أصبحت الخلايا المناعية التي تسمى التائية المعدلة وراثيًا لتهاجم اللوكيميا أول "علاج جيني حي" معتمد في الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة تصميم الجهاز المناعي للمريض بحيث يهاجم خلايا السرطان، بعد أن تمت الموافقة على علاج جيني يسمى العلاج المناعي "كار-تى" للاستخدام في نوع نادر من سرطان الدم. يصمم هذا النوع من "الدواء الحي" خصيصاً لكل مريض، على عكس العلاجات التقليدية المتاحة حالياً، مثل الجراحة أو العلاج الكيميائي والإشعاعي. ويتم تعديل الخلايا التائية وراثيًا بعد الحصول عليها من المريض للبحث عن أنواع معينة من السرطان واستهدافها وتدميرها بعد حقنها في دماء المريض مرة أخرى.
واعتبر الكثيرون أن قرار إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بالموافقة على أول علاج جيني للسرطان يوم الأربعاء الماضي (30 أغسطس 2017م) قرار تاريخيّ لأنه سيفتح باب الأمل أمام آلاف المرضى الميؤوس من حالاتهم وخصوصًا مرضي سرطان الدم الحاد، تحت سن 25 سنة، الذين لم تستجب حالاتهم المرضية للأدوية التقليدية. ويفتح هذا القرار الباب على مصراعيه لتطبيق تقنيات العلاجات الشخصية المصممة خصيصاً لمريض بعينه. كما أنه علاج ثوري بجميع المقاييس، لأنه يشفى المريض بعد علاجه بجرعة واحدة فقط، ونجح نجاحاً باهراً في علاج 83 % من المرضى الذين كانوا على وشك فقدان حياتهم بسبب مقاومة سرطاناتهم للأدوية التقليدية الكيماوية والإشعاعية.
وقالت الإدارة إن قرارها كان لحظة "تاريخية" وإن الأدوية تدخل الآن "حدودًا جديدة". ولكن ما يقلل التفاؤل بهذا العلاج الجديد، ويجعله حلماً بعيد المنال للكثيرين من المرضى، هو ارتفاع سعره، فالدواء حالياً يُعرض بتكلفة تتجاوز 475 ألف دولار تقريباً للمريض الواحد، لكن من المتوقع أن ينخفض السعر في المستقبل القريب، نتيجة لتنافس الشركات العالمية في هذا المجال. وجاء في بيان صحفي، لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، أن القرار الجديد هو إجراء تاريخي يجعل العلاج الجيني متاحاً في الولايات المتحدة الأمريكية ما يُشرع نهجاً جديداً لعلاج السرطان وغيره من الأمراض الخطيرة والمهددة للحياة.
ويرى "سكوت جوتليب" مفوض إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أن التكنولوجيات الجديدة التي تشمل العلاجات المناعية والخلوية قادرة على تحويل دفة أدوية السرطان، وخلق نقطة انعطاف كبيرة في قدرة الأطباء على علاج العديد من الأمراض المستعصية. مؤكدًا على أن إدارة الغذاء والدواء ملتزمة بالمساعدة في الإسراع من تطوير ومعالجة العلاجات الرائدة التي لديها القدرة على إنقاذ الحياة. وقال جوتليب: "نحن ندخل حدوداً جديدة في مجال الابتكار الطبي مع القدرة على إعادة برمجة خلايا المريض الخاصة لمهاجمة السرطان المميت".
علاج ثوري مثير للغاية
تمكن الباحثون فى شركة "كايت فارما" (Kite Pharma) من الوصول إلى فكرة واعدة تتمكن من التخلص من خلايا السرطان دون التأثير على خلايا المريض السليمة، وجاءت الفكرة من خلال استخدام الخلايا المناعية التي تسمى الخلايا التائية، وهي خلايا قادرة على مهاجمة الاجسام الغريبة والقضاء عليها. ملخص الفكرة هو استخلاص خلايا الدم البيضاء من المريض وفصل الخلايا التائية منها ثم إعادة برمجتها وهندستها وراثياً لتتمكن من تمييز واستهداف الخلايا السرطانية الموجودة في الجسم، ثم إعادتها مرة أخرى للمريض فتتمكن من القضاء على الخلايا السرطانية بشكل نهائي.
