نقل الأشجار الاصطناعية من المختبر إلى الهواء
الكاتب : أ. عبد الحكيم محمود
الكاتب : محمد أبطوي
أستاذ تاريخ وفلسفة العلوم - جامعة محمد الخامس بالرباط
09:29 مساءً
01, يونيو 2015
إنه لمن دواعي سروري واعتزازي أن نحتفي في كلية الآداب بالرباط بأحد أهم مؤرخي العلوم في عالمنا اليوم. إذ يعتبر الأستاذ رشدي راشد علَماً من أعلام تاريخ العلوم العربّية وأكثرهم نشاطاً وانتاجاً خلال الأربعين سنة الأخيرة. عرفتُ الأستاذ رشدي راشد، كغيري، أولاً من خلال أعماله. ففي الثمانينيات، أثناء دراستي من أجل تحضير الدكتوراه في تاريخ العلوم بجامعة السوربون بباريس اطّلعت على بعض أبحاثه المنشورة. ورغم أنني كنت أشتغل حول موضوع بعيد عن العلوم العربية، يتعلق بتحليل مخطوطات جاليليو حول مسائل الحركة، لم أفتأ أتابع منشوراته واقتنيت كتابه الهام بين الجبر والحساب الصادر بباريس سنة 1984. وانتبهت أيما انتباه إلى تحليله لظاهرة "العلم الغربي" كما سّماها.
وفي سنة 1993 شاركتُ في ندوة بمركز ألسندر كويري بباريس وأتيحت لي الفرصة لأول مرة للقاء بالأستاذ راشد مباشرة. بعد ذلك بثلاث سنوات، بدأت مشواراً علمياً طويل الأمد بمعهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم ببرلين، وتحولت أبحاثي في تاريخ العلوم إلى دراسة الميكانيكا النظرية العربية، فصار اتصالي بأعمال الأستاذ راشد وطيداً ومتواصلاً. وما زلتُ إلى الآن أستنير بأبحاثه ونتائجها في أعمالي وأحيل باستمرار إلى كتبه ومقالاته أثناء تحقيق ودراسة رسائل المتن العربي حول الأثقال و الأوزان و الموازين. وبالطبع سواء تعلق الأمر بثابت بن قرة أو الخازني أو القوهي أو ابن الهيثم وغيرهم من مؤلفي المتن العربي في الميكانيكا، أجد دوماً لدى رشدي راشد أحسن التحاليل وأصوب الآراء التي تنير سيرة هؤلاء العلماء أو تزيل الغموض عن بعض عوارض سِيَّرهم ومؤلفاتهم.
سأقدم في هذا البحث نبذة عن أعمال الأستاذ رشدي راشد و أركز على التجديد العميق الذي أحدثه في معرفتنا للتقليد العلمي العربي، و سأركز على مناقشة بعض معالم الرؤية المنهجية التي استنار بها، من خلال مناقشة مفهوم "العلم الكلاسيكي." فالباحث الكبير لم يكتف بإعادة كتابة فصول كاملة من تاريخ العلوم العربية، بل خاض نضالاً حقيقياً لتغيير نظرة المؤرخين لمكانة العلم العربي في التاريخ العام للعلم. واستند في ذلك على رؤية نظرية جامعة وعلى منهجية في التحليل التاريخي ألهمت ووجهت دراسته للمعطيات العلمية.
يتألف البحث التالي من أربع فقرات هي:
1- توصيف مختصر للمشروع العلمي
أوقف الأستاذ راشد حياته العلمية للبحث في ثنايا المخطوطات الأصلية وتخصص في دراسة العلوم الرياضية المكتوبة بالعربية والتي تنتمي إلى المرحلة الممتدة بين القرنين التاسع والسادس عشر. ولم يقتصر اهتمامه على الرياضيات، من جبر وهندسة وحساب، بل امتد ليشمل المباحث العلمية التي طُبّقت فيها الرياضيات لدراسة مواضيع فيزيائية، خاصة في ميدان المناظر أو البصريات.
