هذه لحظات في التاريخ لا يمكن فيها سوى النزول إلى الحلبة مع الجميع، وشُدَّ على قبعتك أو طاقيتك أو عقالك أو كوفيتك أو عِمّتك، واستَجبْ لتحدّي دعوة الرقص الأندلسية "هنا الوردة فلنرقص هنا". فعلتْ ذلك شاءت أم أبت جامعات البلدان العربية والإسلامية التي وجدت نفسها في حلبة التصنيف العالمي، ومعظمها غير مؤهل للمنافسة حتى على صعيد إقليمي، وتختلف متطلباتها ومعاييرها، إنْ وجدت، عن الجامعات العالمية، وهذه مشكلة. والجامعات العالمية نفسها تختلف على معايير التصنيف وجدواه، وهذه مشكلة أكبر. هل يمكن أن نجد هنا مدخل الجامعات العربية إلى المجتمع الأكاديمي العالمي، وفق إيقاعات الربيع العربي، أي تُسمع العالم ما تريد؟
متابعة جداول تصنيف الجامعات هذا العام تكشف عن مفاجئات ارتفاع وهبوط، ليس الجامعات العربية وحدها، بل أرقى الجامعات العالمية أيضاً. تصنيف المجلة البريطانية "التايمز للتعليم العالي" خصّ بالأولوية "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا". وأزيحت إلى المرتبة الثانية "جامعة هارفارد" التي تربعت على عرش الأولوية العالمية منذ بدء حركة التصنيفات مطلع العقد الماضي.
وقد لا تكون صدمة خفض مرتبة "هارفارد" الأميركية كصدمة "كمبردج" البريطانية التي أزيحت إلى المرتبة السادسة وصعدت إلى مكانها في المرتبة الرابعة غريمتها جامعة "أكسفورد". والمفاجآت العربية لا تقل إثارة، حيث احتلت "جامعة الإسكندرية" المرتبة الأولى عربياً وإقليمياً، وجاء ترتيبها ضمن 225 جامعة الأولى عالمياً متخطية جامعات "ولاية نيويورك" و"جورج ميسون" و"هيوستن" و"ميريلاند" الأميركية، وجامعات أوروبية مرموقة مثل "هيرتفورد شاير" و"كيل" البريطانيتين، و"فيرارا" الإيطالية، و"جامعة شرق فنلندا"، و"كانتربري" النيوزيلندية و"شارلز دارون" الأسترالية، وفازت أيضاً على جامعات مهمة في المنطقة، مثل "بوغازي" التركية، و"بارإيلان" الإسرائيلية، وجامعة "شريف للتكنولوجيا" الإيرانية.
ويثير الدهشة عدم ذكر تصنيف "التايمز" الذي يعتمد على قاعدة المعلومات العلمية "طومسن رويترز" جامعات سعودية نالت العالمية قبل أسابيع، مثل "الملك سعود" بالرياض، والتي صنّفها تقرير "مركز الجامعات العالمية " في جامعة "شنغهاي" ضمن 300 أفضل جامعة في العالم، واعتُبرتْ جامعة "الملك فهد للبترول والمعادن" بين أفضل 400 جامعة عالمية، وأعاد التصنيف "جامعة القاهرة" إلى مكانتها بين أفضل 500 جامعة، وكانت قد فقدتها قبل خمس سنوات. وأعقب "تصنيف شنغهاي" تصنيف "كيو. إس" Q.S الذي احتوى مفاجآت عربية وعالمية، حيث احتلت جامعة "كمبردج" الأولوية، وجاءت "هارفارد" في المرتبة الثانية، و"معهد ماساشوستس للتكنولوجيا" في الثالثة. وقفزت "جامعة الملك سعود" إلى المرتبة 200 في تصنيف "كيو. إس"، و"جامعة الملك فهد" إلى المرتبة 221، أي أصبح كلاهما من جامعات البحث العلمي العالمية.
واعتبرت قائمة "كيو. إس" إنجاز الجامعات السعودية من علائم الربيع العربي، مشيرة إلى صعود جامعتي "الملك فيصل" و"الملك خالد" إلى مرتبة أفضل 500 جامعة عالمية، وجامعة "أم القرى" مرتبة 550. ودخلت 34 جامعة عربية قائمة أفضل 742 جامعة عالمية، بينها خمس جامعات مصرية، إضافة إلى جامعتي "قطر" و"الأخوين" المغربية التي فتحت أبوابها عام 1995 وتعتبر أصغر الجامعات العالمية عمراً في القائمة.
ويثير تباين التصنيفات العالمية اختلافات في وجهات النظر حول طرائقية التصنيف، وجدواه. ويركز معظم نقاش الأكاديميين على المؤشرات والمعايير، ومصداقية العملية الإحصائية، والتضارب بين التقييمات المختلفة. تذكر ذلك هيلين هيزلكورن، عميدة أبحاث سياسات التعليم العالي في "معهد دبلن للتكنولوجيا"، وتشكو الباحثة الإيرلندية، في دراسة عنوانها "المعركة على التميز العالمي"، من تركيز التصنيف على البحث، وليس على التدريس، وتشير إلى تصنيف دول الوحدة الأوروبية "يو- ملتيرانك" الذي يأخذ في الاعتبار، إلى جانب معيار نسبة عدد الطلبة إلى المدرسين، معدلات عدد الخريجين، وحصولهم على العمل أو بطالتهم بعد التخرج. وتنتقد الباحثة استخدام حكومات عدة التصنيف بشكل متحيز لإعادة هيكلة سياسات التعليم، وحفز جامعات النخبة على احتلال المراتب الأولى، وإهمال الجامعات الأقل حظاً.
ويدل تاريخ التصنيف على أن قياس الأمور الخاطئة ينتج تشوهات، ويخلق حوافز منحرفة، تجعل أفضل الجامعات أسوأها في توسيع فرص التعليم العالي. يذكر ذلك بيان "مجموعة راسل" البريطانية حول تصنيف "التايمز".
ويُعتبر احتكار الإنجليزية لغة العلم عاملاً مؤثراً في انخفاض تصنيف الجامعات العربية وغيرها من جامعات ليست الإنجليزية لغتها القومية. فأكثر من 80 من المراكز الأولى في مختلف التصنيفات يذهب إلى جامعات ناطقة بالإنجليزية، ويُبعد النشر بغير الإنجليزية الأبحاث العلمية عن الجدولة والاستشهاد في المراجع الدولية. ورغم ذلك ظهرت تطورات مثيرة تعارض نزعة الاستسلام التقليدية الكئيبة السائدة في أوساط أكاديمية عربية وعالم ثالثية. نقرأ ملامح هذه التطورات في دراسة "يورغه بالان"، الباحث الأقدم في "كلية الشؤون الدولية والعامة" في "جامعة كولومبيا" بنيويورك، والذي يلاحظ سرعة نمو النشر العلمي بالإنجليزية في البلدان غير الناطقة بالإنجليزية، يرافقها في الوقت نفسه تسارع أكبر في نمو النشر العلمي في هذه البلدان نفسها بلغاتها الوطنية.
يحدث ذلك حتى في المجال الطبي، حيث تعتبر الإنجليزية اللغة العالمية المشتركة للمهنة. ويخدم النشر الطبي بلغات غير الإنجليزية التعليم الطبي المحلي، ويدعم البحث حول توفير الرعاية الطبية للمجتمعات المحلية بهدف كسب الرأي العام وصانعي القرار، وفي المقابل يستجيب النشر العلمي بالإنجليزية لطموح الإدارات الأكاديمية لرفع تصنيف جامعاتها.
وهذا ربيع يقول عنه المثل الصيني "ألوان الربيع لا يمكن حصرها داخل حديقتك". وكيف يمكن مثلا حصر ألوان ربيع السعودية التي تنفق 8 في المئة من ميزانية الدولة على التعليم العالي داخل وخارج المملكة، والتي قفز عدد جامعاتها إلى 32 وعدد كلياتها إلى 450، ويقرب عدد مبتعثيها في الخارج من 150 ألفاً؟ أرقام قياسية في تقدم التعليم العالي رافقتها أرقام قياسية في انتقاد الصحافة السعودية الجامعات ووزارة التعليم العالي. تحت عنوان "سلطة المال ومبادئ الجامعة"، كشف الدكتور ناصر السعيدي من جامعة أم القرى التنازل عن شروط القبول في الدراسات العليا "إذا كان الطالب يملك حفنة من الدراهم".
وفي مقال عنوانه "ليس دفاعاً عن وزارة التعليم العالي" في صحيفة "الاقتصادية" الإلكترونية، اعتبر المعلق الأكاديمي صالح محمد الجاسر غالبية النقد الموجه لبرامج الابتعاث هجوماً استفزازياً: و"الغريب أن معظم الهجوم تركز على بلدين، هما الأنجح والأفضل مخرجات، وهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة". والهجوم غريب حقاً، لكن فيه منطق. فالعرب يتخبطون في أحكامهم لأن قلوبهم تنبض بمشاعر تعجز اللغة العقلانية في التعبير عنها، وليس قلوب العرب وحدهم. فما القول في شباب الغرب الذين يغيرون أسماء ساحات أهم أحياء المال العالمية إلى "ميدان التحرير"؟.. "هنا الوردة فلنرقص هنا".