"أنا رجل بدأت الدين من أول السطر". هذه مقولة د. مصطفى محمود والتي لخص فيها رده علي رحلة حياته الفكرية والتأملية في معرفة الله والتي انتهت بإنتاج فكري إبداعي وتصوفي تقرب فيه إلي الله وبإخلاص. وقلما أن يجود الدهر بأعلام من أصحاب الفكر المتميز والمتفرد ، أصحاب رؤية وفلسفة و قلم مبدع تماما كما هو في أهل الدين والفقه والعلم فقلما يجود الزمان علينا بتلك العقول النيرة التي تعيش لغيرها بـنواتج عقولها. عقول شعلة من الفكر تضيئ دروبا راكدة. إنه الدكتور مصطفى محمود الذي رحل عن عالمنا في مثل هذه الأيام في 31/10/2014.
د. مصطفى محمود صاحب كتاب "الله والإنسان" الذي كان سبباً في إتهامه بالإلحاد والكفر وبسببه تم تهديده بالقتل وبسببه تمت محاكمته بطلب من الرئيس جمال عبد الناصر أمام محكمة أمن الدولة أمام قاضي صوفي والذي انتهى بسببه أن يكون من المتصوفة. وصاحب قضية "الشفاعة" التي تسببت في إتهامه بإنكار الشفاعة. وصاحب سلسلة من الكتب التأملية في الله و الكون و أشهرها كتاب "عرفت الله" وكتاب "رحلتي من الشك إلى اليقين" و كتاب "حوار مع صديقي الملحد" والتي رد فيها على كتابه "الله والناس". وهو صاحب البرنامج الأشهر في عصره وحتى الآن " العلم و الإيمان" الذي يمثل ثروة علمية في عصره استخدمها في التأمل والتدبر والتفكر في الله سبحانه وتعالى بأسلوب بسيط يصل إلى قلب وعقل المشاهد البسيط و الغير متخصص قبل المتخصص. وما زال الجميع يذكرون سهرة الإثنين الساعة التاسعة و مقدمة الناي الحزينة في البرنامج و إفتتاحية مصطفى محمود (أهلا بيكم)!
إنه العالم والكاتب، الفيلسوف والشاعر والأديب والإعلامي والمتصوف والطبيب الذي ملأت سيرته العالم العربي والإسلامي بل والغربي حينئذ. الكاتب الذي أثار حفيظة إسرائيل بكتاباته عن الصهيونية مما دعي الدكتور أسامة الباز مدير مكتب العلاقات الخارجية برئاسة الجمهورية بأن يرسل خطاباً لإبراهيم نافع في عام ١٩٩٤ يطلب منه برفق أن يخاطب الكاتب د. مصطفى محمود في اعتبار العلاقات الدولية وخاصة مع اليهود في كتاباته منعاً للمشاكل الأممية. الكاتب الذي خصصت له حراسة على منزله و عليه شخصياً خوفاً من تنفيذ التهديدات التي انهالت عليه و على أسرته بسبب قضية الشفاعة. إنه صاحب اثنين وعشرين عملية جراحية أكبرها في القلب وإزالة جزء من الأمعاء والكثير من الأمراض وكان آخرها الجلطة في المخ ومرض النسيان. الرجل الذي ملأ الدنيا جدلاً في شخصيته و كتاباته و فكره و موسوعته و ثقافته حتى ملأت سيرته الدنيا واقترب منه الملوك والرؤساء والأكابر وانتهت به الدنيا ليفارقها وهو وحيد، فلم يحضر عزاءه أو جنازة دفنه أحد. الرجل الذي عاش للناس و مات دون الناس. د. مصطفى محمود صاحب وسام الجمهورية من الطبقة الأولى من الرئيس مبارك وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من الرئيس جمال عبد الناصر وصاحب العديد من النياشين والأوسمة التي كانت دائماً أعماله الفكرية أكبر منها.
الإسم بالكامل مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ ولد في 27 ديسمبر 1921 في ميت خاقان بمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية وتوفاه الله في 31 أكتوبر 2009 عن عمر يناهز 88 عاماً قضى معظمها في القاهرة. ويعود نسبه إلى الأشراف و ينتهي نسبه إلى علي زين العابدين. توفي والده وهو مازال يدرس بالجامعة وعمره 18 عاماً يدرس الطب و تخرج عام 1953 و تخصَّص في الأمراض الصدرية، ولكنه تفرغ للكتابة و البحث عام 1960. تزوج د. مصطفى محمود عام 1961 وانتهى الزواج بالطلاق عام 1973 و رزق بولدين هما "أمل" و"أدهم" ثم تزوج ثانية عام 1983 و لكن لم تمر حوالي أربعة أعوام حتى إنتهى، وانتهى بالطلاق عام 1987. بدأ حياته متفوقاً في الدراسة، حتى ضربه مدرس اللغة العربية، فغضب و انقطع عن الدراسة مدة ثلاث سنوات إلى أن انتقل هذا المدرس إلى مدرسة أخرى فعاد مصطفى محمود لمتابعة الدراسة. وفي منزل والده أنشأ معملاً صغيراً يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات، ثم يقوم بتشريحها، و حين التحق بكلية الطب اشتُهر بـ"المشرحجي"، نظراً لوقوفه طول اليوم أمام أجساد الموتى، طارحاً التساؤلات حول سر الحياة و الموت وما بعدهما.