لذا فمن الصعوبة بمكان المغامرة بتقديم قراءة شاملة لأعمال رشدي راشد أو الإحاطة بجوانبها المتعددة وذلك لسعة مشروعه وتنوع روافده. غير أن هذا المشروع ليس عملاً مبعثراً بدون ضفاف، بل تحكمه وحدة مندمجة تتمثل في نشاط علمي يمتد على عشرات السنين من البحث والتمحيص ويتمركز حول إعادة كتابة تاريخ العلوم العربية من خلال التركيز على تحقيق وتفسير مجموعة كبيرة من النصوص العلمية التي تنتمي كلها إلى النواة المركزية للتقليد العلمي العربي، وهي النصوص الرياضية والمؤلفات المنتمية إلى العلوم الرياضية، أي العلوم التي تستخدم فيها الرياضيات كمنهج وكوسيلة لاستنباط المعارف وعرضها والبرهنة عليها.
توزعت أعمال رشدي راشد حول العلوم الرياضية وامتداداتها الفلسفية ما بين التقاليد اليونانية والعربية والأوروبية الحديثة، وغطت على الإجمال مرحلة زمنية تفوق ألفي سنة من النشاط العلمي الكثيف. يمكن البداية بذكر مؤلفه حول حساب ديوفانطس وكتابه الضخم الذي أعاد فيه تحقيق مخروطات أبولونيوس وشرحها، كما له في الجانب الآخر من هذا الزمن الطويل أعمال حول العلوم الأوربية الحديثة، ومنها كتاب حول علوم عصر الثورة الفرنسية وآخر حول ديكارت وآخر حول كوندورسيه، كما شارك في اصدار كتاب حول الرياضي الفرنسي فيرما. أما مؤلفاته في تاريخ العلوم العربية، كما سنرى، فشملت أهم أوجه النشاط العلمي في التقليد العلمي العربي خاصة في الرياضيات والمناظر والفلسفة الطبيعية وفلسفة العلوم.
لا تقاس أهمية أعمال رشدي راشد بحجمها وهو ضخم، وإنما بما قدمته من جديد على مستوى إغناء مبحث تاريخ العلوم بعدد كبير من النصوص الجديدة والمحققة تحقيقاً دقيقاً ومفسّرة بشروح وتعاليق تسمح بفهم محتواها وموضعته في سياق تاريخ العلوم العام. يمكن القول إذن أن معرفتنا بالرياضيات وبعلم المناظر العربيين توسعت وتعمقت بفضل أعمال رشدي راشد التي أحدثت تغييراً عميقاً في الرؤية إلى العلم العربي. كما عدلت في نفس الوقت الطريقة التي يجب أن يكتب بها التاريخ العام للرياضيات وعلم المناظر. فأبحاثه حول حلّ الخيام وشرف الدين الطوسي للمعادلات التكعيبية بواسطة تقاطع القطوع المخروطية عدَّلت النظرة إلى جبر ديكارت الهندسي. كما أن أعماله حول علم المناظر الهندسي لإبن سهل وابن الهيثم وكمال الدين الفارسي أحدثت تغييراً عميقاً في فهمنا لإنجازات علماء القرنين السادس عشر والسابع عشر، وشكّلت أيضاً دعوة قوية لإعادة النظر في موقع ووضع ما اصطلح المؤرخون على تسميته بـ "ترييض الفيزياء"، أي تطبيق الرياضيات في دراسة المواضيع الفيزيائية، هذا التطبيق الذي ينسب إلى جاليليو وجرت العادة أن يعتبره المؤرخون مؤشراً على انبثاق العلم الحديث.
وبصفة أدق، بينت أبحاث رشدي راشد حول تاريخ الرياضيات مدى وحدة الرياضيات المكتوبة بالعربية مع تلك المكتوبة باللاتينية بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر، وبينت أن معرفة الأولى شرط لا غنى عنه من أجل فهم أفضل لمجموع الرياضيات الكلاسيكية. مثلاً، نشر الأستاذ راشد أعمال شرف الدين الطوسي في الجبر والهندسة، وجدد بعمق المعلومات المتوفرة للمؤرخين حول الرياضيات العربية المخصصة للمعادلات الجبرية وأضاف لبنة هامة تنير بضوء جديد التاريخ الكلاسيكي لعلم الجبر.
وفي ميدان الهندسة، لم يكن عمل رشدي راشد أقل قيمة. فعلى امتداد فترة طويلة، لم تحظ الهندسة العربية بما تستحق من تقدير، حيث حجبتها الحداثة الجذرية في ميدان الجبر، فساد الاعتقاد بأن هذه الهندسة ليست إلا سلسلة شروح على الهندسة الإغريقية. غير أن أبحاث رشدي راشد حول الهندسة العربية ومنشورات زملاؤه وتلامذته ومساعدوه عدّلت بشكل جذري هذه الرؤية المجحفة. والنصوص العديدة المحققة اليوم قلبت رأساً على عقب الرؤية السابقة وجددتها. ونستدل بهذا الصدد بأبحاث مدرسة رشدي راشد حول السجزي والقوهي وابن سهل وابن الهيثم وابراهيم بن سنان، ودراساته حول علاقة الهندسة بعلم انكسار الضوء، هذا الموضوع الذي خصص له مجلداً ضخماً نشره معهد الفرقان بلندن سنة 2005.
أما في ميدان علم المناظر، زاوج رشدي راشد، ومنذ ثلاثة عقود، بين تحقيق النصوص الكبرى ودراستها، مستلهماً بدون شك التأثير الذي قد يكون استمده من البحث الرائد لمواطنه العالم المصري مصطفى مُشرَفَة حول ابن الهيثم. فنشر متناً غنياً من النصوص الأصلية والمترجمة إلى اللاتينية للتقليد العربي لعلم المناظر وشرحها شروحات مستفيضة أفضت أحياناً إلى مراجعة بعض مسلمات تاريخ المناظر الحديث، مثل اعلانه عن السبق الذي حققه أبو سعد العلاء بن سهل في اكتشاف قانون انكسار الضوء، الذي عادة ما ينسب إلى عالم القرن السابع عشر ويلبرورد سنيليوس أو سنيل.
إن الضخامة الاستثنائية للمخطوطات العلمية العربية التي بحث عنها رشدي راشد وفريقه في كافة أرجاء الأرض وحققها وشرحها بشكل نقدي أسهمت في تغيير النظرة إلى تاريخ العلم وفي قلب مفاهيم كانت تعتبر من المسلمات، وبنيت عليها مواقف واستنتاجات تحتاج كلها الآن للمراجعة. في الحقيقة، إن القول أن صورة تاريخ العلوم العربية والمكانة المخصصة لها في تاريخ العلم تغيرا بفعل أبحاث رشدي راشد لا يفي أبحاثه حقها. فقد أسهم الباحث الجليل في تثبيت معايير الدقة العلمية في مجال لم يعرف بتاتاً مثل هذه المعايير من قبل. وكان من أدواته في هذا السبيل كل ما يتعلق أولاً بجمع المخطوطات من كل أنحاء الدنيا وتحقيق النصوص العلمية وإقامة الهوامش والحواشي النقدية. وبذلك توفر متن خصب من المادة العلمية الجاهزة للتحليل والدراسة وصارت معالم حقل الأبحاث في العلوم العربية أكثر وضوحاً.
نحن إذن أمام عمل ضخم تناول تاريخ العلوم والفلسفة وأثر تأثيراً عميقا في نظرة المختصين والجمهور العام للبعد التاريخي التعددي للعلم. وما يضفي على هذا العمل مزيداً من الأهمية هو كونه يتكامل في إطار مشروع واضح المعالم وإن كان صاحبه لا يعلنه بشل صريح. ويمكن تلخيص هذا المشروع في:
2 – نقد عقيدة الانتماء الغربي للعلوم.
ولد مبحث تاريخ العلوم كحقل معرفة في القرن الثامن عشر وأخذ مكانة متميزة في فلسفة الأنوار. ومنذ بدايات تاريخ العلوم، حظي العلم العربي باهتمام لم ينقطع. غير أن صورة هذا العلم بدت حتى الستينيات من القرن العشرين مشوَّهة ولا تعبر عن الطابع المجدّد للعلم العربي. فلم يتلق مؤرخي العلوم الأوائل من العلم العربي سوى أصداء حملتها إليهم الترجمات اللاتينية القديمة، وباعتبار أن معظم الأعمال التي أنتجت إلى حدود تلك الفترة أنجزها باحثون غربيون، وغلب على معظم أبحاثهم شوائب ونواقص على المستويين اللغوي والعلمي.
وعلى صعيد آخر، انتشرت في أوساط المؤرخين منذ القرن التاسع عشر قناعات فكرية ذات طبيعة إيديولوجية تمتح من انتصارات العالم الغربي، فأفرزت مقولة سماها رشدي راشد "الانتماء الغربي للعلوم". حسب هذه المقولة، كانت الحقبة التاريخية الواقعة بين القرنين الثامن والسادس عشر فترة ركود من حيث انتاج المعرفة، وعلى هذا الاساس تنحصر قيمة العلم العربي في نقل النصوص اليونانية التي فُقدت أصول بعضها ولم تتوفر خلال العصر الوسيط إلا بالعربية، قبل أن تعاد ترجمتها إلى اللاتينية ابتدءاً من القرن الثاني عشر. وبذلك اكتملت الدائرة وحصل الاتصال من جديد بين الماضي المجيد المفترض للغرب والمتمثل في "المعجزة اليونانية"، لتقوم معجزة ثانية هي "عصر النهضة" وانجازاته والتي جددت التاريخ الغربي وفتحت له سبل الرقي والازدهار. في هذا السياق المحكوم برؤية متمركزة حول الذات الغربية المتوهَّمة والممتدة في التاريخ من العصر الاغريقي القديم إلى الغرب الثقافي الحالي، إذا اعتُرِف لبعض العلماء العرب بشيء من الفضل فهو أنهم كانوا أمناء لمتحف العلم اليوناني، وإذا ابتكر بعضهم شيئاً فليس هذا الابتكار إلا امتداد للعلم اليوناني أو هوامش عليه.
إن مقولة الانتماء الغربي للعلوم جعلت المؤرخين يحصرون اهتمامهم بما اعتبروه قمتان حضاريتان هما الحضارة اليونانية وعصر النهضة الأوربي، بامتداده في العصر الحديث متمثلاً في ما اصطلح على تسميته بـ"الثورة العلمية". غير أن هذا الاهتمام بالقمتين المفترضتين والقفز على الألف سنة التي تفصلهما سرعان ما أدى إلى ظهور تناقضات بارزة لا يمكن تجاهلها. فقد بدا ديكارت مثلاً وهو يطبق هندسة أبولونيوس على الجبر، في معرض دراسته للمعادلات الجبرية من الدرجتين الثالثة والرابعة، بدا وكأنه هو الذي استلم المشعل من العالِم اليوناني القديم الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، ليحدث بعده بحوالي 1800 سنة تقدّماً هائلاً في الرياضيات. فمؤرخ الرياضيات الذي يجهل ابتكارات المدرسة الرياضية العربية في الجبر والجبر الهندسي، بدءاً من الخوارزمي وصولاً إلى شرف الدين الطوسي، وبينهما الماهاني وأبو كامل وابن الليث والخيام، يجد نفسه، لتقريب الفجوة بين أبولونيوس وديكارت، مضطراً إلى المبالغة في تضخيم مساهمة العالم الفرنسي والنفخ في ثورية أعماله. كما أدى هذا الوضع إلى أخطاءٍ تناولت طبيعة العلوم نفسها، حيث أن العديد من المؤرخين رأوا الجبر في المقالة الثانية لكتاب "أصول الهندسة" لأوقليدس وفي نظرية الأعداد الصماء في المقالة العاشرة، وغير ذلك من الأخطاء العديدة الأخرى.
أدى هذا الوضع إلى تضخيم محتوى العلم اليوناني وإلى إضفاء صفة "الثورية" على الاسهامات الكبرى للعلماء الأوربيين في القرن السابع عشر، وإلى تجاهل الحلقة الرابطة بينهما طيلة ألف سنة. كما يقول رشدي راشد في عبارة بليغة، أدت هذ النظرة إلى تشويه الواقع الحقيقي للعلم اليوناني وللعلم الحديث، إذ "لابد من التواء السلسلة التاريخية المتواصلة إذا ضُمَّت حلقتان متباعدتان من حلقاتها".
في مقابل التركيز على العلم اليوناني والأوربي الحديث، نبه عدد من مؤرخي العلوم من العالم الغربي ومنذ القرن التاسع عشر إلى أهمية التقليد العلمي العربي وغناه، وذلك بعدما اطلعوا على بعض نصوصه ونشروها. وابتداءاً من خمسينيات وستينيات القرن الماضي تسارعت أبحاث المدرسة التي خلقها هؤلاء الرواد وتكثفت انتاجاتها. في هذا السياق بالذات بدأ رشدي راشد أبحاثه، فتلقى أولاً تكويناً رفيعاً مكّنه من الاطلاع على اشكاليات تاريخ العلوم. وكان هذا التكوين والمعرفة المباشرة بالعلم الحديث محفزان رئيسيان في شحذ رؤيته للعلوم العربية، حيث عرف قدرها دون السقوط في نظرة تمجيدية بسيطة. ومنذ بداية مشروعه لتغيير الصورة النمطية عن العلم العربي، اعتبر العلم مجالاً لإنتاج المعارف ساهمت فيه كل الشعوب والثقافات والحضارات.
3 – صورة العلم العربي.
ما هي الصورة الحالية للعلم العربي التي خرجت إلى الوجود بفعل الأبحاث الجديدة، والتي تشكل أعمال رشدي راشد إحدى أعمدتها الرئيسية؟
أدت الأبحاث منذ الستينيات إلى انتاج كم كبير من المعطيات والمعلومات حول منجزات التقليد العلمي العربي، فطورتها وغيرت صورة بعضها وأضافت إليها فصولاً بل علوماً جديدة أحياناً. وأدت تلك الأبحاث إلى تغيير صورة العلم العربي ونقلته من مرتبة الواسطة بين المرحلتين القديمة والحديثة إلى مرتبة التقليد العلمي الخصب، تقليد يحفل بكبار العلماء ويمتلئ بالابتكارات والابداعات والاختراعات في مختلف الميادين العلمية، تقليد غني يشارك نظرائه من التقاليد العلمية في إثراء التاريخ العام للعلم ويساهم في الحداثة الكلاسيكية.
وفي تقييمه لمجمل التراث العلمي العربي، يبيّن رشدي راشد أن أهمية هذا التراث لا تكمن في عدد هائل من الاضافات العلمية الجديدة فحسب، بل أيضاً في الأسلوب الذي اتبِع في استخراج الكشوف العلمية واستنتاج نتائجها وتطويرها. ويلفت الانتباه بهذا الصدد إلى ميزتين أساسيتين من مميزات هذا الأسلوب:
أولاها هو تطبيق علم على علم آخر: وهذا الأسلوب هو الذي يسم البداية الحقة للعلم الكلاسيكي حسب رشدي راشد، وهو أسلوب مناقض لفكرة سادت في التراث اليوناني حول انفصال العلوم في نظرية العلم الأرسطية خصوصاً فترسخت فكرة عدم اللجوء في ميدان علمي إلى علم آخر ليس من جنسه. وبتطبيق علم على آخر، ولدت نظريات وفصول علمية جديدة. فالجبر علم جديد بالكامل، أبصر النور في بداية التقليد العلمي العربي مع الخوارزمي وكان إلى حد بعيد نتيجة زواج الحساب بالهندسة. فقد جمع بين أسلوب برهاني مستمد من الهندسة وأسلوب ألغورتمي قادم من الحساب. وكان لولادة الجبر أثر كبير في تطور العلوم الرياضية كافة، وطبع الجبر، بتداخله مع العلوم الأخرى، الفكر العلمي في المرحلة العربية، تماماً كما طبعت الهندسة العلم اليوناني.
