنه لا ينحصر مطلقاً به! فللعلوم "حياتها" وصيرورة تطورية خاصة بها تجعلها، على رغم ارتباطها بواقعها السياسي والعسكري، متلاحمة مع ماضيها وتنبعث منه وتتطور! فلا تكون بذلك مجرّد "تابع" أو "جزء" من تاريخ عظيم ما أو أمة ما. وإنّ تطور العلوم، كحلقة أساسية من الحلقات المتلاحمة المشكّلة للحضارة ككل، تجعل من تاريخ البشرية عملية تتابع وتكامل تتعارض في ذلك مع التباين والانقسام النابع من التاريخ السياسي والعسكري للبشرية!
وتاريخ الحضارة من حيث أنه تاريخ تلك المغامرة البشرية المتتابعة والمتواصلة، يختلف بشكل تام عن تلك الصورة التي حاول الغرب بشكل خاص، إرساءها في معظم العقول. فبشكل واعٍ أو غير واع، صُوّر تاريخ الحضارة وكأنه مجرد قمتين تقع أولاهما عند اليونان وثانيتهما مع الغرب الأوروبي؛ فإذا ما أضيف تأثير حضارة "قديمة" ما، فبشكل نقاط واهية يُراد لها أن تبدو كفتاتات بعيدة عن كل تتابع أو تكامل. وهدف تصوير تاريخ الحضارة بشكل كهذا لا يمكن إلا أن يصبّ في خضم تلك المحاولات العاملة على تقسيم البشرية ما بين شرق "عاطفي" وغرب "منطقي"، إذ يكفي لبرهنة ذلك إضفاء صفة "الغربي" على تلك المساهمة اليونانية العظيمة، صفة تتناقض مع امتداداتها الجغرافية ومناطق وجودها وتواصلها السابق واللاحق.
ومحاولات الدفاع، المشرقية عموماً والعربية خصوصاً، غالباً ما تتمثل بتقبّل هذه الفلسفة "التشويهية" للحضارة، وبالإكتفاء بمحاولة إضافة قمة ثالثة ما بين القمتين السابقتين هي "قمة الحضارة العربية"! إن نظرة موضوعية واعية تشق طريقها على الرغم من كل العوائق. هذه النظرة ترتكز، لا محالة، على وحدة التجربة البشرية وعلى فلسفة الحضارة التواصلية التكاملية الممتدة على مدى آلافٍ عشرة من السنين.
هذه النظرة تقودنا، لا محالة، إلى رؤية أكثر شمولية للتاريخ البشري وللحضارة كمغامرة موحدة له، مغامرة كان المشرق الأدنى أرضاً خصبة ومرتعاً متتابعاً لها، وكان مركزاً أسهم في إغنائه موقعه الجغرافي ووظيفته الاقتصادية على مر العصور وعلى طول بضع مئات من الأجيال. فالتجارة نشاط تلاحم دوماً مع الحضارة، ترابط بها، وتفاعل معها، وتعاظم بتعاظمها. والتجارة عملت دوماً على قبول الآخر وتقبّل ما لديه من علم ومعرفة واستيعاب منتوجاته المادية منها والفكرية، ونقلها وخلق الجديد منها.
وظيفة المشرق المتوسطي جعلت منه القاعدة التي امتدت فيها وتواصلت على مدى أكثر من عشرة آلافٍ من السنين، والحضارة بأبعادها المختلفة، وبمساهمات متنوعة، تفاعلت في ما بينها أو أعطت دفعاً جديداً لما ضعف منها، مساهمات اشترك وتتابع بالاشتراك فيها المصريون والسامريون والبابليون والفينيقيون واليونان والفرس، إلخ. هذه المساهمات تكاملت في ما بينها دافعة بركب الحضارة إلى الأمام، على الرغم من التقاطع السياسي والانقطاع التصارعي، والحروب التي غالباً ما كانت نتيجتها في هذه المنطقة من العالم تغيير ساكن القصر مع متابعة للواقع الاقتصادي وللأسس الحضارية للمنطقة في دينامية جديدة.
وتقع عملية الانفصام الأساسية في تاريخ البشرية الحضاري مع اكتشاف الأمريكتين، وما استتبعه من غنى للغرب المنسي قبلها على شاطئ بحر الظلمات، وتعميق هذا الانفصام، حمله اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح بُعيد ذلك، وما أدى إليه، منذ قرابة خمسة عشر جيلاً، من تهميش لدور المشرق الاقتصادي وانحسار لتأثيره الكوني.
وأروع ما في المرحلة العربية من المغامرة الحضارية امتداداتها المتعددة على الصُعد كافة، بمصادرها وأسسها الفكرية ومنابعها، وبأجناس المشتركين فيها، وبقومياتهم، وبأديان المضطلعين بها، وبتواصلهم. فإذ بها عربية، لا قومية أو عرقية أو ما شابه ذلك من أطر ضيقة، بل عربية الصفة واللغة بمرتكز أساسه تلك التعددية الرائعة التي قد تعبّر عنها كلمة أمّة.
- هذه المقالة هي مقدمة المترجم الدكتور شكرالله الشالوحي في 14 تشرين الثاني 1993 ، لكتاب " علم الهندسة والمناظر في القرن الرابع الهجري" ( ابن سهل – القوهي – ابن الهيثم ) للدكتور رشدي راشد .
- الكتاب من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية ، ضمن سلسلة تاريخ العلوم عند العرب.