السؤال الذي ينبغي طرحه في البداية هو: هل ثمة مستقبل للعقل العلمي العربي؟
إن طرح السؤال قد يبدو لعدد من القرّاء غير ذا قيمة، لأننا ببساطة أمّة تنقرض على المستوي العلمي في وقتنا الحاضر فكيف يكون لها مستقبل علمي أصلاً ! فلا نجد مساهمات علمية عربية يعتد بها، حتى تلك المساهمات العلمية التي نجدها بين الحين و الآخر لعالم عربي في بلاد أوروبا أو أمريكا، إما تتم على المستوى الفردي، أو يكون هذا العالم العربي أو ذاك ضمن مجموعة علماء آخرين من جنسيات و قوميات مختلفة فينسب الإنجاز إلى فريق العمل ككل.
إن التفكير في مستقبل ما قد يبدو غامضاً و في أحيان كثيرة غير مفهوم، ذلك لأن التفكير في المستقبل يعتمد في الأساس على التنبؤ و هذا الذي يجعل استشراف آفاق عقل عربي علمي مستقبلي من الأمور التي يصعب على القارئ الكريم أن يتصورها.
إن عالمنا العربي يمر بحالة من التناقض، ففي الوقت الذي يتزايد فيه عدد الجامعات و تزايد عدد الخريجين الجامعيين على شتى المستويات وتزايد أعداد حاملي شهادات الماجستير و الدكتوراه، وجلب أحدث الأجهزة و المعدات التكنولوجية المتقدمة من بقاع عديدة من العالم، و ازدياد دور النشر و الكتب المنشورة والمجلات المتخصصة ووسائل الاتصال عبر الفضاء، في الوقت نفسه نلاحظ تراجعاً على المستوى العلمي، أعني على مستوى إنتاج العلم، وتراجعاً على مستوى الممارسات العقلانية في الواقع المعاش، لكن هذا لا يمنع من وجود محاولات جادة من قِبل مفكرين وباحثين غيورين على العقل العربي يسعون جاهدين لوضع تصور مستقبلي له، هذا التصور الذي يدرك أن تقدم هذا العقل لا يكون إلا من خلال إبداع العلم و المعرفة العلمية و فتح آفاق جديدة من البحث العلمي حتى يكون لهذا العقل مكاناً في هذا العالم، هذه المحاولات انطلقت من إعادة فتح ملفات العقل العلمي العربي بدلاً من الاهتمام بالعقل العربي الفلسفي و الفقهي.
إن الباحثين في طبيعة العقل العربي العلمي ([i]) يكتنفهم احساس مزدوج تجاه هذا العقل: احساس بخصوبة قد كانت لهذا العقل من خلال ما حققه من انجازات عبر تاريخ العلم، و احساس آخر وهو أن هذا العقل الآن ينقصه الكثير حتى يدرك أبسط المعايير و المناهج و المعارف العلمية والفلسفية القابعة خلفها، فضلاً عن عجز هذا العقل عن وضع رؤية مستقبلية له. لذا كانت إعادة النظر في التراث العلمي العربي ضرورة فكرية وحضارية ملحّة لانتقال العقل العلمي العربي من الحالة التي عليها واقعنا العلمي اليوم إلى حالة مستقبلية متقدمة نحقق فيها نهضة علمية و تقدماً على المستوى المادي والاجتماعي و الثقافي والاقتصادي والسياسي.
إن إعادة الكشف تلك تعني تعرية الواقع العلمي العربي و إظهار الخلفيات الأيديولوجية القابعة خلف هذا الواقع، تعني النقد، فالعقل الناقد يبتعد عن كل النزعات الخطابية والانفعالية التي من شأنها أن تعوق إبداع و تقدم هذا العقل، و تجعلنا نقبل كل ما يقال لنا دون أن نضعه موضع التساؤل والنقد، ودون محاولة معرفة البناء النظري و الأسس العقلية و المنطقية والدينية لأي علم من العلوم أو لأي نظرية من النظريات.
إن سيادة النزعة الانفعالية و الخطابية يؤدي إلى عرقلة إعادة الاكتشاف ذاتها، فلا يجد العقل سوى الانفعال و العاطفة للتعبير عن أفكاره. إن إعادة الاكتشاف تتحدى بقوة تلك التوجهات الأيديولوجية التي تحاول أن تتجاهل الدور الذي قام به التراث العلمي في تاريخ العلم، و من ناحية أخرى تتصدى عملية الإعادة تلك للخطابات الانفعالية و الإنشائية التي تتناول هذا التراث. فمن الخطأ مثلاً أن ننظر إلى التراث العلمي العربي بوصفه تراثاً لاعقلانياً أو متخلفاً، و من ثمّ يجب إحداث قطيعة معه([ii])
إن تشكيل العقلية العربية لابد أن يقوم على أسس علمية و ذلك بإعادة النظر في تراثنا العلمي العربي الذي يحمل بين جنباته رؤي نقدية و تحليلية في النظر إلى الأشياء، و إعادة قراءة تاريخ العلم بأسره قراءة نقدية و تحليلية، فعن طريق هذا التراث العلمي العربي يمكن أن نستلهم منه المنهج العلمي النقدي الذي أصبح ضرورة حضارية و نحن نسعى إلى تحقيق تقدم علمي و نهضة علمية في عصر أصبح العلم فيه صاحب الكلمة المسموعة، و أقرب الطرق للمعرفة الصحيحة.
البريد الإلكتروني للكاتب : Kao01@fayoum.edu.eg
[i] المقصود بالعقل العربي العلمي هنا هو ذلك الإنتاج العلمي الذي أنتجه هذا العقل ليكًون في النهاية أنواعاً متعددة من العلوم الطبيعية و الرياضية. و يتميز هذا العقل بالخصوصية التاريخية بوصفه ينتمي إلى الحضارة العربية، و من ناحية أخرى يتميز هذا العقل بأنه منفتح على الآخر الإبستمولوجي و الميثودلوجي أو منفتح على الآخر العلمي. و عندما نقول إعادة اكتشاف العقل العربي العلمي فهذا يعني إعادة النظر النقدي في منتج هذا العقل.
[ii] من أبرز الباحثين المعاصرين الذين تبنوا هذا الاتجاه عبد الله العروي و خاصة في "مفهوم العقل " و "الإسلام والحداثة".