كما أدى تطبيق الحساب والهندسة على علم الفلك إلى ولادة علم المثلثات والذي اكتمل بشقيه الكروي والمسطح في التقليد العلمي العربي. وطُبِّق الحساب على علم اللغة في أعمال الخليل بن أحمد وأنتج ذلك التحليل التوافقي الذي وجد له تطبيقات عدة وتطور عبر البحث في عمليات التعمية والتشفير، وخاصة عبر تطبيق الحساب على الجبر، وصولاً إلى الكرجي في القرن الحادي عشر الذي اخترع المثلث الحسابي الشهير والمنسوب إلى باسكال.
وأدى تطبيق الهندسة على الجبر إلى ظهور الفصل المتعلق بالبناء الهندسي لجذور المعادلات عند الخوارزمي والماهاني وأبو الجود بن الليث والخازن والخيام، وكان هذا الفرع العلمي حتى الأمس القريب منسوباً إلى ديكارت. وعلى أساس هذا الكشف الرياضي، صارت الهندسة التحليلية ممكنة، مثلما توحي بذلك بداية تلمس مفهوم النهايات القصوى في رياضيات شرف الدين الطوسي، عالم القرن الثاني عشر. وكذلك أدى تطبيق الجبر على الحساب إلى تجديد نظرية الأعداد لدى أبو كامل والخازن وغيرهما. وأدى تطبيق الجبر والحساب على بعض فصول الهندسة في سياق دراسة المقالة العاشرة من كتاب "الأصول" لأقليدس إلى بداية توسع مفهوم "اللامُنطَق" من المقادير إلى الأعداد لدى الماهاني والخازن والكرجي وغيرهم.
ومنذ بداية القرن التاسع تبنى العلماء العرب النظام العشري الهندي الأصل، وأدخلت معه الكسور العشرية، مما أدى إلى تطوير عدة ألغوريتمات حسابية. وساعد تطبيق الحساب على الهندسة في تطوير رياضيات اللامتناهي في الصغر وابتداع ألغوريتمات مكّنت من بروز حسابات على درجة عالية من الدقة.
وهكذا عرفت الرياضيات تطورات مذهلة غيرت صورتها بصفة جذرية. كما تغيرت أيضاً صورة علم الفلك. فقد جرى وبتزامن مع ترجمة مؤلفات بطلميوس، نقد نظريته الفلكية حول حركات الكواكب وتواصلت محاولات تصحيحها عبر مواجهة الواقع المستنتج من الأرصاد مع النماذج الهندسية، مما أثر أيضاً في تطوير علم الهندسة نفسه (ببروز الهندسة الكروية والاسقاط الهندسي) وعلم المثلثات والجغرافيا الرياضية وصناعة الأدوات الفلكية.
أما المميز الثاني للأسلوب العلمي الذي رافق تراكم النتائج العلمية في العلم العربي فهو اعتماد التجربة كبرهان لصياغة القوانين العلمية. ويعتبر رشدي راشد أن هذه المبادرة المنهجية ترقى إلى مستوى الخاصية الثانية للحداثة العلمية الكلاسيكية، وهو أمر لم يرثه العلماء العرب من التقليد العلمي اليوناني، حيث إذا استثنينا بعض أعمال أرخميدس فقد اجتنب العلم اليوناني دوماً اعتماد التجربة في البرهان.
وصل اعتماد التجربة كمعيار للبرهان ولاستخلاص القوانين العلمية إلى أوجّه في أبحاث ابن الهيثم الذي أحدث انقلاباً حقيقياً في علم المناظر. وتوبع هذ النهج لدى خلفائه، واستخدم عالم القرن الثالث عشر كمال الدين الفارسي تجارب معقدة لتمثيل الواقع الطبيعي في دراسته لظاهرة قوس قزح.
تكفينا هذه الأمثلة لرصد تأثير هذا النهج المزدوج المتمثل في تطبيق علم على آخر واعتماد التجربة كمعيار للبرهان كأسلوب مميز للممارسة العلمية في التقليد العربي. كل هذه المتغيرات في شكل العلوم ومحتواها والتطوير الكبير الذي طال المنهجية العلمية وطرق التعاطي مع وسائل الكشف العلمي تبيّن بوضوح، والأمثلة عديدة لا تحصى، أن هذه الممارسة العلمية الجديدة لا تمثل تطويراً لموروث سابق بل توحي بأننا أمام تقليد جديد، أغتنى في بداياته بما ورثه لكنه استقل عن الماضي بابتكار الجديد في محتوى المعارف ودقة النتائج والأسلوب الإبيستيمولوجي. كما يقول رشدي راشد، ولَّد التقليد العلمي العربي الذي طُبِع بالمنهجية المذكورة عقلانية جديدة هي التي تميز الحداثة الكلاسيكية، وأسهم بكل تأكيد في أن يخرج إلى الوجود مع بداية القرن السابع عشر تنقيح جديد لهذه العقلانية يعطي لها أسباب الكمال.
يمكن تلخيص الصورة التي تكونت لدينا اليوم حول العلم العربي بفعل أبحاث رشدي راشد في المحدد الرئيسي التالي: بعدما انطلق في أبحاثه من مرحلة كان العلم العربي فيها لا يحتل سوى موقع هامشي، أخرجه هو زملائه وتلامذته في ثلاثة عقود من البحث والمثابرة إلى مصاف علم عالمي؛
4 – مفهوم العلم الكلاسيكي.
يستخدم الأستاذ رشدي راشد عبارة "العلم الكلاسيكي" مرات عديدة دون أن يجشم نفسه عناء تحديدها بدقة. ويشير أحياناً في ثنايا أعماله وفي مداخلاته الإعلامية إلى بعض المحددات التي تسمح بفهم دلالة هذه العبارة التي نفهم من سياقات استعمالاته المتعددة لها، بنفس الصفة وأحياناً تحت مسميات أخرى مثل ""الحداثة الكلاسيكية"، أنها ليست مجرد عنوان عابر بل تأخذ صفة مفهوم إجرائي يوضح نظرته إلى ممارسته التأريخية للعلوم وللتحقيبات الزمنية التي تنظِّمُها. وكما سنرى، فإن "العلم الكلاسيكي" يأخذ لدى رشدي راشد صفة مفهوم يعبر عن نظرة المؤرخ التجديدية لطبيعة العلم العربي ومكانته في التاريخ العام للعلوم.
يميز الأستاذ راشد في تاريخ العلم بين "العلم الكلاسيكي"، ويعني به العلم العربي وامتداداته الأوربية، ثم العلم الحديث، الذي نشأ في أوربا منذ أواسط القرن السابع عشر، ثم العلم الصناعي المعاصر. يقول: "علينا … أن نميز بين ثلاثة أنماط علمية، يهم كل منها المنطقة العربية في تاريخها الممتد. وهذه الأنماط هي: "العلم الكلاسيكي" و"العلم الحديث" و"العلم الصناعي".
نفهم إذن أن العلم الكلاسيكي يعني عنده العلم العربي بالدرجة الأولى، ويؤكد رشدي راشد أن العلم الكلاسيكي نشأ بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر في البلاد العربية الاسلامية وامتد إلى النصف الأول من القرن السابع عشر. يقول: "هذه العقلانية الجديدة التي نقول عنها اختصاراً أنها جبرية وتجريبية تميز الحداثة الكلاسيكية، تأسست في الفترة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر على يد علماء عاشوا في بقاع متباعدة، من إسبانيا المسلمة حتى الصين، وكتبوا جميعا بالعربية. وكما يبين تاريخ انتقال المعارف بين مناطق وضفاف البحر المتوسط، انتشرت هذه العقلانية الجديدة في أرجاء بلاد الاسلام وفي المناطق المجاورة وترجمت بعض أهم منتجاتها العلمية إلى اللاتينية، وهناك أثرت في نهضة العلم والمعرفة وظهرت ابتداءاً من القرن السادس عشر نسخة منقحة منها. لذا يبدو أنه لفهم حقيقة الحداثة الكلاسيكية فعلينا أن نبتعد عن تقسيم الزمن إلى عصور أو حقب بالأسلوب الدارج لدى المؤرخين، وكأن هناك صلات سببية بين أحداث تاريخ النهضة الأوربية السياسية والدينية والثقافية وأحداث العلم."
