تعتبر ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية من الظواهر الطبيعية الموجودة قبل ان يكتشف الانسان ويستخدم هذه المضادات ولكن زادت حدتها ووتيرتها من خلال الاستخدام المكثف مما أدى الى ظهور سلالات أكثر وبمقاومة متعددة ويمكنني القول بشكل مؤكد أنه وفي كل مقالة بحثية، كتاب، أو محاضرة قرأتها أو أجريتها بنفسي، تعرض وتوصف ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية بطريقة تجعلها ظاهرة سلبية ويجب ايقافها او التخلص منها. وتستخدم لوصفها مصطلحات مخيفة مثل "خسارة المعركة"، "الرصاصة الأخيرة في الترسانة"،" "البكتيريا ترد وتكافح" وهي مصطلحات حربية ومصطلحات أخرى ذات صلة ودلالة سلبية لوصف الظاهرة. وفي هذه السطور سأحاول ان أعرض وجهة نظر مغايرة ترى في ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية جوانب إيجابية.
المجلات المتخصصة في نشر الاعمال البحثية والمقالات العلمية التي تتناول ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية آخذة في الازدياد والاتساع وعدد الابحاث أيضا في ازدياد. هذا بالإضافة الى الجهود الحكومية في مختلف انحاء العالم لمكافحة هذه الظاهرة من خلال سن قوانين واستحداث برامج مراقبة وتخصيص الميزانيات لإجراءات الوقاية من انتشار الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية.
مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية تهدد أحد أهم إنجازات الطب في القرن 20 في مكافحة الأمراض المعدية وستؤدي الى تراجع في كل المجالات التي ازدهرت بسبب وجود مضادات الميكروبات. بل انها ستشكل خطرا كبيرا على وظائف الأطباء الذين لن يكونوا قادرين على علاج التهابات الجروح البسيطة أو حتى التهابات المسالك البولية الشائعة.
لذا فإن معرفة وتحديد أسباب نشوء وانتشار مقاومة المضادات الحيوية نالت الكثير من الاهتمام والدعم. وفي الواقع وبعد مرور أكثر من 70 عاما على اكتشافها نجد انه من الواضح والمقبول على نطاق واسع بأن الاستخدام المكثف وغير الرشيد يشكل أحد العوامل الرئيسية لظهور وانتشار الظاهرة. الضغط الانتقائي الذي يحدثه استخدام المضادات ومقدرة البكتيريا على تبادل الجينات يجعل إيقاف الظاهرة امراً شبه مستحيل. لابد من التنويه ان هذه القضية عالمية تختلف حدتها من مكان لآخر بحسب السياسات الصحية وممارسات استخدام المضادات الحيوية.
مما ذكر في السطور السابقة هو تقريبا وصف مختصر لنظرتنا نحن المختصين والمهتمين في هذا المجال. لكن لننظر الى الامر من زاوية البكتيريا التي ثبت انها أساسية لحياة البشر واستمرار الكون ولا يمكن الحياة بدونها ولكننا لا نستطيع ان نتحدث عن كل ميكروبات العالم لجهلنا اولاً ولعدم معرفتنا ثانيا ولتوقعنا باننا لن نستطيع الالمام بها وبخواصها وأدوارها الحقيقية. لذا سنتحدث عن مجموعة صغيرة تعيش في أمعاء البشر ونرى ماذا يمكن ان يكون رأيها في ظاهرة مقاومتها للمضادات الحيوية. ولماذا قررت ان تأخذ هذه الموقف منها.
قبل ان نتعمق في أدمغتها المعقدة وبيئتها المتزنة لا بد ان نتعرف الى ملخص الأبحاث التي درست دورها المحتمل في الجسم. فهي تمارس دورا مهما في حماية الجسم من استعمار بكتيريا ممرضة، تنتج فيتامين ك، وتهضم بعض المركبات التي لا يستطيع الجسم البشري هضمها. هذه الأدوار التي تدرس لطلاب الاحياء الدقيقة…اما الدراسات الحديثة فتربط هذه البكتيريا بالحفاظ وتدريب جهاز المناعة، وبالمحافظة على المزاج الجيد، وقد بدأ البعض بالتلميح الى دور محتمل في منع مرض السكري من النوع الثاني وامراض أخرى مثل السرطان. وفي السنوات القادمة هناك توقع بكشف تفاصيل أكبر عن أدوار أخرى خصوصاً بعد قطع مسافة كبيرة في مشروع النبيت البشري. ولكن المؤكد ان لها أدوار معقدة لا تقل أهمية عن دور أعضاء الجسم الباقية.
