كتاب علمي أدبي رائع يكاد يكون الأول من نوعه في تحليل قصة أدبية اجتماعية في تراثنا العربي الجميل تحليلاً علمياً وطبياً. قصة من أجمل وأرق وأشهر قصص الحب العذري العفيف.. إنها قصة قيس بن الملوّح والذي اشتهر بمجنون ليلى.
في هذا الكتاب يُدخل استشاري وجراح القلب، الذي تقلّد عدة مناصب طبية وإدارية في وزارة الصحة ومؤسسة حمد الطبية في قطر والتي من أهمها: استشاري أمراض القلب ورئيس قسم القلب، المدير العام ورئيس مجلس إدارة المؤسسة ووزير الصحة، الدكتور حجر أحمد البنعلي، يُدخل الشاب العربي جميل المحيا، عفيف القلب واللسان الذي عاش في منتصف القرن الأول الهجري، قيس بن الملوح بن مزاحم العامري إلى غرفة التشخيص ويحقق بنظرة الطبيب في الأعراض التي عاناها ويشخّص حالته المرضية، وسبب وفاته بعد أربعة عشر قرناً من الزمان.
يقرر أن السبب المباشر للوفاة هو جلطة قلبية. أما الأسباب الثانوية فهي: تصلب الشريان التاجي للقلب، انكماش في الشريان التاجي، اضطرابات في دقات القلب، وفقر في الدم. مرض أو أمراض القلب هذه سببها حرمانه من محبوبته ليلى والذي سبب له الكآبة، القلق، الاضطرابات السلوكية والعزلة الاجتماعية والضغط النفسي المزمن. وهذه جديرة بأن تُمرض الجسد والقلب وتؤدي إلى وفاة مبكرة لم يبلغ عندها الثلاثين من عمره. وطبيبنا هنا لا يستخدم أجهزة الكشف في مؤسسة حمد الطبية ولكنه يستخدم أدواته ومهاراته الأدبية والشعرية في تحليل أشعار قيس في وصف حالته وما يعانيه. فطبيبنا شاعر وأديب لا يشق له غبار أيضاً.
في هذا الكتاب الشيّق، يستعرض الدكتور حجر البنعلي قصة قيس وليلى كما ذكرتها كتب التراث، ويصف الحب العذري الذي اشتهر به عدد من الشعراء العرب وخاصة في بداية العصر الإسلامي. ويبين أن هذه المشاعر الإنسانية الراقية عُرفت في منطقتنا العربية منذ فجر التاريخ، فقد وجدت أشعار حب لدى السومريين الذين اخترعوا الكتابة قبل أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. واللغة العربية غنية بالألفاظ والأوصاف لمراتب المحبة، ولا تجاريها فيها لغة أخرى ولا يجاري أهلها أحد في سمو المشاعر وعمق الإحساس بصفة عامة.
ويستعرض الدكتور أعراض عشق قيس بن الملوح، وما عاناه مثل الضيق والحزن والكآبة، وشدة الشوق والهيام والصبابة، والأرق والسهر، والهزال والنحول والوسواس والذهول والنسيان، شدة الحب وكثرة البكاء والرغبة في الموت والانتحار، خفقان القلب واضطرابه، اليأس والهم والغم والذل والغشيان والشعور بالذنب، ولكنه يؤكد أنه لم يكن مجنوناً أو مختل عقلياً. وبعيداً عن الانفصام البغيض بين النفس والروح والجسد والمشاعر والأمراض العضوية، يؤكد الدكتور حجر ويستعرض دراسات علمية حديثة تفسر مشاعر المحبة وما يعانيه أهلها بتفسيرات علمية وطبية مؤكدة مرتبطة بالمخ وافرازات الغدد الصماء. يصف الدكتور أمراض "المجنون" النفسية والعضوية وبالدرجة الأولى ما عاناه قلبه، ويقرر طبيب وجراح القلب، أن قيساً وصف ما عاناه قُبيل موته وصفاً دقيقاً لم يسبقه إليه أحد، في بيتين شعريين وجدا في ثيابه عندما وجدوه ميتاً، يقول فيهما:
كأنّ فؤادي في مخاليب طائرٍ ** إذا ذُكرت ليلى يشدُّ به قبضا
كأنَّ فِجاج الأرض حلقةُ خاتمٍ ** عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا
يقول الدكتور حجر: " وصف قيس إحساسه بالألم وكأن قلبه في قبضة مخاليب طائر، وقد يكون ذلك الطائر صقراً أو عقاباً. وتزداد قبضة تلك المخاليب التي تحيط بقلبه المأسور شداً كلما ذُكرت ليلى. وقد يحس كأن أطراف المخاليب الحادة تجرح قلبه فتؤلمه وتدميه. و قد عبّر عن نفس الإحساس بالضغط على صدره أثناء النوبة، وكأن حلقة خاتم تحيط بصدره. فحلقة الخاتم الضيقة على صدره تؤلمه، لأنه يحس وكأنها تنكمش على صدره، ولا تسمح لصدره بأن يتسع لشهيق التنفس، لأنها لا تزداد طولاً ولا عرضاً. وذلك يدل على أنه كان يحس باختناق وضيق في التنفس. فوصف الإحساس بعدم القدرة على التنفس مع الشعور بالضغط المؤلم على الصدر، هو الوصف المعتمد حالياً في المراجع الطبية للذبحة الصدرية أو الجلطة القلبية أو أعراض تصلب شرايين القلب". ويضيف:" فالبيتان المذكوران أعلاه يجعلاني أجزم أن قيساً أصيب بجلطة قلبية، نتيجة لانسداد شريان القلب التاجي مباشرة قبل الوفاة بدقائق، جعلته يعبر عما يحس به، وما يعانيه من آلام في هذين البيتين. والجلطة القلبية تسبب تلفاً في عضلة القلب. والغريب أن قيساً الذي لم يعرف حقيقة مرضه العضوي، توقع الوفاة بجرح في القلب قائلاً:
تَوَسَّد أحجارَ المَهامِهِ و القَفرِ ** و ماتَ جَريحَ القلبِ مُندَمِلَ الصَّدرِ
ولم يسبق قيساً شاعر (ولا طبيب) في وصف آلام الذبحة الصدرية أو آلام الجلطة القلبية، ذلك الوصف والتشبيه الواضحين الصادقين البليغين. لذلك فإنه من المستحيل أن يصدر مثل ذلك الوصف الدقيق إلا عن شخص شعر بتلك الأعراض وقاسى آلامها.
وفي ثنايا هذه الدراسة والتقرير الطبي الفريد يقابلنا الكثير من جمال اللغة العربية الفذّة والأدب والشعر الراقي فيها. والذي لا يتذوقه ولا يشعر به إلا من كانت العربية لغته، فكما يقول الدكتور حجر:"مع أن المستشرقين اعتنوا بآداب العرب وصنفوا كتباً فيها، فإنهم لم يتمكنوا من الغوص في أشعار العرب مثلما قام به العرب أنفسهم، فالأشعار ليست ألفاظاً يترجمها المعجم فحسب، ولكنها أحاسيسٌ ومشاعر إنسانية لا يمكن أن يدركها إلا من كانت العربية لغته التي رضعها في مهده وتغنى بها في أنسه ووحشته".
وأنا أقول، كم هو حجم الجريمة التي يتعرض لها النشء في هذه الأيام عندما يُحرمون من اللغة العربية ويرضعون قسراً من لغات شتّى حتى في الحضانة والمهد؟!
لم يسع الطبيب الشاعر إلا أن يرثي مريضه المتوفى بأبيات شعرية رقيقة يقول فيها:
يا قيس عشت وما أتيت حراما ** قد كنت للحب الطهور إماما
يا عاشقاً فاق الأنام بحبه ** والموت عجّل ما أصاب مراما
إلى أن يقول:
فالله يرحمكم ويرحم مثلكم ** صبّاً عفيفاً صادقاً هيّاما
- الدكتور حجر أحمد البنعلي: يرأس حالياً جمعية القلب الخليجية، وله عدد من المؤلفات الأدبية والدواوين الشعرية.