استراتيجيات التميّز العملية المتّبعة عند علماء الطب المسلمين
لا شك أن المستوى المعجز للإنجاز العلمي و الطبي و الإنساني لعلماء حضارتنا الإسلامية المجيدة كانت له أسبابه المباشرة. و بدراسة تحليلية مكثفة للسير الذاتية الحياتية لهؤلاء العظماء و سبلهم التي اتبعوها، نستطيع أن نصل إلى المشترك من هذه السبل المنظمة أو الاستراتيجيات إن صح التعبير، و سنكتفي في هذه المقالة بعرض لأهم هذه الاستراتيجيات العملية الإجرائية دون التطرق إلى المعتقدات و القيم و المبادئ العميقة التي كانت وراء هذه الاستراتيجيات و التي سنبحثها في مقال آخر إن شاء الله.
التنشئة الأسرية الخاصة و تحصيل المعارف المتعددة و المكثفة منذ الصغر (التربية و التعليم المناسب منذ الصغر برعاية و إشراف مباشر من كلا الأبوين أو أحدهما): و كان هذا هو بداية طريق التعلم في العموم الأغلب من العلماء كنشأة ابن سينا و ابن البيطار و ابن مندويه الأصفهاني و ابن زهر في عائلته الأندلسية المشهورة في توارث الطب و أيضاً عائلة بختيشوع التي توارثت الطب أيضاً لعدة اجيال.
لكن بالمقابل و في مجال النشأة المعرفية العلمية المبكرة التي ساعدت الأسر في تكوينها عند أغلب النماذج الطبية المبدعة في دراستنا، نجد مثالاً آخر عن النشأة العصامية و الجهد الذاتي المبذول في التعلم منذ الصغر. و خير مثال على ذلك هو الطبيب ابن رضوان المصري الذي مات أبوه و هو في الرابعة عشرة من عمره، فاشتغل بعدة صناعات كالطب و التدريس ليعول نفسه، حتى نبغ في الطب و ظل يكبر في نبوغه حتى صار رئيس الأطباء للحاكم صاحب مصر.
السفر لتحصيل العلم و المتابعة العلمية الأقوى ( السفر للتحصيل و التطوير)
لقد تميّز علماء الطب المسلمون بطموحهم العلمي الشديد و سعيهم الدؤوب في سبيل ذلك، و جلّهم لم يكتف أبداً بما هو متاح من العلوم في منطقته، بل وجّهوا عيونهم شطر جميع البلاد المحيطة و تعرّفوا على جهابذة العلماء و مجامعهم العلمية، و سافروا إليهم و تحمّلوا في ذلك العظيم من المشاق .
فهذا أبو بكر الرازي و الذي ولد في مدينة الرّي جنوب شرق طهران و درس فيها العلوم الشرعية و الطبية و الفلسفية، لكن ما درسه لم يشبع نهمه لطلب العلم – بالمستوى الذي يريد- فلم تكن مدينة الرّي – على اتساعها و كثرة علمائها- بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت، لذلك يمّم الرازي وجهه شطر عاصمة العلم آنذاك بغداد، و رحل إليها في شبه بعثة علمية مكثفة تعلّم فيها علوماً كثيرة، و لكنه ركّز اهتمامه في الأساس على الطب. و رحلات ابن البيطار المشهورة عبر بلاد كثيرة لدراسة النباتات و للقاء العلماء المختصين في هذا المجال و تبادل المعلومات والخبرات.
عدم التردد في قبول المراكز و المناصب التعليمية العلمية و السياسية التي تعرض عليهم من قبل المسؤولين (توسيع دوائر النفوذ و التأثير و تعميم الفائدة ) لقد نالت العلوم و المعارف الثقافية الانسانية المختلفة الاهتمام الأكبر من الخلفاء و الأمراء و الحكام المسلمين، و كانت رعايتها و العمل على تطويرها بتأمين جميع الوسائل و المستلزمات اللازمة لذلك من المسؤوليات المباشرة التي أوكلوها لأنفسهم. و من أهم هذه المستلزمات هي رعاية المتميزين ممن ذاع صيته من العلماء الأجلّاء و خاصة الأطباء منهم و خاصة الذين ثابروا و أضافوا بدايةً بجهودهم الذاتية و الشخصية، فكان الخلفاء أو الأمراء يستقدمونهم إليهم و يضعون في متناول أيديهم كل المؤلفات و الكتب و يتعهدون بالإنفاق عليهم و تأمين كل ما يطلبوه في سبيل الترجمة أو التأليف أو التعليم أو العمل الطبي نفسه. ثم يقلّدونهم بعد ثبات نبوغيتهم المناصب الرفيعة ليكونوا مع أتباعهم يداً قوية تدفع بحركة التطوير الحضاري إلى الأمام. و كان الأطباء المسلمون لا يترددون في قبول هذه المناصب مهما كانت لعلمهم الأكيد بقدرتهم على استثمارها خير استثمار في سبيل مصلحة العلم و في سبيل مصلحة العباد و البلاد.
ولعل خير و أفضل مثال على أن المناصب في الدولة الإسلامية لا تؤخذ إلا بالكفاءة وحدها، و أنها معروضة لكل من نبغ فاستحقها، هو ارتفاع منزلة الطبيب النابغة يوحنا بن ماسويه ليصير الطبيب الخاص لخلفاء بني العباس في عهد قوتهم و أوج سلطانهم، و هو الطبيب النصراني السرياني، و الذي تتلمذت على يده أعداد كبيرة من أطباء عصره، و خرجت من تحت يده أيضاً الكثير من المؤلفات القيمة بسبب خبرته العظيمة في الترجمة.
وكلنا أيضاً نعرف عائلة بختيشوع الطبية و مكانتها الخاصة جداً عند خلفاء بني العباس و ما كان منهم من الوزراء و الأطباء البارزون المحنّكون. و الذين كانوا يتوارثون العلم كما المناصب.
أي أن السلطات في الحضارة الإسلامية و ما يتبعها من إمكاناتها الضخمة كانت تسخّر كلها في مصلحة تطوير العلم.
- التمكن من اللغة العربية (لغة العلم و حضارة ذلك الزمان) و تعلم اللغات الأخرى من أجل الترجمة.
- اعتماد المنهج التجريبي المقاس في التوصل و اعتماد الحقائق العلمية و لو كانت مخالفة للمألوف المعتقد و المتبع و اتسام أسلوبهم العلمي بالنزعة النقدية و الالتزام بالموضوعية و النزاهة العلمية. و خير دليل على ذلك كلمة الرازي المشهورة التي تعتبر الآن قانوناً من قوانين العلم بصفة عامة و الطب بصفة خاصة ((عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة و النظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى و إن أخذ الجميع بالنظرية تأييداً لمشاهير العلماء))
- توريث علمهم و غزارة التأليف كمّاًّ و نوعاً و وضع بصمتهم الخاصة في مؤلفاتهم في عرض علومهم و اكتشافاتهم و نقل خبراتهم لمن حولهم و لمن بعدهم. و اتصاف المؤلفات بسمات أهمها : إما موسوعات شاملة أو كتب متخصّصة. و امتازوا بالتصنيف و الترتيب و عرضها بشكل منهجي و علمي دقيق، و تكامل المؤلفات مع بعضها، و التنوع الاختصاصي سواء في أقسام نفس المؤلف أو الكتاب أو مؤلفات اختصاصية، مؤلفات خاصة في الجراحة، مؤلفات خاصة عن أمراض محدّدة مثل الصداع، في طب الأسنان، في طب الولدان، في النبات و الصيدلة، في الداخلية، في النسائية، طب الفقراء، طب الصحة و الأغذية.
و تميّز معظمها بالتوضيحات الفنية عن طريق الرسوم لتوضيح تشريح الجسم و الأعضاء أو لتوضيح سير العمليات الجراحية و أدواتها اللازمة. و تشكل مخطوطة حنين بن اسحاق (العشر مقالات في العين) أقدم رسم تشريحي في تاريخ الطب. و رائعة هي صورة المناشير العربية الجراحية الموجودة في نسخة من كتاب ابي القاسم الزهراوي الموجودة في المكتبة الوطنية بباريس 205. و الصور التي توضح أدواته في الجراحة و البالغ عددها أكثر من 200 أداة في كتابه ( التصريف لمن عجز عن التأليف).
- التوثيق الشخصي للخبرات الطبية العملية و المعارف المكتسبة و كتابة المفكرات و الخبرات الحياتية الشخصية.
- الفعالية و الذكاء في رحلتهم العلمية حيث يكون البدء دائماً بقراءة ذكية لخريطة الواقع و ما سبقه في مجال العلوم الطبية و المعارف الانسانية الأخرى ثم ترك غير المعني و غير اللازم، و تصحيح الخاطئ بمنهج علمي دقيق، و البدء من حيث الصحيح الذي وصل اليه الآخرون، ثم الإضافة و التطوير و الابتكار والإبداع الخاص.
- التعلم الفعال الموجّه بتكثيف التعليم بالمحاكاة و الدمج المباشر للخبرات العلمية النظرية الأساسية المطلوبة مع الخبرات العملية و بإشراف العلماء الأطباء و الرعاية المالية و (اللوجستية إن صح التعبير بلغة اليوم) من الحكام و الولاة و القائمين على شؤون الدولة و العامة.
- العمل على تأمين مستوى عال من المستشفيات كماً و نوعاً بخدماتها الصحية و التعليمية الكافية و الراقية و المتطورة باستمرار، و العمل على إيصال الخدمات الصحية لكافة المناطق على اتساع رقعتها الجغرافية
- توسيع آفاق و أهداف التعليم الطبي لتشمل العلم الطبي نفسه كحقائق علمية صحيحة، و كمهارات مناسبة لخلق الطبيب المتمكّن في عمله، و كأخلاقيات مناسبة لخلق الطبيب الصالح الناجح في دنياه وآخرته، و خلق البيئة المناسبة للابتكار و الاختراع ليكون قوياً يولد من رحم البحث العلمي و الأخلاق. و جعل التعليم عموماً طريقاً أساسياً لتطوير و تنمية المجتمع و الأمة ككل و في كافة المجالات الحياتية المعرفية و العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية.
- جعل التطوير العلمي و الإبداعي عموماً و الطبي خصوصاً أساسا لحركة التطوير العلمية و الإبداعية الشاملة في المجتمع المسلم آنذاك. فكان هو السبب في التطوير في مجال ابتكار و صناعة الأدوات (التطوير التقني) و (التطوير الزراعي) في مجال الزراعة الطبية، و تطوير (الصناعة الكيميائية) و صناعة الأدوية من مصادرها المختلفة العشبية النباتية و الكيميائية. و الإبداع في مجال (التطوير البيئي و العمراني). و لنا أن نتخيل مقدرة هذه الاستراتيجية الذكية على إيجاد مستمر لمزيد من أسواق العمل و زيادة مقدرتها التشغيلية للطاقات البشرية الهائلة، و العمل على رفع المقدرة الإنتاجية المجتمعية المحلية و تحقيق الاكتفاء الذاتي.
ونؤكد أخيرا أنّ ذلك التطور العلمي و الإبداعي في المجال الطبي و المجالات الأخرى التي كانت نتيجة و رديفاً له ثم دافعاً له نحو الأمام، لم يكن ليحدث أصلاً لولا تطوّر المستوى المعرفي الحضاري الإنساني ككل، و الاستثمار الذكي و الحكيم من قِبل الخلفاء و الحكماء في مجال المعرفة الانسانية. حيث تكون المواهب و الابداعات الانسانية خير مطوّر للأمم، لأنها هي من تخلق أدوات و سبل التطوير الأخرى بكامل جوانبه و هي من تعمل على إشباع احتياجاته و تأمين مستلزماته، لإطلاق أروع الملكات و الابداعات واستثمارها خير استثمار.
وهذا هو السر وراء هذه الحضارة المعجزة التي لا يمكن تمييزها أو النظر إليها بمعزل عن روّادها الذين كانوا منها و فيها، فكانوا لها. كانوا صنعتها، فزادوها. فكان حقاً تاريخياً لهم، ملازمة أسمائهم لاسمها.