﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ سورة الإسراء ، الآية 1.
وسُبحانه الذي أسرى بنخبة من علماء حملوا إلى فلسطين المحتلة "النانوتكنولوجيا" التي تغير كل العلوم. أميركيون، ونمساويون، وألمان، وبلجيكيون، وفرنسيون، وصينيون، وأوكرانيون، وإيرانيون، وأتراك، وعراقيون، وأردنيون، وفلسطينيون شاركوا في أول مؤتمر فلسطيني دولي للنانوتكنولوجيا وعلوم المادة والمعدات المتقدمة. عَقَدَ المؤتمر السيّار جلساته على مدى ثلاثة أيام بين جامعتي "النجاح" في نابلس و"جامعة فلسطين التقنية" في طولكرم، وسيَّرَتْ بحوثه بين علوم وهندسة الطب والبيئة والماء والزراعة والاتصالات والطاقة والمعلومات والثقافة والتربية والتعليم والمال والبيزنس، وإلى ما وراء الطبيعة، لأن كل مادة موجودة في العالم، وما لم توجد بعد تتكون من النانو. والنانو واحد من مليار من المتر، والنانومتر واحد من المليون من الملمتر، وسماكة شعرة الإنسان تبلغ 80 ألف نانومتر.
وسيتذكر يوماً ما تاريخ العلوم أن أول حرف خطّته تقنية النانو بالذرات، و رسمت حوله القلب هو الحرف الأول من اسم فلسطين. خطّ ذلك العالم الفلسطيني منير نايفة، الذي بادر إلى عقد المؤتمر، و هو أول من حرك الذرات المنفردة و أعاد ترتيبها، و أسس بذلك النانوتكنولوجيا. وما بدا ألعاب عندما زرته في تسعينيات القرن الماضي في مختبره بجامعة "إيلينوي" في أربانا شامبين بالولايات المتحدة أصبح برامج استراتيجية لمعظم البلدان، بما فيها بلدان عربية، وتجاوزت أسواقه التريليون دولار. وتعمل تقنية النانو عندما نحرك ما بين 10 و30 ذرة من المادة، و ندمجها بواسطة الموجات فوق الصوتية في مواد كاللدائن أو الخزف فتصبح قوية كالفولاذ و خفيفة كالقطن، و نستخدمها في إنتاج جوّالات، و حواسيب تُطوى كالورق و توضع في الجيب، أو نبني بها هياكل طائرات أقل مرات عدة في الوزن و استهلاك الوقود من الطائرات الحالية، أو أساطيل بواخر أقل حجماً من البعوض، أو سفن إسعاف نانوية تُحقن في الجسم، وتسري مع الدم لإزالة خثرات دموية تسبب الجلطات، أو تمسح أوراماً خبيثة تسبب السرطان.
وانعقاد مؤتمر النانو في فلسطين دليل على أن جميع الفلسطينيين يدخلون الجنة. وهذه نكتة، إلا أن العالم الأميركي الذي رواها يعتقد بقوة أن الفلسطينيين يستحقون ذلك، ليس لأنهم تعذبوا كالمسيح، بل لأن كل فلسطيني تُكتب عليه النار يتدبَّر أمره لتحويل مساره في نهاية المطاف! و إلا من يضع برنامجاً لتحويل بلد محتل مقطع الأوصال إلى سنغافوره؟ "نحن لا نملك إمكانيات، و لا طرقاً، و لا مياهاً، و لا حدوداً، و نستثمر ما نستطيع في التكنولوجيا المتقدمة التي تجعلنا سنغافورة أو هونج كونج"، قال ذلك مُعدُّ ورقة عمل إنشاء "مركز التميز للنانوتكنولوجي" حكمت هلال، أستاذ الفيزياء في "جامعة النجاح".
كيف سيدبر ذلك علماء فلسطين الذين يتبادلون مواد تجاربهم المختبرية في جيوبهم، لعدم توافر وسائل النقل بينهم؟ لا أحد في المؤتمر يعرف الجواب، لكنهم يعرفون جميعاً أن من يريد نصح علماء فلسطين بأن لا يعيدوا اختراع العجلة عليه أن لا يخترع العجلة في العمل معهم. ويصعب أن لا تصدق علماءً حوّلوا "معهد فلسطين الزراعي" الذي أوصى له بماله المليونير العراقي اليهودي خضوري عام 1930 إلى "جامعة فلسطين التقنية"، و حصلت هذه الجامعة التقنية الحكومية الوحيدة في فلسطين على دعم أحفاد خضوري الذين يشرفون على وصيته في لندن لإنشاء البنايات الجديدة للجامعة.
والربيع العربي المقيم دائماً في فلسطين فتح جلسات المؤتمر لمساهمة الطلاب، ليس فقط كمرافقين و أدلاء كما في المؤتمرات العلمية الدولية في المنطقة، بل كمشاركين و مناقشين. و لو لم تكن جميع الأوراق و المداخلات بالإنجليزية فقط بل بالعربية أيضاً لبَلَغ العلماء الأجانب مضمون الرسائل التي كانت تومض بها عيون صبايا وصبيان الجامعتين. و قد بلغت الرسائل علماء عرب أميركيين أعلنوا تبنيهم 12 طالبة وطالب دراسات عليا، و تأمين مقاعد و منح دراسية لهم في جامعات النخبة العالمية.
"لا تأسف على ما فات لطالما تآمرت الكلاب على الأسود، لكن الأسود بقيت أسوداً والكلاب كلاباً". مشهد لا يُصدَّقْ! هذه العبارة مخطوطة بحروف كبيرة على جانب سيارة "بيكاب" صغيرة بيضاء واقفة في نقطة التفتيش الإسرائيلية في مدخل مدينة القدس. المجندة الإسرائيلية التي تقوم بالتفتيش تتدلى من كتفها رشاشة حتى أسفل ردفها، و سائق السيارة الفلسطيني مشدود القامة كشجرة زيتون فتية قد تلويها الرياح لكن لا تكسرها. و في الحمام التركي في المدينة القديمة بنابلس عرفتُ الجواب لسؤال حيّرني منذ قبلت دعوة مؤتمر في فلسطين.
والحمام التركي سرداب في مدخله العلوي مقهى تزين جداره رايتا فلسطين و تركيا، حملتا العالم التركي بولند آيدوغان لاقتناء مناشف و النزول إلى السرداب للاستحمام، وفكرت بأنني سأندم لعدم الانضمام إليه، لكني كنت سأندم حقاً لو تبعته و فاتتني فرصة لقاء المهندس محمود توفيق نايفة، مدير دائرة اجتماعات مجلس وزراء السلطة الفلسطينية، الذي مرّ للسلام على أبناء عمومته علماء نايفة. وحاولت أن أفسّر له ولنفسي حيرتي من قرار المجيء مستعيناً بقول العالم الفرنسي باسكال "للقلب أسباب لا يدركها العقل". و بدلاً من المحاضرة الحماسية المتوقعة من ممثل سلطة رسمية عربية، قال المهندس الشاب: "نحن سجناء، وهل هناك سبب أعز من زيارة الأهل لسجينهم"؟ وخجلت لألمي من مشاعر المهانة عندما استوقفني حرس الحدود الإسرائيلون نحو ساعتين للحصول على تصريح الدخول من معبر الحسين في الأردن إلى ما يفترض أنه دولة فلسطين.
ولم تَلْق النانوتكنولوجيا في أي مكان استقبالاً طروباً كما في "جامعة النجاح" حيث أنشد لها طلبة "كلية الفنون الجميلة" نشيد "موطني" للشاعر النابلسي إبراهيم طوقان، وعزفوا موسيقى أغنية فيروز "أكتب اسمك يا حبيبي بالحور العتيق". وأجمل نشيد سمعته في حياتي كان في مدرسة قرية شويكة في طولكرم حيث حمل منير نايفة، و عميد كلية العلوم في جامعة النجاح سليمان الخليل لطالباتها المتميزات بالعلوم هدايا و شهادات بأسمائهن. "يا ظلام السجن خيٍّمْ، إننا نهوى الظلاما، ليس بعد الليل إلاّ فجر مجدٍ يتسامى". أنشدت ذلك صبية عمرها عشر سنوات اعتصر القلب صوتها و جمالها الآسرين. اسمها مَرَحْ كمال نعالوه، و شجى فلسطين المروِّع في أدائها أخذنا إلى أغوار في النفس لم نبلغها من قبل، و قد تماسكتُ للشجا لحظتها بمراسيم المناداة على أسماء الفائزات، و تصفيق العلماء، و بهجة الصبايا، و عدسات التصوير، و حبات لوز القرية الأخضر التي حملنها لنا، و لم يتداع قلبي بالنشيج إلا الآن، إذ أستعيد ما حدث، وأسمع شدو مَرَح "يا رنين القيد زدني نغمة تشجي فؤادي".
المصدر: جريدة الإتحاد