مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

السياحة الأدبية .. سفر النخبة المثقفة

الكاتب

الكاتب : أ. د. احمد بن حامد الغامدي

قسم الكيمياء – جامعة الملك سعود – الرياض

الوقت

01:27 صباحًا

تاريخ النشر

17, أغسطس 2017

بمناسبة مرور 200 عام على وفاة الأديبة البريطانية الكبيرة جين أوستن سنة 1817م يسر شركة رحلات ألبيون Albion Journeys الإعلان عن تنظيمها لبرنامجها السياحي الثقافي الخاص بالاحتفال بجين أوستن Celebrating Jane Austen. العرض يشمل الإقامة لمدة ست ليالٍ في فندق ريفي فخم ورحلات سياحية يومية للأماكن التي شهدت ولادة ونشأة الكاتبة الكبيرة والقرى والقصور والمناظر الطبيعية التي ألهمتها العديد من رواياتها الخالدة، كل هذا بقيمة 2590 دولار للفرد الواحد.

ما سبق هو إعلان تجاري حقيقي يمثل عينه فقط للعديد من البرامج السياحية التي تقام في العديد من الدول الأوربية وتستهدف تقديم خدمة لعشاق الأدب والأدباء وهذا الاعلان يتعلق بأشهر وأهم روائية نسائية في الأدب الآنجليزي حيث أنها مؤلفة الرواية الشهيرة (كبرياء وتحامل pride and prejudice) التي تحولت مرارا لأبرز الافلام السينمائية الرومانسية. وبالمناسبة إذا كان صيف هذا العام 2017 سوف يشهد تنظيم البرامج السياحية للاحتفاء بأهم عنصر نسائي في الأدب الغربي فقد كان بالإمكان العالم الماضي التسجيل في برنامج سياحي مشابه للسفر إلى بريطانيا للمشاركة في احتفالات مرور 400 عام على وفاة أسطورة الأدب الآنجليزي وليم شكسبير.

الثقافة الأدبية يمكن أن تعطيك إضاءة معرفية عن أثر نهر المسيسبي في تشكيل شخصية الأديب البارز مارك توين أهم روائي وكاتب أمريكي في جميع العصور. ولكن لبعض الأشخاص ممن لديهم هوس مفرط بالتعلق بأدب مارك توين لن تكتمل لحظات تمتعهم بقراءة رواية (مغامرات توم سوير) إلا إذا ذهبوا بأنفسهم في رحلة سياحية عبر قارب نهري يمخر عباب المسيسبي من ولاية ميزوري باتجاه مدينة نيو أورليانز في جنوب ولاية لويزيانا كما كان يفعل الشاب مارك توين، ومن ذلك استلهم خواطره الأدبية.

ما سبق ذكره يعتبر نموذج لأقصى أنواع (السياحة الأدبية) نخبوية ثقافية وهو أن تزور بعض الأماكن والمواقع التي أوحت للأديب والكاتب ببعض انتاجه الروائي أو الشعري. فمثلا، بعض العشاق المغرمين بالروائية البريطانية تشارلوت برونتي يتجشمون مشاق المسير إلى موقع شلالات مقاطعة يوركشاير حيث أُلهمت تشارلوت تأليف رواية (جين أير). في حين أن البعض ربما لن يستوعب تماما أبعاد ورمزية رواية (البؤساء) للأديب الفرنسي المعروف فيكتور هوغو إلا بعد أن يزور سجن الباستيل الفظيع في قلب العاصمة الفرنسية باريس.

في محيطنا العربي ربما نجد من يتباهى بأنه لم يقرأ رواية (زقاق المدق) أو رواية (خان الخليلي) إلا في مقهى الفيشاوي الذي كان يتردد عليه الأديب الكبير نجيب محفوظ في قلب القاهرة الفاطمية حيث استخلص من قلب تلك المناطق الشعبية العتيقة بعض شخصياته المشهورة. فحسب شهادة الكاتب المصري المعروف جمال الغيطاني في برنامجه الفضائي تجليات مصرية، فإن الموقع الفعلي (لزقاق المدق) موجود بالفعل في حي الجمالية بالقاهرة ليس هذا فقط بل يزعم الغيطاني أن شخصية (عم كامل بائع البسبوسة) في الرواية مبنية على شخصية حقيقة وما زال أحفاده يقيمون في نفس المكان حتى الآن. وقديما قيل الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهل يصح أن نقول إن تذوق العمل الأدبي فرع من العيش في أكنافه.

وإذا عدنا إلى تاريخنا العربي القديم ألا يجدر بنا نحن جيل اليوم أن (نقف على الأطلال) كما كان يفعل الرعيل الأول من فحول الشعراء، فمثلا (للتذوق الأدبي) لشعر النسيب والغزل الجاهلي لعل من الملائم الوقف عند صخرة عنترة في محافظة عيون الجواء حيث كان يربط عنترة بها ناقته عندما يجلس مع محبوبته في ظل تلك الصخرة الشهيرة ولعلها هي (محبس الناقة) التي عناها عنترة في أبياته المشهورة:

ولقد حبستُ بها طويـلا ناقتي    ***    أشكــو إلى سُفـــــعٍ رواكــد جثَمِ

يـا دار عبلــة بالجــواء تكلمـي   ***   وعِمي صباحا دار عبلة واسلمي

ما سبق كان نماذج لبعض مظاهر السياحة الأدبية ذات الطابع النخبوي التأملي لكن في المقابل قد يوجد بعض (سياح الثقافة) الذين لا يقنعون إلا بزيارة أماكن ذات واقع ملموس وحقيقي يضمن لهم نقش ذكريات فعلية محسوسة مع أديبهم أو شاعرهم المفضل. ومن أوضح الامثلة في هذا الشأن زيارة المتاحف الخاصة ببعض الأدباء وهي في الغالب قد تكون المنزل الذي ولد أو عاش أو توفي فيه الأديب المشهور، مثل زيارة منزل (متحف) شكسيبر في مدينة سترادفورد الإنجليزية أو الاطلاع على الصالون الأدبي لعباس مصطفى العقاد في منزله في حي مصر الجديدة. في حين أن زيارة متحف تشارلز ديكنز في لندن ومشاهدة المكتب الذي ألف عليه رواية (قصة مدينتين) سوف يكون أمرا غاية في البهجة الفكرية لأهل الهوى الروائي، خصوصا إذا علمنا بأن القائمين على متحفه حصلوا على منحة مالية استثنائية بمبلغ (1.2 مليون دولار) من الحكومة البريطانية لشراء ذلك المكتب وإضافته لمقتنيات المتحف. إن الاطلاع على المقتنيات الشخصية لبعض الأدباء أمر يثير الفضول كما قد يثير الدهشة. من ذلك مثلا، أن الزائر للمكتبة الشخصية لأمير الشعراء أحمد شوقي في قصره (المتحف حاليا) على كورنيش النيل بالجيزة سوف يصاب بالحيرة لأن مكتبة أكثر الأدباء ثقافة سياسية وتاريخية وفكرية مكونة فقط من حوالي ثلاثمائة كتاب لا غير. الغريب في الأمر أن متحف طه حسين الذي لا يبعد عن متحف أحمد شوقي بأكثر من عدة كيلومترات بامتداد شارع الهرم يحتوي ذلك المنزل الفخم على مكتبة كبيرة تصل إلى حوالي سبعة آلاف كتاب علما بأن طه حسين الكفيف كان يعتمد على غيره ليقرأ له كتبه المتنوعة بكل اللغات، فشتان ما بين الأديبين طه وشوقي في الندى المكتبي ما بين مقل ومستكثر.

عادة الوقوف على الأطلال في دنيا الأدب قد تقود البعض لزيارة قبور مشاهير الأدباء والشعراء فبزيارة واحدة لمبنى البانثيون المهيب في باريس (مقبرة العظماء) يمكنك مشاهدة قبور كبار رجالات الأدب الفرنسي مثل فولتير وفكتور هوغو وأميل زولا والكسندر ديماس. أغلبنا يطرب للشعر العربي الفصيح لكن أعتقد أن قراءة (شواهد القبور الشعرية) وهي الأبيات الشعرية المكتوبة على قبور الشعراء سوف تكون تجربة أدبية تخلد في الذاكرة. فمثلا، يمكن أن تقرأ بيت الشعر المشهور الذي أوصى أبي العلاء المعري أن يكتب على قبره أو تقرأ مطلع القصيدة الرنانة (يا دجلة الخير) على شاهد قبر الشاعر العراقي البارز محمد مهدي الجواهري المدفون في مدينة دمشق في حين أن شاهد قبر أحمد شوقي تم نقش أبيات قصيدته السينية المشهورة عليه ربما من وجهة نظري لورود هذا البيت فيها:

وسَلا مِصرَ هل سَلا القلب عنها    ***    أو أسَا جُرحهُ الزمان المُؤسي

بينما أبرز وأهم قصيدة يمكن أن تقرأها في هذا السياق هي الأبيات الشعرية التي نظمها الشاعر والملك المنكوب المعتمد بن عباد وأوصى أن توضع على قبره وهي معلقة حاليا على جدار ضريحه في مدينة أغمات المغربية ومطلع قصيدة الرثاء الذاتي هذه هي:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي   ***   حقاً ظفرت بأشلاء ابن عبادِ

في معية الأدباء ورفقة الشعراء

لبعض عشاق الأدب وذوي الهيام بالشعر والشعراء، ربما لا تكتمل النشوة الثقافية إلا بالأنس المباشر والالتقاء الفعلي مع الروائي أو الشاعر وبحكم أن (المعية الخاصة) بالجلوس مع كبار ومشاهير الأدباء غالبا لا تتاح إلا لذوي الحظوة والجاه لذا فإن البديل لأصحاب الهوس الثقافي أن يقنعوا (بالمعية العامة) بأن يشتركوا مع بقية الجمهور الأدبي مثلا في حضور أمسية شعرية لأديب مشهور. على سبيل المثال، في منتصف الثمانينات كان من أبرز الأدباء المشاركين في مهرجان المربد الشعري في بغداد الشاعر الكبير نزار قباني. أما لسماع قصائد الشاعر اليمني الفريد عبدالله البردوني فقد كان ضيف محتفى به في مهرجان أبي تمام في الموصل. وللسماع المباشر لقصائد الشاعر البارز محمد مهدي الجواهري فالمقصد المحتمل كان مهرجانات أبي العلاء المعري في دمشق. أما عشاق شعر الحداثة فسوف يجدون بغيتهم في مهرجان مدينة جرش الاردنية الثقافي الذي كثيرا ما تردد عليه الشاعر الفلسطيني المناضل محمود درويش قبل وفاته.

لا شك أن المهرجانات الأدبية والشعرية المنتشرة في أغلب البلدان العربية من مثل مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة ومهرجان سوق عكاظ ومهرجان مراكش الدولي للشعر ومهرجان أصيلة الثقافي بالمغرب ومهرجان القاهرة الأدبي ومهرجان أدنبره الدولي ومهرجان أكسفورد للأدب ومهرجان برلين الدولي للأدب وغيرها كثيرا جدا في مختلف دول العالم، لا شك أن هذه الفعاليات الأدبية تتيح فرصة الجمع بين متعة السياحة ونخبوية الثقافة والفكر.

فرصة ومناسبة إضافية للمعية العامة مع الأديب أو الشاعر كثيرا ما تتم أثناء حفلات تدشين الروايات الأدبية الجديدة والدواوين الشعرية الحديثة حيث يصحبها في الغالب قيام المؤلف بتوقيع النسخ التي يشتريها عشاق الكتب والاعمال الأدبية.

بلا جدال يعتبر الكاتب البرازيلي باولو كويلو (صاحب رواية الخيميائي ذائعة الصيت) أهم وأشهر الروائيين المعاصرين على الاطلاق، وعندما قام بنشر روايته (ساحرة بورتوبيللو) قبل حوالي عشر سنوات اختار أن تكون أول ترجمة لها للغات الاجنبية باللغة العربية، لأن جزء من أحداث الرواية تتم في مدينتي دبي وبيروت. ولهذا قام في عام 2007م بزيارة مدينة دبي بمناسبة حفل إطلاق النسخة العربية من روايته تلك ولذا كانت فرصة ذهبية لعشاق هذا الكاتب المعروف أن يزوروا مدينة دبي للسياحة وكذلك للحصول على صورة سلفي ورواية موقعة من هذا النجم الأدبي البارز. ولكن حذاري، فإن الحصول على نسخة موقعة من مؤلف مشهور في حفلات تدشين الروايات الجديدة ليست مهمة سهلة على الاطلاق فمثلا عند حفلات اطلاق كل عدد جديد من سلسلة روايات ( هاري بوتر ) للكاتبة الروائية البريطانية العجيبة جوان رولينغ كانت تتجمع صفوف بمئات المعجبين أمام المكتبات لكي فقط يحصلوا على نسخة جديدة من الرواية حتى ولو كانت غير موقعة من الروائية المحظوظة.

الغريب في بعض حالات الهوس الأدبي أن القراء قد يتعلقون ويعشقون الشخصيات الخيالية التي يخترعها الأديب من بنات أفكاره وقد يعجبون بهذه الشخصيات الوهمية أكثر من إعجابهم بالروائي الذي اخرجها لدنيا الأدب. على سبيل المثال، عشرات الاف من السياح المترددين على مدينة لندن قد لا يعرفون من هو الأديب آرثر كونان دويل الذي أخترع شخصية المحقق الاسطوري (شارلوك هولمز) بل البعض قد يعتقد أن المحقق شارلوك هولمز هو شخصية حقيقية. ولهذا ومنذ أكثر من مائة عام وزوار مدينة لندن يذهبون لزيارة (البيت الوهمي) للسيد هولمز في مبنى رقم 221 B الواقع شارع بيكر في وسط لندن ولخيبة أملهم لا يجدون إلا بنك مصرفي في نفس الموقع المزعوم. ونتيجة لهذا الهوس السياحي المتكرر عبر الاجيال وافقت أخيرا بلدية لندن منذ عام1990م على افتتاح متحف لشارلوك هولمز علي شارع بيكر (Baker St.) تقريبا في نفس الموقع المزعوم في قصص السير أرثر كونان دويل الذي لا يوجد له هو نفسه أي متحف خاص باسمه في بريطانيا لدرجة أنه قد تم بيع ممتلكاته الخاصة في المزاد العلني وبهذا أصبحت الشخصية (الوهمية) أهم من المؤلف الذي ابتكرها.

وفي واقع الحال فإن السائحين لمدينة باريس أقل حظا من زوار مدينة لندن فبالرغم من أن كاتدرائية نوتردام تعتبر بلا شك من المعالم السياحية البارزة في مدينة باريس إلا أننا قد لا نبالغ أن عدد كبير منهم ربما ما يجذبهم لها هو أنها موقع أحداث رواية (أحدب نوتردام) البالغة الشهرة للروائي الفرنسي الكبير فيكتور هوغو. ولكن بدلا من أن يجد السياح أي أثر لشخصية الاحدب المشوهة كوزيمودو بطل الرواية وهو يقف على تماثيل الجارغول الشهيرة المصممة كمرزاب لتصريف مياه الامطار، بدلا من ذلك فضلت السلطات الدينية الكاثوليكية المتشددة المشرفة على تلك الكنيسة على نصب تمثال خارج الكنيسة للبابا يوحنا بولس الثاني الذي توفي قبل عدة سنوات ووجهة نظرهم أن قداسة المكان لا يمكن تلويثها بترسيخ ارتباط الكنيسة بأحدب مشوه فضلا عن شخصية الراقصة الغجرية أزميرالدا.

من وجهة نظري أن أعجب شخصية أدبية خيالية تفاعل معها الجمهور بشكل غريب هي شخصية السيد (ليوبولد بلوم) في رواية عوليس Ulysses للروائي الأيرلندي المثير للجدل جيمس جويس. منذ صدورها قبل قرن من الزمن عدّت هذه الرواية من أهم الأعمال الأدبية الحداثية في القرن العشرين وهي رواية مفرطة في الطول ومع ذلك تدور أحداثها في يوم واحد فقط هو بالتحديد يوم 16 يونيو 1904ميلادي. الغريب في الأمر أن الاف المعجبين بالروائي جيمس جويس يحتفلون سنويا ببطل الرواية فيما يسمى (يوم بلوم Bloomsday) حيث يقومون كل سنة في يوم 16 يونيو بتتبع خط سير السيد بلوم عبر مدينة دبلن الأيرلندية كما ورد في الرواية حيث يبدؤون يومهم بالمرور بالقلعة ثم مكتب البريد ثم الصيدلية ثم المقبرة ثم الفندق ثم الخمارة ثم مستشفى الولادة ثم يختتمون أمسيتهم كما ورد في الرواية ببيت الدعارة، وفعلا للناس فيما يعشقون مذاهبُ.

مزج السياحة الدينية بالسياحة الأدبية .. هل تتعدد النية

انتشر في السنوات الاخيرة مفهوم السياحة الدينية وبفرض صحة إطلاق هذا التوصيف هل يمكن أن تتعدد الدوافع السفر لتشمل أكثر من هدف وبهذا قد يسوغ أن يحمل الحاج أو المعتمر المهتم بثقافة المشاعر المقدسة كتاب (الحج في الأدب العربي) للكاتب المعروف عبدالعزيز الرفاعي. وبما أن الحج رحلة دينية فقد كُتب الكثير قديما وحديثا في مجال (أدب الرحلات الحجازية) ولعل اشهرها حاليا روائع: (في منزل الوحي) لمحمد حسين هيكل أو (الطريق إلى مكة) لمحمد أسد أو (الطريق إلى الكعبة) لمصطفى محمود. والغريب في الأمر أن أسماء مواضع وأفعال المناسك مبثوثة في بعض أشعار الغزل الأموي لبعض شعراء اللهو من مثل عمر بن ابي ربيعة والعرجي وعبدالله بن قيس الرقيات، ولكن هذا بالقطع سوف يدخل في نطاق الرفث في الحج.

من الزيارات ذات الطابع الديني، وإن كانت محرمة في شرعنا، زيارة التبرك بالقبور والمشاهد والأضرحة وهنا تتضح حالة التمازج بين السياحة الدينية والسياحة الأدبية في أعجب صورها. منذ عقود قريبة فقط أخذ يتنامى لدى شرائح من الشعب العراقي أن قبر المتنبي المزعوم وجوده في محافظة واسط شمال مدينة بغداد أن له نوع قدسية وأن لصاحب القبر كرامات ولهذا يقصده الجهلة بغرض طلب الشفاء وتقديم النذور والتوسل بمقام صاحب القبر الأديب في تحقيق الحاجات. وإذا كان قبر المتنبي حديث عهد بالشرك والخزعبلات فإن قبر ومزار (مولانا رومي) في مدينة قونية التركية لجلال الدين الرومي يعتبر منذ مئات السنين مهوى أفئدة أهل التصوف. وبهذا أصبح أحد أشهر شعراء الاسلام هو عينه أحد أقطاب الصوفية الكبار الذي يزور ضريحه عشرات الآلاف سنويا يتقاطرون عليه من كل بقاع الدنيا بل حتى ومن غير المسلمين فلجلال الدين الرومي كما لعمر الخيام انتشار طاغٍ في الغرب. نفس المشهد يتكرر في جانب التصوف الشيعي حيث نجد أن قبر أهم شاعر فارسي على الاطلاق وهو سعدي الشيرازي يعتبر في نفس الوقت مزار ديني مشهود. وكذلك نجد مزارات دينية فارسية أخرى عند قبر الشاعر حافظ الشيرازي وقبر الشاعر الفردوسي في مدينة طوس الايرانية.

بقي أن نقول أنه كما شهد الأدب العربي اهتمام بالغ بتنوع الاعمال الأدبية المتعلقة (بأدب الرحلات الدينية والحج) فتقريبا نجد نفس الظاهرة عند العديد من الأدباء والمثقفين من الحجاج المسيحيين الذين حرصوا أن يوثقوا بأسلوب أدبي رفيع اخبار وأحداث رحلاتهم الدينية. وأعرق وأهم الاعمال الروائية في الأدب الغربي في هذا النسق هي تلك المجموعة القصصية المسماة (حكايات كانتربري) التي ظهرت في القرن الرابع عشر من تأليف الأديب الإنجليزي جيوفري تشوسر وتدور حول القصص والأحداث العجيبة التي تحدث لعدد من الحجاج (السائحين دينيا) إلى ضريح القديس توماس في كاتدرائية كانتربري شرق انجلترا.

سبق وان ذكرنا أن الروائي البرازيلي باولو كويلو هو حاليا أشهر أديب عالمي على الاطلاق لكنه في بداية مسيرته الأدبية ظل لمدة جاوزت العشر السنوات وهو كاتب مغمور تماما حتى نشر في عام 1987م أول رواياته الطنانة وهي (حاج كومبستيلا)، وهي رواية تدور أحداثها في شمال إسبانيا حيث يسافر سنويا عشرات الآلاف من الحجاج بعضهم على الأقدام قاصدين كاتدرائية سانتياغو دي كومبيستلا حيث يزعم أن أحد حواري وتلاميذ المسيح عليه السلام مدفون فيها. ولهذا تعتبر تلك الكنيسة مقصدا ومزارا للحجاج الكاثوليك عبر طريق القديس مار يعقوب، في حين أن آلاف من (السياح الاوروبيين) يقصدون نفس المكان بمشاعر مزدوجة من المتعة السياحية والصفاء الروحي وعشق الطبيعة.

وختاما قد تتشعب بنا دروب السياحة الأدبية كثيرا وما سبق كان فقط لوحات إرشادية متنوعة تعطي إلماحة لتشعب دروب هذا الموضوع الشيق. ويبقى أن نقول إن (السائح الأدبي) في الدول الغربية والأوروبية لن يخشى الضيعة، فبحكم ان السياحة الأدبية والثقافية صناعة رائجة في تلك البلدان بعوائد مالية تجاوز خانة عشرات الملايين من الدولارات لذا فإن سوق هذه التجارة على درجة عالية من التنظيم وتنوع الخيارات. توجد حاليا العديد من (الخرائط السياحية الأدبية) للعديد من الدول والمدن الغربية التي توضح للسائح أماكن وطبيعة المعالم السياحية للروايات الأدبية المؤلفة في الجزر البريطانية على سبيل المثال، أو بإمكانك أن تحصل على خريطة سياحية أدبية لمدينة نيويورك توضح الأماكن السياحية المرتبطة بأشهر الكتاب والشعراء والرسامين الذين عاشوا في تلك المدينة الصاخبة. وأما من يرغب في معلومات تفصيلية عن الأدباء والاماكن السياحية المرتبطة بهم فيمكنه الاطلاع على كتب أدلة الارشاد السياحي الأدبي  literary guides والتي توجد منها تشكيله كبيرة لأغلب المدن والدول المشهورة بالنهضة الأدبية لدرجة أنه يتوفر للمهتمين بالأدب الإنجليزي بالذات قاموس خاص من قواميس أكسفورد يتعلق فقط بإعطاء معلومات عن الامكان السياحية الأدبية والثقافية في بريطانيا.

للأسف الشديد، مثل هذه الخدمة الارشادية السياحية مفقودة في بلادنا العربية وإن كانت مدينة القاهرة بالذات مرشحة بجدارة لكي يصدر عنها كتب إرشادية سياحية أدبية شيقة وحتى تصدر مثل هذه الكتب المتخصصة سوف أكتفي في مستقبل زيارتي لأرض المحروسة بأن أحمل مرة ثانية معي كتاب الأديب المصري جمال الغيطاني (ملامح القاهرة في ألف عام) كمرشد سياحي مقبول.

 

البريد الإلكتروني للكاتب :  ahalgamdy@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Anonymous
Anonymous
08/23/2017 10:08 صباحًا
عنوان التعليق
فكرة رائعة
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x