تُعطي تقنية «كريسبر» لعلماء الوراثة أداةً قوية لتحرير الجينات، ولقد كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تطوير نُظم نموذجية جديدة في الخلايا والحيوانات، والتي هي أكثر سرعة في التطور وأكثر دقة بكثير من النماذج الوراثية السابقة. الأهم من ذلك؛ أنها رخيصة التكلفة. ولكن هذه التقنية الثورية مازالت محاطة بالعديد من المخاوف التقنية والأخلاقية لاستخدامها في التحرير الجيني للسلالة الجرثومية البشرية. ولقد أشعل التطور الجديد في تقنية «كريسبر» مناقشات تقنية وأخلاقية حادة حول مدى السماح بالسيطرة على الجينومات البشرية والعبث بها.
تسمح تقنية «كريسبر» للعلماء بتحرير الجينات بدقة لم يسبق لها مثيل، وبكفاءة ومرونة. إنها تؤدي إلى مجموعة واسعة من الفرص، وهناك خطط جارية بالفعل لتعديل المواد المثيرة للحساسية في الفول السوداني، وإنتاج فطر عيش الغراب الذي لا يتغير لونه، وتربية بعوض لا يمكن أن ينقل الملاريا، بل هناك مشروع أيضا لإعادة الماموث الصوفي العملاق من الانقراض.
كما يتم بالفعل استخدام تقنية «كريسبر» لتعديل الحمض النووي في الخنازير حتى يمكن زرع أعضائها في البشر. وتستخدمه الصين للتحرير الجيني لخلايا البشر، عن طريق حقن خلايا الدم البيضاء لمكافحة السرطان في المريض. ويمكن أيضا أن تستخدم هذه التقنية لاستهداف الأمراض مثل التليف الحويصلي، وفقر الدم المنجلي ومرض هنتنجتون.
ويعتبر تحرير جينوم الأجنة؛ أسهل بكثير من حيث المبدأ من تحرير جينوم الخلايا البالغة، ولكن العديد من الأمراض الوراثية لا تتطلب ذلك، لأن الأجنة تكاد تكون خالية بشكل طبيعي من الطفرة بالفعل. على سبيل المثال، فإن 50% من الأجنة من أحد الوالدين الذين يعانون من مرض هنتنجتون، و25% من الأجنة لزوجين يحملان الطفرة التي تسبب التليف الكيسي، ستكون خالية من الطفرات الضارة دون الحاجة لتحرير الجينوم.
تاريخ قصير ونجاحات متعددة
يشير اسم «كريسبر» إلى طريقة «كريسبر- كاس9» أو (الموضع الصبغوي ذو التكرارات المُنتظمة المُتجمعة قصيرة التناوب) في جينومات البكتيريا والكائنات الدقيقة الأخرى. واستلهم «كريسبر» في الأساس من آليات دفاع هذه الكائنات. تدافع البكتيريا عن نفسِها من الهجمات الفيروسية، عن طريق سرقة شرائح من الحمض النووي للفيروس الغازي باستخدام أنزيم يسمى «كاس». ومن المعروف أن هذه السلاسل التي تتشكل حديثا تسمى «كريسبر». وتصنع البكتيريا نسخًا من الحمض النووي الريبى RNA من هذه السلاسل، التي تساعد على التعرف على الحمض النووي للفيروس ومنع غزواته في المستقبل.
في عام 2012، حول العلماء «كريسبر» من درع للبكتيريا إلى أداة لتحرير الجينات. وقاموا باستبدال نظام «كريسبر» الحمض النووي الريبى للبكتريا بآخر موجه (دليلي، مرشد). عمل هذا الحمض النووي الريبي كبوستر "مطلوب القبض على الجاني"، إنه يبلغ الأنزيم الصياد الذي يسمى «كاس9» بمكان هذا الجاني. ويقوم الأنزيم بفحص جينوم الخلية حتى يعثر على تطابق الحمض النووي، ثم يجزئ الحمض النووي لأنزيمات الخلية. ولإصلاح الأضرار في تلك المرحلة، يمكن للعلماء تغيير أو إضافة الحمض النووي داخل الخلية.
وعن طريق تغذية « كاس9» بالتسلسل الصحيح أو بالحمض النووي الريبى الموجه (الدليلي، المرشد)، يمكن للعلماء قص ولصق أجزاء من تتابعات الحمض النووي، تصل إلى 20 قاعدة في الجينوم في أي نقطة. وأجريت أول تجربة باستخدام «كريسبر» لتغيير الحمض النووي للأجنة البشرية في عام 2015، واستخدمت في هذه التجربة أجنة تحمل عيوب جينية خطيرة، والتي تم الحصول عليها من عيادات الخصوبة.
مخاوف وتحديات تقنية
وكان علماء ومتخصصون في عِلم الأخلاق قالوا خلال لقاء دولي في الأكاديمية الوطنية للعلوم في واشنطن عام 2015؛ إن تطبيق تكنولوجيا التعديلات الجينية على أجنة بشرية لأغراض علاجية، سيكون أمراً «غير مسؤول»، إلى أن تحل مشاكل تتعلق بالسلامة والكفاءة. ويرى الباحثون أن هذا النوع من البحوث لا غنى عنه لإجراء تصحيحات في الحمض النووي للأجنة بأمان وبدقة لإصلاح الجينات المسببة للأمراض، ولكن هذه الدراسات تواجهها العديد من العقبات التنظيمية، وتشمل هذه الحواجز التنظيمية الحظر الأخير لتمويل التجارب التي تستخدم تقنيات تحرير الجينوم في الأجنة البشرية الصادر عن المعاهد الوطنية للصحة الأمريكية. وهناك العديد من التحديات التقنية الأخرى مثل النقل الفيروسي والمخاوف بشأن الآثار الجانبية من تحول الخلايا إلى مصانع «كريسبر»، وهناك أيضا مخاوف بشأن حقيقة أنه قد يكون من المستحيل إيقاف تشغيلها أيضًا. كما أن هناك بعض المخاوف من تأثير بعض البروتينات المنقولة من البكتيريا، والتي يجري إدخالها للجسم البشرى لاستثارة الجهاز المناعي.
ويريد العلماء أن يكونوا قادرين على هندسة البشر وراثيًا بحيث لا يصابون بالأمراض الوراثية في المستقبل. وقد يسمح للعلماء بتعديل البشر وراثيًا، وتغيير الحمض النووي لتجنب الأمراض في المستقبل القريب. ظهر هذا الاستنتاج في تقرير جديد مشترك صدر مؤخرًا لاثنتين من المؤسسات العلمية الأكثر نخبوية في العالم، والذي يدعو الناس إلى السماح بإجراء تعديلات على الحمض النووي البشري الموروث لتحريره من الأمراض. وقد عبرت المؤسستان الأكثر نخبوية في العالم عن دعمهما للعلماء بوقف الأمراض بعدم تمريرها إلى الأجيال المقبلة. ويعد هذا التقرير معلما حقيقيًا لأنه في الواقع يرقى إلى المعاقبة الرسمية من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم، والأكاديمية الوطنية للطب للأبحاث الطبية التي تتطلع إلى تعديل أو إزالة أو إضافة الحمض النووي في البويضات والحيوانات المنوية والخلايا والأجنة البشرية.
ويقول التقرير؛ إن استخدام تقنية «كريسبر» في المستقبل للتحرير الجيني للسلالة الجرثومية لعلاج أو منع المرض والعجز هو "احتمال واقعي يستحق النظر فيه بجدية." ومع ذلك، تشير الأكاديميتان إلى أن التكنولوجيا ليست آمنة بما فيه الكفاية لتبرير اختبار على الحمض النووي الموروث للمرضى حتى الآن. وتضيف الأكاديميتان أن التحرير الجيني للتعزيز يجب عدم السماح به "في هذا الوقت" – ولكنه لا يستبعد ذلك تماما. وعلى المدى المتوسط، فإنه يمكن استخدام هذه التقنية لإنتاج نسخ "أنظف" من العلاجات الحالية، مثل تحرير الخلايا الجذعية العلاجية لتكون أقرب إلى أنواع الأنسجة التي يحاولون استبدالها.
