أعلن معهد كارولينسكا السويدي في ستوكهولم يوم الاثنين الماضي (السادس من أكتوبر/ تشرين الأول)، فوز الأمريكي جون أوكيف والنرويجيين ماي-بريت ماي بريت موزر، وإدفارد إي موزر بجائزة نوبل للطب لعام 2014. وسيحصل العالم الأمريكي على نصف قيمة الجائزة، بينما سيحصل الزوجان على النصف الآخر مناصفة، حسب الجهة المانحة. ولد جون أوكيف عام 1939 في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو باحث في علم الأعصاب الإدراكي في جامعة "يونيفرستي كوليدج أوف لندن" UCL، ومديرا لمركز سينسبري ويلكوم للدارات العصبية والسّلوك بالجامعة.
وولدت ماي-بريت موزر عام 1963 في النرويج، وتعمل مديرة مركز الحوسبة العصبية بالجامعة النرويجية للعلم والتكنولوجيا في تروندهايم (شمال غربي النرويج). أما زوجها إدوارد موزر فقد ولد عام 1962 في النرويج أيضا، ويترأس حاليا معهد الفيزيولوجيا العصبية ومركز البيولوجيا للذاكرة في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا. والزوجان موزر هما خامس زوج يفوز بجائزة نوبل. وماي-بريت هي السيدة الـ 45 التي تفوز بنوبل في تاريخ الجائزة. وهي أيضا المرأة رقم 11 التي تفوز بجائزة نوبل للطب منذ تأسيس الجائزة عام 1901.
وقالت لمؤسسة نوبل: "لا أزال تحت وقع الصدمة لكن الأمر رائع". أما زوجها فقد تلقى نبأ فوزه عند ترجله من الطائرة في ميونيخ في ألمانيا، وقال لوكالة الأنباء السويدية: "لقد كانت مفاجأة فعلا. لم أكن أفكر بذلك أبداً لذا لم أفهم شيئاً عندما استقبلت بباقات الزهر في المطار". وأوضحت ماي – بريت موزر كيف يعملان كثنائي. وقالت: "لدينا الرؤية نفسها ونحب أن نفهم الأشياء ونسعى إلى ذلك من خلال التحدث إلى بعضنا البعض ومع الآخرين ومن خلال محاولة حل المسائل التي تثير اهتمامنا بأفضل طريقة نفكر بها". وأشارت إلى "إمكانية مناقشة الأمر على الفور عند توصلنا إلى فكرة معينة بدلا من تنظيم اجتماع بعد أسبوعين أو 3 أسابيع تشكل فرقاً كبيراً".
"جي بي اس" داخلي في الدماغ
وفاز الباحثون الثلاثة بهذه الجائزة المرموقة لاكتشافهم الخلايا التي تشكل "نظام تحديد الموقع" الداخلي في الدماغ، أو "نظام الملاحة الداخلي" أو "internal GPS system" الذى يسمح بتوجيه الإنسان داخل محيطه.. وتوصل العلماء الثلاثة إلى اكتشاف الطريقة التي تستطيع الدماغ البشرية من خلالها معرفة المكان الذي يتواجد فيه الإنسان. وهو نظام أقرب ما يكون إلى نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي اس". وقالت جمعية نوبل في معهد كارولينسكا بالسويد في بيان إن هذه الاكتشافات "حلت مشكلة شغلت الفلاسفة والعلماء لقرون"، وأظهرت "كيف يرسم المخ خريطة للفضاء المحيط بنا وكيف نشق طريقنا عبر بيئة مركبة".
وكان أوكيف، وهو الرائد في هذا المجال، قد اكتشف في عام 1971، أول عنصر في هذا النظام أو المُكوِّن الأوَّل لنظام الملاحة هذا، عندما رصد لدى جرذ، خلية عصبية في منطقة من الدماغ تدعى تُعرف باسم "الحُصَين" Hippocampus، كانت تنشط عندما يتواجد الحيوان في مكان معين من المختبر. وقد وجد أنَّ نوعاً من الخلايا العصبية في منطقة من الدماغ تبقى مُفعَّلةً عصبيَّاً في دماغ الفأر عندما يكون في مكان معيَّن في الغرفة، وأنَّ خلايا عصبية أخرى كانت تنشط عندما يكون في أمكنة أخرى، وقد استنتج أوكيف أنَّه توجد "خلايا مكانية" قد شكَّلت خريطةً للغرفة. وأدى الاكتشاف إلى رسم خريطة للغرفة في دماغ الجرذ.
وبعد أكثر من ثلاثة عقود، اكتشف الزوجان موزر عام 2005 عنصرا أساسيا آخر في نظام تحديد المواقع في الدماغ، إذ رصدا نوعا من الخلايا العصبية التي تسمح بقيام نظام من البيانات المنسقة لحصول تموضع دقيق وإيجاد الوجهة الصحيحة، وتشبه تلك "الخلايا الشبكية" "Grid Cells" في شكلها خطوط الطول ودوائر العرض، حيث تساعد الدماغ في تحديد المسافة والموقع الملاحي. وهو نظام أشبه ما يكون في عمله بنظام تخطيط ملاحي يُمَكِّنه التحديد الدقيق للموقع الحالي للكائن، وأيضاً معرفة الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه ليصل إلى وجهة معيَّنة. وخَلُصَت أبحاث كل من "ماي-بريت وإدوارد" فيما بعد إلى أنَّ الخلايا المكانية والشبكية تَجعل من الممكن تحديد الموقع وإعطاء الأوامر المتعددة للوصول إلى وجهة محددة.
