أتاح لي العمل في الترجمة العلمية المتخصصة في مجلة "نيتشر" الطبعة العربية الاطلاع أسبوعياً على أحدث البحوث و الاكتشافات العلمية بشكل دوري، حتى قبل نشرها في الطبعة الدولية من هذه المجلة العلمية العريقة. و لا أستطيع وصف فرحي و فخري و اعتزازي بأي نجاح أو إنجاز علمي عربي يضاف للنهر الجارف المتجدد أسبوعياً من الاكتشافات العلمية الحديثة المنشورة في هذه المطبوعة الرصينة و جميع المجلات العلمية المتفرعة منها.
وبعد أكثر من عام من المتابعة الأسبوعية للبحوث العلمية الحديثة، تأكدت بما لا يدعوا مجالاً للشك أنه لا يكاد يمر عدد من أعداد "نيتشر" دون التطرق لدراسة أو بحث يستخدم تقنيات "عِلْم التصوير البِلَّورِي" الحديثة، و التي عن طريقها يمكن التقاط صورة واضحة ثلاثية الأبعاد للبروتين محل الدراسة، باستخدام الأشعة السينية.
وتعتمد تقنية التصوير البلوري بالأشعة السينية (X-ray Crystallography) و هي تقنية اكتشفت عام 1938، على تصوير البلورات من زوايا عدة، بواسطة الأشعة السينية، لجعل هذه البلورات تسقط طيفاً من الأشعة على صفيحة فوتوغرافية كاشفة بذلك بنيتها الهندسية و ترتيباتها الداخلية.
ومؤخراً، اطلعت على بحث علمي فريد لأحد الأصدقاء و الزملاء بكلية العلوم، جامعة القاهرة، و يعدّ خطوة رائدة في هذا المجال الصعب. و يمثل هذا البحث انجازاً علمياً كبيراً ونجاحاً في مهمة شاقة ظنّ الكثيرون أنها أقرب إلى المستحيل، و ذلك لتصوير أحد نواقل السكّريّات الموجودة على أسطح الخلايا البكتيرية، و هو عبارة عن جزئ بروتيني يشبه الفم البدائي الذي تستخدمه البكتيريا لالتقاط الغذاء.
ووفقاً للدكتور محمد صبري يوسف (أستاذ الفيزياء الحيوية بجامعتي القاهرة و جنوب إلينوي) تعثّر هذا البحث لمدة عشر سنوات بسبب عقبات تقنية كبيرة و كثيرة تتعلق بتفكك الثبات التركيبي لذلك الناقل بمجرد استخلاصه من سطح البكتيريا.
ولقد تم اختيار الدكتور محمد صبري يوسف للانضمام للفريق البحثي منذ أربع سنوات ليساهم بخبرته في مجال التصوير البلّوري للبروتينات في حل أشدّ الخطوات صعوبة و تعقيداً في هذا المشروع المتعثر و التي تتمثل في استخلاص الناقل من سطح الخلايا البكتيرية مع الحفاظ على تماسكه ثم تنقيته وعمل بلّورات يمكن تصويرها باستخدام الأشعة السينية. و بعد تعريض البلورات للأشعة السينية تمّ تجميع "الظلال" ثلاثية الأبعاد و ترتيبها لتحديد الشكل النهائي الدقيق للبروتين.
تنقل د. محمد صبري يوسف بين معامل جامعات تكساس التقنية و ستانفورد و بيركلي لإتمام ذلك العمل الذي نشر مؤخراً في إحدى مجلات "نيتشر" المرموقة. ومن الجدير بالذكر أن حجم ذلك الناقل "المراوغ" لا يزيد عن عدة نانومترات و أن صور الأشعة السينية تبين التفاصيل الذرية بالغة الدقة لتركيب ذلك الجزيء.
ومن المتوقع أن يفتح ذلك الكشف العلمي باباً واسعاً لتطبيقات حديثة في مجال التقنية الحيوية النانوية، و تصنيع العقاقير خاصة أن هناك شبيه لهذا الناقل في جسم الانسان يرتبط بمرض السكري.
