لم يدرك شارلز دارون مؤسس نظرية التطور وصاحب كتاب "أصل الأنواع"، عصر التقدم الهائل في علوم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية الذي نعيشه الآن. وبالرغم من ذلك فإن معظم مؤيدي النظرية يستخدمون هذا الكم الهائل من المعلومات الناتجة من هذا التقدم كدلائل لإثبات النظرية وإلى هذه اللحظة مازال الخلاف مستمر بين مؤيد ومعارض. والسؤال هنا هل كل ما يستخدمه مؤيدي النظرية والمعروفين بالتطوريين يأتي بالفعل في صفهم ويساهم في إثبات النظرية أم أن الأمر ما هو إلا محاولات؟.
سنستعرض هنا واحدة من هذه الدلائل التي تُستخدم من قبل التطوريين كإثبات للنظرية وهي "أخطاء إنزيم التضاعف" كمصدر للاختلافات الوراثية ومدى تأثيرها على تطور الأنواع. تتم عملية التضاعف في الخلايا الحية بطريقة منظمة وغاية في الدقة وذلك قبل انقسام الخلايا. و يوجد نوعان من الإنقسامات الخلوية، أولهما الانقسام الميتوزي الذي يتم في الانسجة الجسمية، والهدف منه هو النمو وتكاثر الخلايا مع الحفاظ على نوعيتها وعلى محتوها من المادة الوراثية كماً ونوعاً. والنوع الثاني هو الانقسام الميوزي الذي يحدث في الأنسجة الجنسية، وهو يهدف إلى تنصيف عدد الصبغيات (الكروموسومات) وتكوين التوليفات المختلفة بين الجينات وبعضها فيما يعرف بعملية العبور الوراثي التي تعتبر جزءاً أساسياً في عملية التنوع الوراثي وذلك قبل تكوين الجاميطات (النطف). و يقوم بعملية التضاعف إنزيم التضاعف ويساعده في ذلك عدة إنزيمات لها وظائف محددة. ومن المثبت أن إنزيم التضاعف يتسبب بنسبة من الخطأ أثناء تضاعف المادة الوراثية و ينشأ ذلك نتيجة وضع نيوكليوتيدة (وحدة بناء المادة الوراثية) تحمل قاعدة نيتروجينية في مكان خاطئ (غير مكمل للخيط القالب). ولكن تكرار حدوث هذا الخطأ صغير جداً وهو يحدث بمعدل قاعدة واحدة لكل 100,000 (مائة ألف) قاعدة تقريباً. فلو أخذنا مثالاً على خلية في الانسان والتي تحوي ما يقرب من 6 بليون قاعدة نيتروجينية، فإن الخطأ الناتج من إنزيم التضاعف أثناء تضاعف المادة الوراثية يكون ما يقرب من 60,000 قاعدة تقريباً. ولكن هل هذه النسبة من الأخطاء ثابتة وغير قابلة للتصحيح؟ وهل هي مؤثرة فعلاً على الشكل الظاهري للكائن الحي؟ و هل تتوارث من جيل لآخر؟؟
توجد أثناء و بعد عملية تضاعف المادة الوراثية عدة آليات الهدف منها هو إصلاح الأخطاء التي قد تحدث من إنزيم التضاعف. و أول هذه الآليات هو عملية تصحيح أخطاء القراءة Proofreading و هي خاصية لأحد إنزيمات التضاعف، و هي تقوم بتعديل الأخطاء بشكل كبير يصل لـ 90%. وهذه أول آلية تقلل من النسبة السابقة إلى 10% أي تجعلها تصل إلى قاعدة من كل مليون قاعدة. تأتي بعدها آليه أخرى، و هي تصحيح الارتباط الخاطئ بين القواعد في خيطي المادة الوراثية Mismatch correction وتتم بإزالة القاعدة الخاطئة واستبدالها بقاعدة أخرى صحيحة.