إن اعتبار العلم العربي علماً كلاسيكياً يرمي إلى إعادة الاعتبار إليه بعد طول تجاهل، لكي يوضع في خلفية العلم الحديث ويُربَط به ربطاً وثيقاً. وعلى هذا الأساس، يؤكد الأستاذ راشد أن أي كتاب في تاريخ العلوم يصدر في الغرب لن يكون بامكانه نسيان العلم العربي أو تجاهله، ولن يصف "القرون الوسطى" بالظلامية إلا عند حصرها بمناطق محددة من القارة الأوربية، ولن يمكنه وصف "عصر النهضة" بعصر انبعاث العلم. وفي هذا السياق، لا تبقى الفسحة الزمنية بين أبولونيوس وديكارت فارغة بل ستزينها أسماء رواد العلم العربي؛ وتلك التي تفصل أقليدس عن كيبلر وديكارت في علم المناظر ستحتلها أسماء الكندي وابن سهل وابن الهيثم، وقس على ذلك في شتى المجالات العلمية.
ففي أغلب المؤلفات عن العلم الكلاسيكي ظهر علم النصف الأول من القرن السابع عشر في صورة غريبة. فجمهرة المؤرخين يجهلون العلم العربي والعربية، ومن ثم بدا هذا العلم ثورياً من البداية إلى النهاية وفي كل بقاعه على السواء، وأُخِذ على أنه المرجع المطلق الذي تقاس به وعليه مواقع وأماكن من سبقه من التقاليد العلمية، ومن ثم بدا متسامياً مستعلياً بدون تاريخ، وكأنه ثورة جذرية تمحي كل التقاليد السابقة. لم يكن ممكناً صياغة هذا التسامي وهذا التعالي المطلق لعلم القرن السابع عشر إلا في غياب المعرفة الصحيحة بأعمال مدرسة مراغة وما سبقها في علم الهيئة ومؤلفات الخيام وشرف الدين الطوسي في الجبر والهندسة الجبرية وكتابات بني موسى وثابت بن قرة وابن سنان والقوهي وابن سهل وابن الهيثم في التحليل الرياضي، وكذلك رسائل ابن سهل وابن الهيثم في المناظر. لذلك كان من الطبيعي والمتوقع أن يحفر هذا التعالي والتسامي ثغرة واسعة بين علم القرن السابع عشر والعلم العربي مسخت سمات كليهما وطمست معالمهما.
هذه هي الأسباب التي أخفت العلم العربي، وخاصة سمته الكبرى أي عالميَّتُه. غير أن إعادة هذه السمة إلى مكانها وإعادة الاعتبار إلى العلم العربي ليس من شأنهما النيل من مكانة كيبلر وما أتى به من جديد في علم الفلك، ولا من مكانة ديكارت وما طوّره في الهندسة الجبرية، ولا من مكانة جاليليو وثورته في علم الحركة، ولا من مكانة فيرما ومنهجه الجديد في نظرية الأعداد. بل على عكس ذلك تماماً، إن تصحيح الصورة والإلمام بالمادة يساعدنا على تحديد موضع الجديد في كل حال بمزيد من الدقة، و يقودنا إصلاح الصورة والإلمام بالمادة إلى استيعاب أعمق للنتائج العلمية التي أتى بها علماء القرن السابع عشر ومن سبقوهم.
لائحة لأهم مؤلفات رشدي راشد
البريد الالكتروني للكاتب: abattouy.mohammed@gmail.com
الكلمات المفتاحية