وتوصلت الشركة لعلاج تجريبي يعيد تكوين خلايا الدم البيضاء لتتمكن من محاربة السرطان ويعرف باسم "كار-تى" (Car-T)، وسيتم تسويقه تحت مسمى "كيمريا" (Kymriah)، ويعمل ضد سرطان الدم الليمفاوي الحاد. ويعمل العلاج الجديد عن طريق إعادة برمجة خلايا الدم البيضاء للمرضى وتوجيهها إلى الأورام السرطانية العدوانية، والتي فشلت معها طُرق العلاج التقليدية. ويتضمن العلاج، استئصال خلايا من المريض، وشحنها فوراً إلى المختبر، وإعادة هندستها أو إعادة برمجتها وراثياً قبل حقنها مرة أخرى في دماء المريض لمهاجمة الخلايا السرطانية والقضاء عليها. ويصنع الدواء خصيصاً لكل مريض على حدة، وسيتعين على المريض السفر إلى واحد من 32 موقعاً مُخصصاً للشركة، للحصول على جرعة الدواء الخاصة به في غضون 22 يوماً.
نتائج مبهرة
تمكن ذلك العلاج الثوري الجديد "كار-تى" من القضاء على الخلايا السرطانية بشكل نهائي في 90% من المرضى الذين خضعوا للتجارب الاكلينيكية، وأظهرت النتائج أنه يمكن استخدامه في حالات المرض المتأخرة في المرضى الذين لم يستجيبوا لأي علاج آخر، كما يمكن استخدامه في الحالات المرضية التي يفصلها عن الموت دقائق معدودة، لان تأثيره سريع ونتائجه مبهرة ومبشرة للغاية. وأظهر العلاج سلامته في التجارب الإكلينيكية المتعددة، إذ بلغت نسبة نجاحه 83 % مع الحالات التي استعصت على طرق العلاج التقليدية، وقالت الشركة المنتجة للدواء أنه تم شفاء 83٪ من أصل 63 مريضًا من مرضى سرطان الدم الحاد تم علاجهم بدواء "كار-تى" في غضون ثلاثة أشهر. كما نجح العلاج في شفاء مريض كان على وشك الموت، وأصبح الآن خاليا من السرطان لأكثر من خمس سنوات. وسيخصص العلاج في الوقت الحالي لعلاج مرضي سرطان الدم الحاد الذين لا تزيد أعمارهم عن 25 عاماً. وبحسب بيان للشركة المُصنعة للعلاج، تعمل الشركة حالياً على تطوير العقار لاستخدامه في علاج سرطان الغدد الليمفاوية، وعلاج الأورام الصلبة كأورام الجلد وأورام الرئة.
وبدت الموافقة على العلاج أمراً مفروغًا منه في البداية، غير أن سعره المحتمل كان موضوعاً للنقاش، لأن تكلفة العلاج لن تسمح للفقراء بالحصول عليه. وكانت لجنة فحص الدواء بإدارة الغذاء والدواء الأمريكية قد أوصت باتخاذ الإجراءات اللازمة لطرح الدواء، بعد أن تم اختباره على كافة المستويات، إكلينيكيا ومعملياً في يوليو الماضي. وتعد موافقة الإدارة بمثابة التصريح بطرح الدواء في الأسواق بشكل قانوني.
حكاية دواء ثوري
بدأت حكاية هذا الدواء الثوري في شركه أدوية وبحوث إسرائيلية صغيرة تطور علاجات معتمدة على الهندسة الوراثية، واسمها "كايت فارما"، وأسسها باحثين في مجال علاج السرطان هم "جوشوا كازام" و "آرى بلدجرن"، وعمر هذه الشركة 8 سنوات فقط. وأعلنت الشركة عن علاج جديد لسرطان الدم والغدد الليمفاوية، تقوم فكرة العلاج الجديد على استخلاص الخلايا المناعية من جسم المريض وإعادة هندسة الجينات الخاصة بها بحيث تهاجم الورم فقط ومن ثم إعادتها مره أخرى للجسم لتقوم بالمهمة والقضاء على السرطان. وبدأت تجربه العلاج على عيّنة من المرضى، وكانت المفاجأة أنه حقق نتائج مبهرة مع حالات سرطان الدم غير المستجيبة للعلاج، وشفى أكثر من ثلث المرضى شفاءً تاماً بعد ستة أشهر فقط من العلاج. وكان لهذه النتائج فعل السحر فيما يتعلق بسهم الشركة في بورصة ناسداك؛ حيث زاد سهم الشركة بنسبه 300% في عام 2017م.
وعلى الرغم من أن شركة "كايت فارما" كانت، ومازالت شركة صغيرة وحديثه العهد بمجال الأدوية لكنها استطاعت التوصل لأنجع علاج حديث للسرطان اعتماداً على البحث والتطوير، وأصبحت قيمتها السوقية قرابة 12 مليار دولار مما جعل العديد من الشركات الكبرى تتنافس على شراء هذه الشركة الصغيرة. ومع ظهور عقار "كار-تى" وما أحدثه من نتائج مبهرة تهافتت الشركات الدولية لتوفير الاستثمار الذي يدعمه، وبدأوا يخططون لطرحه في الأسواق العالمية، ومن بين هذه الشركات كانت الشركة السويسرية العملاقة "نوفارتس" (Novartis) والتي دعمت البحث منذ عام 2012م، ثم انضمت اليها شركة "كايت فارما" في سانتا مونيكا بكاليفورنيا في عام 2014م؛ حيث تمكنت من تخصيص 128 مليون دولار دعماً للبحث ثم انضمت الشركة المنافسة لها شركة "جونو ثيرابيوتكس" بواشنطن وتمكنت من تخصيص 264 مليون دولار لهذا البحث الواعد.
ومؤخراً، نجحت شركة "جلياد" الأمريكية للأدوية في التوصل إلى اتفاق للاستحواذ على "كايت فارما" للأدوية مقابل 11.9 مليار دولار، لتسيطر بذلك على أحدث علاجات "كايت" للسرطان، وبموجب الصفقة، ستدفع شركة التكنولوجيا الحيوية "جلياد" 180 دولاراً نقداً مقابل كل سهم من أسهم "كايت"، وتنهي رحلة البحث الطويلة التي خاضتها "كايت" للحصول على صفقة مناسبة. وتعد الصفقة هي الأكبر لجلياد منذ استحواذها عام 2011 على شركة "فارماسيت" مقابل 11 مليار دولار، وستدفع الشركة 50% من أعلى قيمة سجلها سهم شركة "كايت" في الثلاثين يوماً الأخيرة، وبحسب فاينانشيال تايمز فإن الرقم يعد كبيراً جداً بالمقارنة بوضع الشركة التي لا تمتلك أي أدوية في السوق حتى الآن.
"مفتاح الانتحار"
أعلنت شركة "كايت" نتيجة التجارب الاكلينيكية النهائية في سبتمبر 2016م، والتي كانت مبشرة للغاية، وقال الباحثون إن عقار "كار-تى" تمكن من تحويل الحالات الميؤوس منها إلى حالات مرضية عادية يمكنها العيش لوقت طويل. إلا أن الشركة واجهت مشكلة سمية الدواء والتي تسببت في آثار جانبية قوية أدت لوفاة 18% من المرضى نتيجة التسبب في تحرر متلازمة السيتوكين والتي تسببت في إيقاف أعضاء الجسم عن العمل، ومن ثم تسببت في وفاة بعض المرضى. وتشمل آثار العلاج الجانبية احتمالية حدوث عدوى خطيرة، وانخفاض ضغط الدم، والإصابة بالفشل الكلوي الحاد، والحمى، وانخفاض نسبة الأكسجين في الدم، وحدوث التهابات مناعية قد تؤدى للوفاة.
ويعمل الباحثون الآن على مسارات مختلفة للتخلص من سمية عقار "كار-تى" وذلك عن طريق تحسين عملية اختيار الخلايا التائية، والبحث في كيفية اختيار أفضلها من بين أنواع متعددة. حيث كانوا في البداية يعزلون الخلايا التائية المختلفة الأنواع والوظائف وخلطها معاً. ولكن الآن يفكر العلماء في عزل أنواع معينة من الخلايا التائية وخلطها معاً بنسب محددة، وتجربتها من جديد. ومن ضمن الحلول الأخرى هو خلق ما يسمى "مفتاح الانتحار" حيث أضافوا ذلك المفتاح الى الخلايا في صورة غير نشطة وعندما تحدث الآثار الجانبية التي تخرج عن السيطرة يقوم الأطباء بإعطاء عقار ينشط ذلك المفتاح فتقوم الخلايا التائية بتدمير نفسها على الفور. وعلى الرغم من تلك المخاوف التي ظلت محل نقد العديد من العلماء، أثبتت الشركة خلال تجاربها الإكلينيكية أن تلك الأعراض يُمكن الحد منها باستخدام الأدوية المثبطة للمناعة، ومازالت الأبحاث مستمرة في هذا الاتجاه، وقاربت التجارب الإكلينيكية على الانتهاء.
تعزيز الجهاز المناعي هو بالفعل حجر الزاوية في علاج السرطانات الحديثة، وهناك مجموعة من الأدوية التي تعيد برمجة الجهاز المناعي للسماح له بمهاجمة السرطان بحرية أكبر، وقد اعتمدت بالفعل في جميع أنحاء العالم. مما لا شك فيه أن هذا الدواء يؤرخ لبزوغ عهد جديد من العلاجات الشخصية، ويحقق ما طال انتظاره للقضاء على مرض شرس قاتل يهدد البشر في جميع أنحاء العالم، وينتظر العديد من المرضى الميؤوس من شفائهم قرار الشركة بموعد طرح ذلك الدواء على أحر من الجمر على الرغم من التكلفة الباهظة التي يستلزمها هذا العلاج.
البريد الإلكتروني للكاتب : tkapiel@sci.cu.edu.eg