وهذه الآلية تقلل أيضاً من تكرار الخطأ بنسبة كبيرة. بعد إنتهاء التضاعف يأتى تشكل المادة الوراثية لتأخذ التركيب الثانوي، و أثناء هذا التشكل تتكون بعض المناطق الشاذة Deformities نتيجة لبعض الأخطاء المتبقية من الآليتين السابقتين، فتقوم بعض الانزيمات بالتعرف على هذه المناطق واستبدال القواعد الخاطئة بإخرى صحيحة. و الآن لا يتبقى في الغالب أي أخطاء. ولكن ماذا يحدث إذا تبقى القليل من الاخطاء، هل سيكون له تأثير؟؟ بعد استعراض آليات الإصلاح التي تعمل على تقليل نسبة الأخطاء الناتجة من إنزيم التضاعف، سيتم الآن عرض إحتمالات وجود بعض هذه الأخطاء و التي لم تتمكن آليات الإصلاح من تصحيحها. في البداية يجب الإشارة إلى أن جميع الطفرات و التغيرات التي تحدث أثناء التضاعف وغيرها على مستوى الخلايا الجسمية لا يكون لها أي تأثير على النسل القادم و لا تشارك بأي نسبة في تركيب المادة الوراثية الموّرثة، أي أنها لا تشارك في عملية تطور الأنواع. و بمعنى آخر أنه يلزم أن تحدث هذه الأخطاء في الأنسجة الجنسية أثناء تضاعف المادة الوراثية في الانقسام الميوزي لكي يكون لهذه الاختلافات تأثير في خلايا النسل القادم ومن ثم تضمن الاستمرار في النوع. ولو فرض أن هذه الاخطاء المتبقية حدثت في الخلايا الجنسية و إنتقلت إلى الجاميطات (النطف) ومن ثم إلى النسل الجديد فيشترط لكي تستمر هذه التغيرات وتؤثر في النسل القادم عدة أمور.
أولاً: يجب أن تحدث التغيرات في الكروماتين الحقيقي، حيث يوجد في الكروموسوم نوعين من الكروماتين، الكروماتين التركيبي والمعروف بالـ Heterochromatin وهو يكون في مناطق السنترومير والتيلومير (أطراف الكروموسومات) و لا يوجد به جينات تشفر لبروتين. والكروماتين الوظيفي أو الحقيقي Euchromatin و هو الذي يحتوي على الجينات المشفرة للبروتينات المختلفة. فإذا حدثت الأخطاء في البروتين التركيبي فلا يكون لها أي تأثير على الشكل الظاهري للفرد لأنها خارج نطاق الجينات. أما إذا حدثت الأخطاء أثناء التضاعف في الكروماتين الحقيقي فيمكن أن يكون لها تأثير في الشكل الظاهري للفرد نتيجة لتأثرها في تغيير تركيب الجين.
ثانياً: لو حدثت الأخطاء كما ذكرنا سابقاً في المناطق ذات الكروماتين الحقيقي (التي تحوي الجينات) فيكون هناك إحتمالين أيضاً. أن تحدث هذه الاخطاء في مناطق الإكسونات وهي المناطق التي تشفر فعلياً لبروتينات وفي هذه الحالة يكون هناك تأثير لهذه الأخطاء. أما إذا حدثت هذه الأخطاء في مناطق الانترونات وهي المناطق التي يتم إزالتها من الحمض النووى المرسال mRNA بعد عملية النسخ و لا تدخل في عملية الترجمة، وهذا في أغلب أنواع الكائنات الحية، فلن يكون لها تأثير على الناتج النهائي من البروتين.
ثالثاً: الشفرة الوراثية، حيث يوجد عشرين حمض أميني قياسي يشفر لها 61 نوع من الشفرات الوراثية من أصل 64 شفرة وراثية بالإضافة لثلاث شفرات مسئولة عن الايقاف لعملية النسخ. و باقي الشفرات خاصة بالأحماض الأمينية، و لكن يتم توزيع الشفرات بهذا الترتيب: يوجد نوعين من الأحماض الأمينية لكل منهما نوع واحد فقط من الشفرات، بينما تسعة أحماض أمينية لكل منها نوعين من الشفرات، و حمض واحد له ثلاث أنواع من الشفرات، و خمسة أحماض لكل منها أربعة أنواع من الشفرات، و أخيراً ثلاث أحماض لكل منهما ستة أنواع من الشفرات. و بهذا يكون إجمالي الأحماض عشرون و أجمالي الشفرات 61 بالإضافة للثلاثة الخاصة بالإيقاف ليكون المجموع 64. والآن نرى بوضوح أن أغلب الأحماض الأمينية لها أكثر من نوع من الشفرات بحيث إذا تغيرت القاعدة الأخيرة لا تؤثر على نوع الحمض الأميني و بالتالي لا تؤثر على البروتين الناتج. وبهذا يتضح أن بعض الأخطاء القليلة و الناتجة أثناء تضاعف المادة الوراثية قد لا يكون لها تأثير بالمرة إذا لم يتغير نوع الحمض الأميني. وهذا يقلل بدرجة كبيرة جداً إحتمال حدوث تغير في الشكل المظهري.
رابعاً: كل نسيج له مجموعة من الجينات التي تعبر عن نفسها وتشفر لبروتينات خاصة و متخصصة فقط لهذا النسيج، بالإضافة للبروتينات العامة التي توجد في جميع الأنسجة. وبالتالي فليس كل الجينات يتم التعبير عنها في جميع الخلايا. وهذا يعمل على تقليل فرصة التأثير الناتج من حدوث الأخطاء أثناء عملية التضاعف، لأنه لا يكون هناك تأثير إلا إذا حدث الخطأ في الجينات التي تعبر عن نفسها في نسيج معين، أما باقي الأخطاء في باقي الجينات (إن وجدت) فلا يكون لها أي تأثير. وهذا بدوره يقلل من فرصة تأثير الأخطاء.
- كل بروتين سواء كان تركيبي أو وظيفي هو عبارة عن سلسلة من العديد من الأحماض الأمينية. حيث تتشكل هذه السلسلة بشكل فراغي معين يحدد وظيفة البروتين و يكون هنا مواضع خاصة بنشاط هذا البروتين. وغالباً لا يحدث إختلاف في الشكل الفراغى للبروتين إلا بتغير في عدد معين من الأحماض الأمينية الموجود في مواضع محددة، أما بقية الأحماض فلا يكون لها تأثير على الوظيفة أو التركيب النهائي للبروتين. وهنا نجد أنه إذا حدثت بعض الأخطاء أثناء التضاعف وتسببت في تغيير بعض الأحماض الأمينية فلا يكون لها تأثير على وظيفة البروتين أو شكله الفراغي إلا إذا حدثت في بعض الأحماض الأمينية الأساسية التي تؤثر في الشكل الفراغي و المواضع الوظيفية لهذا البروتين. و هذا أيضاً يتسبب في خفض التأثير الذي قد يحدث من أخطاء إنزيم التضاعف.
- إن معظم الصفات في الكائنات الحية وخاصة الحيوية منها عبارة عن صفات كمية. بمعنى أن هذه الصفات يتحكم فيها عدد كبير وغير معروف من الجينات التي يكون بينها علاقات تفاعلية مختلفة مثل التفاعل الجيني وأنواع التفوق الوراثي المختلفة بالإضافة لتأثر هذه الصفات بالظروف البيئية بدرجة كبيرة. فلا يمكن القول بسهولة أن أي تغير وراثي في تتابع المادة الوراثية وإن كان صغير سيتسبب في تغيير هذه الصفات لأن كل جين له دور معين وأحياناً تشترك عدة جينات في دور واحد. وهذا يعنى أن فرصة ظهور التغيرات الناتجة من أخطاء تضاعف المادة الوراثية قليلة جداً في هذه الصفات.
والخلاصة مما سبق أنه لا يجب استخدام أخطاء إنزيم التضاعف كدلالة لإثبات نظرية التطور وكما تبين لنا لكي يحدث ذلك يجب أن يكون تكرار حدوث الاخطاء أعلى مما هو عليه و إن حدث فسيواجه آليات الاصلاح المختلفة (تصحيح القراءة – الارتباط الخاطئ – التكوينات الشاذة) و يلزم أن يكون هذا الخطأ في الأنسجة الجنسية أثناء تكوين الجاميطات على أن تشارك هذه الجاميطات (النطف) المحتوية على التغيرات في تكوين النسل القادم لضمان الاستمرارية وبقاء الطفرة في الأجيال القادمة. وأن يحدث ذلك أيضاً في الكروماتين الحقيقي و أيضاً يلزم أن يكون في المناطق التي تشفر لبروتين (الاكسونات) ويجب أن يكون لها تأثير على تغيير الحمض الأميني أثناء الترجمة و أن تتفادى التباديل الممكنة للشفرات الخاصة بكل حمض أميني، وأيضاً يجب أن تعمل على تغيير أحماض أمينية معينة التي توجد في مواضع خاصة بالبروتين وتؤثر على تغيير شكله الفراغي وأن يحدث لهذه التغيرات نفاذية و تعبير على الشكل الظاهري وأن يكون ذلك في الجينات الرئيسية التي تؤثر بشكل كبير على الصفات الكمية.
وأخيراً لو أننا قمنا بحساب كل إحتمال مما سبق على حدة وقمنا بضرب هذه الاحتمالات معاً للحصول على الاحتمال النهائي، سنجد أن هذا الاحتمال يساوي صفر، ومعنى هذا أنه بالرغم من وجود بعض الأخطاء أثناء عمل إنزيم التضاعف فإن ليس لهذه الأخطاء أي تأثير على التركيب الوراثي أو الشكل الظاهري للفرد أو نسله و بالتالي لا تساهم في أي تطور.