وقالت اللجنة التابعة لمؤسسة نوبل المانحة للجائزة إن الجمع بين الخلايا الشبكية وخلايا المكان من شأنه أن "ينشئ نظام تموضع شاملا، أشبه ما يكون بنظام جي بي اس داخلي في الدماغ البشرية". وفي السنوات الأخيرة، درس الزوجان معا كيف يدرك الدماغ ويتذكر حركات الجسم في الفضاء. وفي عام 2005م، خلال إجراء التجارب على الفئران، حقق الزوجان فتحا كبيرا في شبكة الخلايا العصبية الموجودة في القشرة المخية. ومعروف عن هذه الخلايا أنها تشكل المنظومة الخرائطية العامة التي تسمح للثديات بمعرفة وإيجاد موقعها في أي مكان بالطبيعة.
ثورة معرفية
يرى باحثون وعلماء أن أوكيف أحدث ثورة معرفية في هذا المجال، وقالت لجنة نوبل إن الاطلاع على النظام، قد يساعد في فهم الآلية التي تتحكم بفقدان الذاكرة المكانية الذي يصيب الأشخاص الذين يعانون من الزهايمر. ومن المرجح أن يكون لهذه الأعمال أثر كبير على طب الأعصاب ولا سيما على صعيد مرض الزهايمر حيث تتعرض دوائر الدماغ للضرر في مراحل مبكرة من المرض. وأضافت اللجنة: "يتأثر هذا النظام بالاختلالات المختلفة التي تطرأ على الدماغ، بما في ذلك الخرف ومرض الزهايمر." وتابعت اللجنة: "لذا، من المهم أن يكون هناك فهم أفضل للآليات العصبية التي تقف وراء الذاكرة المكانية، كما يعتبر هذا الاكتشاف لهذين النوعين من الخلايا طفرة كبرى تحدث تقدما في هذا التوجه."
وقال كولين ليفير، من جامعة دورهام البريطانية والذي عمل في معمل البروفيسور أوكيف لعشرة أعوام، لبي بي سي: "من المؤكد أن أوكيف يستحق جائزة نوبل بجدارة، لقد جاء بثورة معرفية. وتمثل دراسته نظرية متطورة ترى أن الحيوانات يمكنها أن تنشئ صورا للعالم الخارجي داخل أدمغتها." وأضاف: "تساعدنا خلايا المكان على وضع خريطة للطريق الذي نسلكه في العالم حولنا، إلا أنه وبالنسبة للبشر فإنها تشكل على الأقل جزءا من الجسر الزماني والمكاني في أدمغتنا." وتابع: "لم يكن العالم في عام 1971 مستعدا لبحثه الأساسي، ولم يكن أحد يعتقد في أن "المكان" هو أفضل ما يعرف عمل هذه الخلايا، لذا لم يكن هناك اهتمام كبير بهذه النظرية." وأردف قائلا: "إلا أن دراسته للتخطيط المكاني في ذلك الجزء من الدماغ كانت سببا لخلفية اكتشاف الخلايا الشبكية التي تهيأ العالم من خلالها لقبول فكرة خلايا المكان، إلى جانب أن جون كان هو الدليل لعائلة موزر في اكتشافهما."
وعلق جون ستاين، الأستاذ بجامعة أكسفورد، على هذا البيان قائلا: "أخبار رائعة لعلماء يستحقون الجائزة عن جدارة." وأردف قائلا: "أتذكر كم السخرية التي لقيتها نظرية الخلايا المكانية في فترة السبعينيات عندما كان جون يتحدث عنها لأول مرة." وأضاف: "والآن، وكما هو الحال مع العديد من الأفكار التي لقيت جدلا عند ظهورها، أعتقد أن الناس سيدركون أنها كانت صحيحة." وقال تروكيل كلينجبرج الأستاذ في علم الأعصاب الإدراكي: "إن الأمر يتعلق بالفسيولوجيا العصبية الأساسية مما يعني أننا لن نصل إلى علاجات جديدة السنة المقبلة أو في غضون 10 سنوات. بل إن هذه الاكتشافات قد تقودنا إلى فهم أعراض مرض الزهايمر وأمراض أخرى."
أولى جوائز نوبل
ويذكر أن جائزة نوبل للطب هي أولى جوائز نوبل التي يتم منحها كل عام، ويتسلم الفائزون جائزتهم في حفل يقام في ستوكهولم في العاشر من كانون الأول/ديسمبر في ذكرى ميلاد مؤسس هذه الجوائز ألفرد نوبل عام 1896. وتبلغ قيمة الجائزة ثمانية ملايين كرونة سويدية (1.1 مليون دولار). وجائزة نوبل في الطب هي أولى جوائز نوبل التي يتم منحها كل عام. وسيتقاسم الفائزون المكافأة المالية البالغ قدرها ثمانية ملايين كرونة سويدية، أي ما يعادل 1.1 مليون دولار، وسيذهب النصف إلى أوكيف والنصف الثاني إلى الزوجين موزر. وقد ترشح 263 عالم لجائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب في عام 2014م، من بينهم 46 عالما، جاء ترشيحهم للمرة الأولى، ولم يتم الإعلان عن أسماء المرشحين علنا، ولم يتم إبلاغهم عن حقيقة الترشيح. وسيقام حفل تسليم الجوائز كما هو معتاد في العاشر من ديسمبر/كانون الأول القادم، الموافق يوم وفاة العالم السويدي ألفريد نوبل.
مصادر
البريد الإلكتروني للكاتب: tarekkapiel@hotmail.com