وإذا كان هذا دورها التي انيط بها وهو دور يحتاج الى جهود جميع الأنواع المتواجدة في الأمعاء والتي يزيد عدد أنواعها عن 10,000 صنف ويزيد عددها عن عدد خلايا الجسم بعشرة أضعاف ويزيد عدد جيناتها ب 150 مرة عن عدد جينات الانسان وهناك من وصفها بالعضو المنسي في الجسم. هذا دور محوري لا يقل أهمية عن أي عضو اخر في الجسم وبالتالي فان العبث به سيؤدي الى خلل كبير. أداء هذا الدور المفترض لهذه البكتيريا معتمد بدرجة كبيرة على الاتزان والتواصل بين الأنواع المختلفة، وأي خلل في الاتزان قد يؤدي الى خلل في الوظيفة.
ويبدوا اننا وبدون قصد نعبث بهذا الجزء المهم منذ أكثر من 70 عاما من خلال استخدامنا للمضادات الميكروبية ذات الطيف الواسع والتي لا تفرق بين بكتيريا ممرضة ومفيدة ولابد لعضو مهم ان يكون قادرا على ان يدافع عن نفسه وان يكون قابلاً للتأقلم مع الظروف السيئة من خلال مقاومته للمضادات الحيوية. إذا لابد من ان نعترف أولا بان هذا الفعل من قبلها والمعروف بظاهرة المقاومة انه رد فعل إيجابي ثم بعد ذلك نناقش الاثار السلبية المترتبة عليه.
كانت في السابق وجهة النظر العلمية تصف البكتيريا على انها مصانع صغيرة مستقلة. تغيرت النظرة الى تنسيق متقن. ثم عرفنا بأنها تمتلك لغتها الخاصة وأنها تتواصل فيما بينها وتنسق افعالها وربما ترى في نفسها انها مخلوقات أكثر حكمة من البشر الذين يتميزون بالتسرع لقطف ثمار المعرفة وان كانت غير مكتملة.
فبمجرد معرفتنا بان بعض الميكروبات تسبب الامراض للإنسان كان ردة الفعل المتسرعة. "اقتل كل الميكروبات" دون حتى التفكير انه ربما يكون أضرار محتملة ومما يزيد من نشوة الانتصار هو النتائج المذهلة والنجاحات الانية التي حققها هذا القرار. لكن زيادة ظهور امراض مزمنة غير معدية ونفسية وعصبية قد يكون سببها قتل البكتيريا النافعة في أجسادنا.
ان ما يحدث اليوم من مقاومة للمضادات الحيوية هو رد فعل عقلاني ويمكن اعتباره تصحيح للخطأ الذي ارتكبه البشر بمحاولة التخلص من البكتيريا التي تقوم بدور محوري في الحفاظ على صحة الإنسان. ولو اننا فقدنا صنفاً من الأصناف التي تشكل عنصرا من عناصر الاتزان الدقيق الحاصل في النبيت لا يمكن التنبؤ بما سيحدث بالضبط ولكن من خلال الشواهد المثبتة علميا يتوقع ان تكون النتائج سلبية للغاية.
ولا يمكن باي حال من الأحوال القاء اللوم على استخدام المضادات الحيوية الذي أنقذ ملايين البشر في الفترة الماضية ولكننا اليوم ومع حجم المعلومات والتقنيات المتطورة نحن بحاجة ويمكننا التعمق في المسألة بشكل أفضل هذه المرة للخروج بحلول تقضي على البكتيريا الممرضة دون المساس بالنبيت البكتيري الطبيعي من خلال استهداف متخصص وليس عشوائي ولربما تشكل تقنية استهداف أنظمة تواصل البكتيريا (Quorum Sensing Inhibition)أحد الاستراتيجيات المستقبلية بالإضافة الى استخدام فيروسات البكتيريا (لاقمات البكتيريا Bacteriophages) أو منتجاتها التي أظهرت نتائج طيبة. أيضا استخدام تقنيات متطورة وجديدة تتيح فحص أعداد كبيرة من العينات بشكل متزامن أيضا قد يفتح افاق جديدة لاكتشاف مضادات أكثر تخصصا.
البريد الالكتروني للكاتب : elmanama_144@yahoo.com