إنه الكاتب العلمي والسياسي والأدبي الذي صاحبه الزعيم السادات والذي ما كان يمر شهر حتى كان يطلبه مع النخب للقاءات فلسفية وسياسية وتأملية للإستفادة من إمكاناته الفكرية. هو الفيلسوف الذي تمتع بحب الناس البسطاء وبكل الدرجات ومنهم الفنانون فأخرجت مسرحياته. الكاتب المتأمل صاحبه الفنانون مثل د. محمد عبد الوهاب وعبد الحليم وجلال الشرقاوي وكامل الشناوي وإحسان عبد القدوس وغيرهم و وصلت أواصر الصداقة بينه وبين عبد الوهاب في أخذ رأيه في الأصوات الجديدة حينئذ، مثل محمد ثروت وغيره. الكاتب ذو الصوت العذب والضحكة المتميزة ونظرات العيون المتأملة. والذي أتقن العزف على العود و الناي ببراعة ولازماه طيلة حياته.
إنه صاحب حلقات بحلقات برنامجه العلم والإيمان التي خاطب فيها العقل المتأمل بفلسفته والفكر البسيط. الرجل الذي قضى نصف حياته في السفر لجمع المواد العلمية والتأمل و التعارف حتى نقل خبرات العقول الأخرى بفكر واع سبق عصره. الرجل الذي إختلف معه أهل الدين و الفقهاء و المتخصصين و لكنه بنى مسجداً شهيراً و مستشفى لخدمة البسطاء وبالجهود الذاتية. إنه الرجل الذي بحث عن الحقيقة ثلاثين عاماً في رحلة شاقة حتى اهتدى إلى الصراط والفطرة والدين الصحيح. الرجل الذي قال عن نفسه في تجربة هي الأولى من نوعها في العصر الحديث "لقد بدأت الدين من أول السطر" حتى يدرك فلسفة أحكامه و نواهيه بالعقل والنقل و ليس النقل فقط. وقد صهرته هذه التجربة بقوة وصنعت منه مفكراً دينياً خلاقاً، فلم يكن هو أول من دخل في هذه التجربة، فعلها الجاحظ قبل ذلك، و فعلها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. تلك المحنة الروحية التي يمر بها كل مفكر باحث عن الحقيقة، ان كان الغزالي ظل في محنته 6 أشهر فإن مصطفى محمود قضى ثلاثين عاماً أنهاها بأروع كتبه وأعمقها (حوار مع صديقي الملحد)، (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، (التوراة)، (لغز الموت)، (لغز الحياة)، وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة.
إنه العالم الذي لم يهزمه المرض الذي أقعده في بيته ثلاث سنوات أثناء صغره وهو في دراسته الجامعية والذي لم يوقف سيل كتابته في كبره أثناء عمله. الطبيب الذي فضل الكتابة العلمية عن مزاولة الطب ليكون متميزاً ومتفرداً في منهجه وأسلوبه فسبق عصره. الرجل الذي مزج العلم بالإيمان فجعل الإيمان من العلم والعلم من الإيمان. الرجل الذي جعل الإنسان البسيط يردد "سبحان الله" عندما يشاهد آيات الله في الكون و الناس. الرجل صاحب الضحكة العذبة والصوت الحنون والنبرة الهادئة، الرجل الذي كان برنامجه جزء من ثقافة عامة الناس فأثرت فيهم وأعلت من شأن فكرهم وحركت تيارات الفكر في العقول الساكنة حتى جعلت الفلاحين في الحقول يتحدثون بلغته العلمية.
ألف الدكتور مصطفى محمود 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى الحكايات و المسرحيات وقصص الرحلات، و قدم 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان)، وأنشأ عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف بـ "مسجد مصطفى محمود". والذي يتبعه ثلاثة مراكز طبية، و أربعة مراصد فلكية، ومتحفاً للجيولوجيا، والاسم الصحيح للمسجد هو "محمود" وقد سماه باسم والده والذي أنشئ بالجهود الذاتية وكان أولها دخل كتابه الأول "المستحيل". تلك نبذة عن مفكر وفيلسوف وكاتب مبدع وطبيب ومتصوف وإعلامي، قلّما أن يجود الزمن بمثله في العصر الحديث سواء اختلف الناس معه أو اتفقوا فسيظل رمزاً للفكر المتحرك الذي يلقي الحصى في الماء الراكد ليسري فيه تيار الفكر والتأمل و الحكمة والتحليل المنطقي والإبداع الخلاق.
مات مصطفى محمود ولكن تعيش أعماله و أفكاره بين الناس و لن تموت. ومن يدري لعل أن يأتي اليوم الذي تقدر أعماله مجتمعة وينال التقدير والتكريم الدولي الذي يستحقه والذي أتمناه له في جائزة نوبل للسلام، نعم هو يستحقها فيكفي أنه كان سبباً في حراك فكري فردي ومجتمعي على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان. ما أحوجنا إلى ألف مصطفى محمود هذه الأيام. وكل الأيام.
رحم الله د. مصطفى محمود وجعل كتاباته وأعماله في ميزان حسناته.
البريد الإلكتروني للكاتب : mohamedlabibsalem@yahoo.com