وبالإضافة إلى هذا الإنجاز العلمي يعمل د. محمد صبري يوسف حالياً في عدة مشاريع أخرى تتعلق بالالتهاب الكبدي الوبائي و أبحاث الخلايا الجذعية، كما يعمل منذ فترة على تدريب الباحثين المصريين و نقل تلك التكنولوجيات المتقدمة إلى مصر.
السنة الدولية لعلم البلورات
يأتي هذا البحث في باكورة العام الجديد 2014م، حيث يحتفل العالم هذا العام بالذكرى المئوية لانطلاق دراسة البلورات بالأشعة السينية، حيث أصبح هذا العلم في جوهر العلوم البنيوية، و لقد ساهم في كشف بنية الحمض النووي، كما يُتيح لنا فهم ذاكرة الحواسيب و تطوير تصنيعها، و يظهر لنا كيفية تخلق البروتينات في الخلايا، و يساعد العلماء على تصميم مواد و أدوية فعّالة جديدة.
ونظراً لأن علم البلورات أصبح يُشكّل أساساً للكثير من العلوم في أيامنا هذه، فقد كان ذلك واحد من الأسباب الرئيسية التي دفعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إعلان سنة 2014 سنة دولية لعلم البلورات، و إلى الطلب من اليونسكو أن تتولى بالتعاون مع الاتحاد الدولي لعلم البلورات، قيادة أنشطة بناء القدرات و الأنشطة التربوية و التخطيط لها و تنفيذها خلال هذه السنة الدولية.
وأعلنت اليونسكو عن حفل تدشين و انطلاق السنة الدولية لعلم البلورات وذلك يومي 20 و21 يناير 2014 القادمين في مقر اليونسكو في باريس. وقد حددت المنظمة عدد من الأهداف الخاصة بهذا الاحتفال يأتي في مقدمتها زيادة وعي الجمهور العام في ما يتصل بعلم البلّورات و بكيفية دعمه لأغلبية التطورات التكنولوجية في مجتمعنا المعاصر، و تشجيع التعاون الدولي بين العلماء في جميع أنحاء العالم، و بخاصة الإسهامات بين بلدان الشمال و الجنوب و تعزيز التعليم و البحث في مجال علم البلورات و ربطه بالعلوم الأخرى، و كذا إشراك مرافق الإشعاع السنكروتروني و الإشعاع النيوتروني الكبرى في احتفالات السنة الدولية لعلم البلورات 2014، بما في ذلك مشروع إنشاء مركز دولي لاستخدام أشعة السنكروترون في مجال العلوم التجريبية و تطبيقاتها في الشرق الأوسط (سيزامي) تحت رعاية اليونسكو، والذى تشارك به الأردن ومصر وبعض الدول العربية الأخرى.
ومن ناحية أخرى يأتي الاحتفال هذا العام بالسنة الدولية لعلم البلورات تزامناً مع إحياء ذكرى الحائزين على جوائز دولية في مجال علم البلورات، هذا العلم الأصيل الذى حصد علمائه 20 جائزة من جوائز نوبل، و يصادف هذا العام الذكرى الـ 50 لجائزة نوبل مُنِحَت لدوروثي هودجكن لأبحاثها في مجال فيتامين ب 12و البنسيلين، كما يوافق هذا العام الذكرى الـ 400 لرصد كيبلر للشكل المتناسق للبلورات الثلجية (في عام 1611)، و كذا الذكرى المئوية لحصول العالم ماكس فون على جائزة نوبل في علم الفيزياء في عام 1914 لاكتشافه حيود الأشعة السينية بواسطة البلورات.
وأتمنى أن تسارع المنظمات، والهيئات والمراكز البحثية العلمية والمؤسسات الأكاديمية العربية بتنظيم دورات و فعاليات لمواكبة هذا الاحتفال العالمي، لنشر هذه التقنيات في عالمنا العربي، كما أتمنى أن يهتم الأستاذ الدكتور محمد صبري يوسف و غيره من العلماء العرب بنقل هذه التقنيات لزملائهم في المؤسسات العلمية البحثية و الأكاديمية العربية.
المرجع