لكن المعارضين لهذا التوجه يقولون إن التحرير الجيني لحل مشاكل محددة؛ يمكن أن يبدأ اتجاهًا لإجراء تغييرات أخرى، مثل إضافة ميزات مادية محددة أو تحسين الأطفال بحيث يكونوا أقوياء أو أكثر سرعة. والتحرير الجيني، الذي يسمح بشكل فعال "بالقص واللصق" الدقيق للحمض النووي يستخدم بالفعل في الدراسات البحثية والإكلينيكية الأساسية، التي تنطوي على خلايا "جسدية" غير وراثية. والآن وقد حكمت المنظمتان النخبويتان بأن التحرير الجيني "للسلالة الجرثومية" البشرية – الحمض النووي الموروث – لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه خط أحمر في البحوث الطبية.
وينبغي أن تعقد حلقات نقاش عامة واسعة النطاق، قبل السماح بالتجارب الإكلينيكية. حتى تلك التي تنطوي على الحمض النووي غير الموروث، ولأي غرض آخر غير العلاج أو الوقاية من المرض، كما يقول التقرير. وقال البروفيسور "ألترا شارو" الأستاذ في جامعة ويسكونسن ماديسون في الولايات المتحدة، الذي شارك في رئاسة لجنة الدراسة والمعين من قبل الأكاديميات للتحقيق في التداعيات الأوسع نطاقا للتحرير الجيني: "يحمل تحرير الجينوم البشري آمالاً عريضة لفهم وعلاج أو الوقاية من العديد من الأمراض الوراثية المدمرة، وتحسين علاج العديد من الأمراض الأخرى". ويضيف؛ "ومع ذلك، فالتحرير الجينومي لتعزيز الصفات أو القدرات خارج الحالات الصحية العادية يثير مخاوف بشأن ما إذا كانت فوائده يمكن أن تفوق مخاطره، وعن العدالة إذا كانت متاحة فقط لبعض الناس".
البحوث التي تنطوي على تعديل الجينات الموروثة في الأجنة البشرية لا يسمح بها حاليا في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأخرى، قد وقعت اتفاقية دولية تحظر ذلك. وتغيير الحمض النووي للسلالة الجرثومية محظورٌ أيضا في المملكة المتحدة، مع استثناء واحد هو استثناء البرلمان البريطاني الحمض النووي الموروث في الميتوكوندريا – التي هي محطات الطاقة الصغيرة في الخلايا التي تزودها بالطاقة – ويمكن الاستعاضة عنها إذا كانت معيبة وتسبب الأمراض الفتاكة التي تنتقل من الأمهات إلى أطفالهن. ويشكل الحمض النووي للميتوكوندريا نحو 0.1 في المئة من جميع المادة الجينية (الجينوم) الموروثة في الخلية البشرية، ولا يؤثر على الخصائص الرئيسية مثل لون الشعر والعينين أو الشخصية.
معضلات أخلاقية
علاوة على ذلك، يأمل العلماء ألا تطغى الأسئلة الأخلاقية بشأن بعض استعمالات "كريسبر" على فاعلية هذه التكنولوجيا وتؤخر حصولها على موافقة السلطات المعنية. على سبيل المثال؛ يعرب بعض العلماء عن خوفهم من استعمال هذه التكنولوجيا لهندسة أجنة بشرية. ويقول منتقدُوا هذه البحوث الجديدة، أن هناك قلق من أن هذه التعديلات الوراثية قد تنتقل إلى الجيل التالي، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير متوقعة. ويخشى العلماء من أن تمكن هذه التقنيات الأزواج من هندسة الأجنة وراثيًا، فضلا عن التحكم في اختيار جنس المولود بالصورة والكيفية التي يرغبها الآباء، والعديد من القضايا الشائكة الأخرى مثل هندسة شكل الطفل، واختيار خصائصه على أسس جينية.
ويرى الباحثون أنها ليست إلا مسألة وقت فقط قبل أن تستخدم هذه التقنيات لهندسة ذريتنا والتخلص من العديد من الأمراض الوراثية الخطيرة. وتبشر تقنية "كريسبر" بعصر جديد من الهندسة الوراثية، عصر قد يسمح لنا بحماية محاصيلنا من الملوحة والجفاف والعدوى، ومحو الأمراض الوراثية، وحتى عكس الشيخوخة في البشر، ولقد استولت تقنية "كريسبر" على عالمنا بشكل كبير، فقد تغلغلت في كل المجالات تقريبا، مبرهنة على أن محدودية استخداماتها هي في مخيلتنا فقط وأنَّ أفاقَها وطموحاتِ علمائها لا حدودَ لهما.
البريد الإلكتروني للكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg