تقع معظم أرجاء وطننا العربي ضمن أشد مناطق العالم شحاً للمياه، هذا واقع، ومن المعلوم أن المناخ الذي يسود منطقتنا العربية اليوم هو نفسه على الأقل منذ حوالي عشرة آلاف سنة. و معلوم أيضاً أن العديد من الحضارات نشأت وتطورت على هذه الأرض. والماء هو شريان الحياة وأساس الحضارة. فكيف استطاع أجدادنا حل مشكلة المياه في هذه المنطقة؟ بل وينشأوا الحضارات العظيمة عليها؟
تستحق التأمل !
لم تقم الحضارات في هذه المنطقة فقط على جانبي الأنهار، بل نجد حضارات قامت في مناطق صحراوية قاحلة أو تندر فيها المياه معظم أيام السنة. فعلى سبيل المثال، استطاع العرب الأنباط، أن يبتكروا هندسة وأساليب لتجميع وإدارة المياه، آثارها شاهدة وباقية حتى اليوم في عاصمتهم البتراء. حتى أنهم استطاعوا أن يستفيدوا من مياه الرطوبة في الجو في ري بعض النباتات.
في هذه المنطقة تم اختراع و تشييد أول السدود وحفرت بل نحتت قنوات بين الجبال لتوصيل المياه و نقلها من مكان تتوفر فيه إلى أماكن تشح فيها و بنيت الخزانات في الجبال وشيدت شبكات توزيع المياه، كل هذا في اليمن حيث لا يوجد نهر دائم، ومن لا يعرف حضارات اليمن و جنوب شبه الجزيرة العربية؟، ما بال اليمن اليوم يشكو العطش؟ وكذلك الحال في العديد من المناطق في المغرب العربي وشبه الجزيرة العربية، حيث شقت وبنيت الأفلاج و الفكارات والخطارات لنقل المياه و إدارتها. أما الشام وبلاد الرافدين عافاهما الله من كل سوء، فحدث ولا حرج، حيث اكتشفت الزراعة و نشأت الحضارة. وقد أبدعت الحضارة الإسلامية أساليب و مآثر مائية تشهد عليها آثارها في مشارق الأرض و مغاربها. ومن المؤكد أن أياً من تلك الحضارات لم يطلب من شركة أجنبية تأتي لتحل مشكلة المياه لديهم.
لم تكن لتلك الحلول أن تأتي من فراغ، و لم تكن نتاج باحث يقبع في مختبره، و لكنها إرادة أمة تريد الحياة، من المؤكد أن بناء سد مأرب أو حفر شبكات في الجبال الصخرية لم يكن عمل فردي، بل هو عمل جماعي بامتياز، توفر له القيادة "الحكيمة" بنفوذها و قدراتها كل الإمكانيات و من أهمها المال اللازم، و يتعاون في هذا العمل آلاف البشر من أبناء تلك الأرض كل في مجال اختصاصه و علمه و جهده. وقبل العمل، يتطلب الأمر معرفة عميقة بكل الظروف الجغرافية و المناخية و الاجتماعية، و توضع الخطط المتكاملة، توضع خطط من قِبل أهل الأرض الذين يحملون في قلوبهم الحب الكبير لأمتهم و التحدي من أجل امتلاك أسباب الحياة و القوة و النصر على الأعداء.
إذن، الاعتماد على الذات والثقة بالنفس وحمل همّ المشروع الحضاري لهذه الأمة أساس لابد منه لنجاح أي مشروع يتعلق بالمياه أو غيرها. تقع الدول العربية في منطقة واحدة تشترك في الكثير من الظروف والمناخية والجيولوجية والمياه السطحية والجوفية، و من المؤكد أن الكثير من المشاريع المائية لابد أن تكون مشتركة بين أكثر من دولة عربية. وبالمقابل، إن مشاكل المياه تتنوع من منطقة لأخرى، لذا لابد من التركيز على المشكلة وابتكار الحل المناسب.
شح المياه، أو نقص المياه الصالحة للشرب يمكن النظر إليه من جهتين: الأولى المحافظة على الموجود و الثانية توفير المفقود. أما ما يتعلق بالمحافظة على الموجود، فيدخل ضمنه تقليل الهدر بكافة أنواعه: الهدر الناشئ عن التسريب في شبكات توزيع المياه و الخزانات و نقل المياه، فيقدر هذا النوع من الهدر في بعض الدول العربية بحوالي 57% من المياه النقية كما في العراق و قريبا منها في الجزائر حسب احصائيات البنك الدولي 2010، وهي نسبة عالية جداً لسلعة غالية جداً، ومعالجة هذا الأمر ليست مستحيلة فقد استطاعت سنغافورة، على سبيل المثال، من الوصول إلى نسبة تسريب في شبكاتها تصل حوالي 5% فقط. www.ib-net.org
باقي الدول العربية لا توجد لها بيانات، وهذه عقبة أخرى هامة في طريق إيجاد الحلول، فأهمية توفير المعلومات لا تخفى عليك
- الهدر الناشئ عن استخدام المياه العذبة الصالحة للشرب في استعمالات يمكن الاكتفاء فيها بمياه أقل جودة، مثل تلك التي يعاد تدويرها، من هذه الاستعمالات: الزراعة و الصناعة و تنظيف البنايات و السيارات و الشوارع غيرها
- الهدر الناشئ من استنزاف المياه الجوفية في ري المزارع بالطرق التقليدية، و عدم استعمال طرق الري بالتنقيط و تحت الصوب أو الزراعة بدون تربة في شبكات مغلقة، مثلاً. فمن المعلوم أن أكبر استخدام للمياه هو للزراعة و عليه فإن الاقتصاد في مياه الري يعني توفير كمية كبيرة من المياه المهدورة
- الهدر الناشئ عن عدم الاستفادة من مياه الأمطار و تركها ليضيع معظمها بين البحر و التبخر
- الهدر الناشئ عن اسراف المستخدمين في الاستخدام الشخصي
- و معالجة هذا الهدر سوف يوفر الكثير من المياه و الأموال المهدرة، و يحسن نوعية الحياة في الكثير من مجتمعاتنا العربية
أما ما يتعلق بتوفير المفقود، فتدخل فيه
- تحلية مياه البحر
- و تنقية المياه الملوثة
- إعادة استخدام المياه المستعملة،
- إعادة شحن الخزانات الأرضية من المياه الجوفية.
- البحث عن مصادر جديدة للمياه.
وهذا وذاك يتطلب التعاون والتكامل ويوفر الهدر في امكانياتنا البشرية من المهندسين و الباحثين و العاملين في كل هذه القطاعات.
الإمكانيات التي نملكها
نشر الباحثون العرب خلال الخمسة عشر عاماً الماضية منذ 2000 إلى الآن حوالي 4600 ورقة حول مصادر المياه، و حوالي 1300 ورقة عن الهيدرولوجيا و المياه الجوفية و حوالي 1200 ورقة عن تحلية المياه.. وأوراق أخرى كثيرة في مجالات متعددة تدور حول المياه و تنقيتها و تجميعها و إعادة شحن الخزانات الأرضية و حمايتها. وهذا يعني أعداد كبيرة من الباحثين، و هم أقل بكثير من العدد الفعلي الذي يعمل في مؤسسات غير أكاديمية و لا ينشر بحوث تتعلق بالمياه في مجلات علمية متخصصة، أو أولئك الذين يعملون في خارج الوطن العربي، و من هؤلاء وأولئك كفاءات عالية المستوى.
افتتحت مراكز بحثية للمياه والاستشعار عن بعد في العديد من الجامعات العربية، وعقدت مؤتمرات و ورش عمل حول المياه و شؤونها في مختلف أنحاء الوطن العربي كما تأسست مؤسسات عامة و خاصة كلها تبحث في واقع المياه و شحها و تلوثها في الوطن العربي، واستطاعت العديد من الدول العربية أن تتقدم في العديد من هذه المجالات و تقوم بمشاريع ناجحة و لدى العديد من الدول العربية إمكانيات كبيرة و استخدام للتقنيات المتقدمة في تكنولوجيا الفضاء و المسح الأرضي و الجيولوحي و الهيدروجيولوجي. كما أن لدينا الكثير من الخرائط و المعلومات و لدينا الكثير من الباحثين و العلماء في معظم جامعاتنا و مراكز البحوث، كل هذا بالإضافة إلى البيانات و التقارير الأممية عن الوضع المائي في بلداننا.
فلماذا ما زلنا نعاني من أزمات متنوعة في المياه؟ بل و تسير للأسوأ في عدد من بلادنا، فما هو السبب؟ و كيف أننا لا نستفيد من كل هذه الإمكانيات؟ إن ما ينقصنا فعلاً، هو سياسة علمية تُبنى على الاعتماد على الذات و توظيف كل القدرات والإمكانيات الذاتية، وعلى التكامل و التعاون المؤسسي الممنهج. ويجب أن تتوفر لدينا القناعة و صدق التوجه لذلك. فمن البديهي و المعروف أن الأمم لا تنهض إلا بذاتها. وإن التعاون والتكامل و تبادل الخبرات والمعلومات أثره أوضح من أن يوضح أو يشرح.
- يلزمنا معرفة ما نملك و ما ينقصنا و أين؟ يلزمنا أن نبني قواعد بيانات نفتقر إليها الآن، تضم كل المعلومات والخرائط المتعلقة بالمياه من واقع و مشاكل و حلول تم تجريبها ومدى نجاعتها، من الإمكانيات البشرية والمادية، الأجهزة والتقنيات المتوفرة في بعض الدول العربية و كل شيء..
- هذه الثروة البشرية العلمية والتي تكلفت الدول العربية مبالغ كبيرة لتكوينها، لابد من تفعيلها و تطويرها والاستفادة منها، المتخصصة التي توفر الأساس لتفعيل هذا المجتمع العلمي و تطويره والتي تقوم بأعمال هامة من أجل ذلك، منها على سبيل المثال:
- بناء قواعد بيانات عن الباحثين العرب و المختبرات التي تعمل في المجال و امكانياتها و مشاريعها.
- عقد ورش عمل و مؤتمرات متخصصة بين العلماء لتبادل الخبرات.
- بناء شبكات تواصل افتراضية و حقيقية بين الباحثين.
- إصدار مجلات و كتب و تقارير سنوية.
- تقوم بعمل جهة استشارية معترف بها للمشاريع المتعلقة بالمياه في الوطن العربي.
الخلاصة
إن تحقيق الأمن المائي هو هدف أساسي واستراتيجي للوطن العربي. وامتلاك المعرفة والقدرة على تحويلها إلى نواتج مفيدة تحقق ذلك الأمن هو أمر ترتقي أهميته إلى أهمية الحياة أو الموت، بل هو أساس للبقاء والسيادة ورفض التبعية والخروج من الفقر والعيش بكرامة. ومن أجل تطور المعرفة و انتاجها و نشرها وتطبيقها، هناك الكثير من العوامل والمؤسسات والقوانين والخدمات التي تمثل منظومة معقدة عليها أن توفر بيئة تمكينية للباحث العلمي الذي هو مركز عملية التطور هذه وذلك من أجل تطور المعرفة لتكون مفيدة، يجب التعلم من الآخرين و تعلم انجازاتهم في حينها و امتلاك القدرة على فهمها و استخدامها. من هنا فإن التشارك والتعاون بين العلميين هما في غاية الأهمية. ويتحقق ذلك بتوفير حرية الالتقاء والتجمع وتشكيل الجمعيات العلمية والسفر من أجل حضور المؤتمرات والمشاركة فيها و توفير الموارد الاقتصادية للسفر. إذن، لابد من إرادة صادقة للحياة الكريمة، وإعداد العدة لها، بالتخطيط و العمل المشترك، يقول عز من قائل: (و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)، فإن أردنا الخروج من هذه الحالة التي نعيشها، فلابد من إعداد العدة.
تواصل مع الكاتب: mmr@arsco.org
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة