عرف التاريخ أحداثاً مِفصلية غيرتْ مجراه، كما شهِد أيضاً معارك طاحنة، وملاحم بطولية، وأفكاراً إبداعية، واختراعاتٍ مذهلة، وأُناساً عظاماً؛ بدَّلوا مسار العالَم، لكننا اليوم سنتحدث عن ميكروبات طُبعتْ في ذاكرة التاريخ؛ وصنعتْ لنفسِها مكاناً في صفحاته. عارضين تاريخاً موجزاً عنها، وسنعرض أهم ما يميزها من خصائص أهَّلتها لتتبوأ مكانتَها، وكيف تعامل الطب أو العلم معها؟
التيفوس Typhus ؛ عبارةٌ عن مجموعة من الأمراض ذات الشبه والصلة الوثيقة، والتي تتسبب في حدوثها أنواع مختلفة من بكتيريا الريكيتسيا (Rickettsia)، تنتقل إلى البشر عن طريق بعض المفصليات (حشرات) مثل: القمل (Lice)، البراغيث (Fleas)، العث (Mites)، والقراد (Ticks). قد تنتقل المفصليات المصابة من شخص إلى آخر مباشرة، أو يتم جلبها عن طريق نواقل كالقوارض، والماشية، وغيرها من الحيوانات. عندما تعض هذه الحشرات المصابة شخصا ما (للحصول على وجبة من دم الإنسان)، فإنها إما تحقن الضحية بسائلٍ مُعدٍ أو تترك برازها المليء بالبكتيريا التي تسبب التيفوس وراءها. وعند حك مكان العض يفتح الجلد ويسمح للبكتيريا لدخول مجرى الدم، فتنمو وتتكاثر.
هناك ثلاثة أنواع مختلفة من التيفوس، وهذا التصنيف معتمد على نوع البكتيريا المسببة بالإضافة لجنس الناقل (مفصليات الأرجل)
- التيفوس الوبائي أو التيفوس المنقول بالقمل (Epidemic (or louse-borne) typhus)
هذا النوع تتسبب في حدوثِه بكتيريا ريكيتسيا بروفاتسيكيا (Rickettsia prowazekii) التي يحملها قمل الجسم. يتواجد هذا النوع في جميع أنحاء العالم، ولكن عادة ما توجد في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية وسوء الصرف الصحي، حيث يشجع هذا النوع من الظروف انتشار القمل.
وعادة ما تظهر أعراض التيفوس الوبائي بشكل مفاجئ وتشمل: صداع حاد، ارتفاع درجة الحرارة، الطفح الجلدي الذي يبدأ على الظهر أو الصدر ثم ينتشر، التشوش والارتباك والهذيان، انخفاض ضغط الدم، حساسية العين للأضواء الساطعة، وألم شديد في العضلات.
- التيفوس المتوطن (Endemic typhus)
كان يعرف هذا النوع في السابق بتيفوس الفئران (Murine typhus). تسببه بكتيريا الريكتسيا التيفوئيدية (Rickettsia typhi)، وتحملها براغيث الفئران. يمكن العثور على التيفوس المتوطن في جميع أنحاء العالم. خاصة بين الناس القريبين من الفئران أو المناطق التي تعيش فيها الفئران.
أعراض التيفوس المتوطن تستمر لمدة 10 إلى 12 يوماً، وهي مشابهة جدا لأعراض التيفوس الوبائي ولكنها عادة ما تكون أقل حدة. وتشمل: سعال جاف، استفراغ وغثيان، وإسهال.
- التيفوس الأكالي (Scrub typhus)
هذا النوع سببه بكتيريا أورينتيا تسوتسوغاموشي (Orientia tsutsugamushi) ويحملها العث. هذا النوع من التيفوس أكثر شيوعا في آسيا، أستراليا، بابوا غينيا الجديدة، وجزر المحيط الهادئ. ويسمى أيضا مرض تسوتسوغاموشي.
الأعراض التي تظهر على الأشخاص المصابين بالتيفوس الأكالي تشمل: تورم العقد اللمفاوية، التعب، التهاب على الجلد في موقع لدغة، السعال، وطفح جلدي.
تشمل بعض مضاعفات التيفوس ما يلي:
- التهاب الكبد (Hepatitis)
- نزيف في الجهاز الهضمي (Gastrointestinal hemorrhage)
- الالتهاب الرئوي (Pneumonia)
- تلف الجهاز العصبي المركزي (Central nervous system damage)
- انخفاض في حجم الدم (Hypovolaemia)
نبذة تاريخية
تعود السجلات الأولى للتيفوس إلى عام 1489 خلال حصار الجيش الإسباني لغرناطة. حيث تم الإبلاغ عن الحمى، أعراض تشبه الطفح الجلدي تغطي الجسم، الهذيان، والقروح الغرغرينية. وفي الوقت الذي قُتل فيه 000 3جندي بسبب الحرب، لقى ما يقارب 000 17 شخص حتفهم بسبب المرض الذي عرف فيما بعد باسم التيفوس.
في عام 1759 وحسب تقدير السلطات، فان حوالي 25% من السجناء الإنجليز، قد ماتوا بسبب ذلك المرض؛ ومن هنا اكتسب اسم "حمى السجن". ويعتقد أن غرف السجون القذرة والمكتظة ساهمت في انتشار القمل بسهولة بين السجناء. وبعد عام، بدأ مصطلح "التيفوس" يستخدم لوصف هذا المرض، وهو مشتق من كلمة يونانية تعني "دخاني" أو "ضبابي" التي تعطي انطباعاً عن حالة الهذيان التي يختبرها المصاب بالمرض.
وانتشر التيفوس مرة أخرى في عام 1812 خلال انسحاب نابليون من موسكو. وقد لقي حوالي 100 ألف جندي فرنسي حتفهم بسبب هذه الحرب، بينما بلغ عدد الضحايا بسبب التيفوس ما يقرب من 300 ألف جندي فرنسي.
بحلول 1909 توصل الطبيب الفرنس تشارلز نيكول؛ إلى أن القمل يعتبر من أهم ناقلات المرض بين الأشخاص. وعلى الرغم من أنه لم ينجح في تطوير لقاح ضد هذا المرض، إلا أن اكتشافه هذا قد ساعد بشكل كبير خلال الحرب العالمية الأولى من الحد منه بالوقاية، حيث قامت الجبهة الغربية بإنشاء محطات للتخلص من القمل سواء كيميائياً أو فيزيائياً. ولسوء الحظ لم يكن لدى الجبهة الشرقية مثل تلك المحطات، مما أدى إلى انتشار المرض بشكل كبير. وكان للممرضين الذين عالجوا المرضى معدل وفيات مرتفع بسبب التيفوس.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، وصل التيفوس الوبائي إلى ذروته مع وفاة أكثر من 3 ملايين شخص في روسيا وحدها، معظمهم من المدنيين. أما بلدان أوروبا الشرقية الأخرى، مثل بولندا ورومانيا فقدت عدة ملايين من المواطنين أيضا، فقد سجلت صربيا وحدها أكثر من 000 150 حالة وفاة.
وفي الفترة بين الحربين العالميتين بدأ عالم الحيوان البولندي "رودولف ويغل" بإجراء تجارب على القمل للتوصل إلى لقاح ضد التيفوس. استخدم في بداية تجاربه خنازير غينيا (guinea pig)، وبحلول عام 1933 كان قادراً على إجراء اختباراته على البشر. ثم تَمَّ تطوير لقاحات أفضل وأقل خطورة وتكلفة خلال الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين، حدثت بعض الأوبئة في آسيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا.
ويعتبر التيفوس الآن متوطنا فقط في مناطق معينة من العالم، بما في ذلك شرق أفريقيا وبعض المناطق في أمريكا الجنوبية والوسطى. ولا تستخدم لقاحات لمنع التيفوس، ولكن الممارسات الصحية القياسية والمبيدات الحشرية الفعالة والمضادات الحيوية جعلت من مكافحة المرض والحشرات التي تعمل على نقله أمراً سهلاً.
قد يكون تشخيص التيفوس صعباً في بعض الأحيان وذلك لتشابه أعراضه مع أعراض بعض الأمراض الأخرى بما في ذلك: حمى الضنك ((Dengue Fever,الملاريا (Malaria) , و داء البروسيلات (Brucellosis) .
وتشمل الاختبارات التشخيصية لوجود التيفوس ما يلي:
- خزعة الجلد (Skin biopsy): بحيث تؤخذ عينة الجلد من مكان الطفح ليتم فحصها في المختبر والتعرف على البكتيريا المسببة.
- فحص الويسترن بلوت (Western blot): للكشف عن البكتيريا المسببة للتيفوس.
- الاختبار المناعي باستخدام الأصباغ الفلورية (Immunofluorescence test): وذلك للكشف عن التيفوس في عينات البلغم.
- صباغة الأنسجة المناعية (Immunohistological staining): يمكن لهذه الطريقة الكشف عن البكتيريا داخل الأنسجة المصابة والتي عادة ما تكون أنسجة الجلد.
- اختبار الدم (Blood test): والذي يمكن أن تشير نتائجه إلى وجود العدوى.
علاج التيفوس
العلاج المبكر بالمضادات الحيوية فعالٌ جدا، والانتكاسات ليست شائعة عندما يلتزم المريض بجرعة العلاج. من المضادات التي تستخدم لعلاج التيفوس: دوكسيسيكلين (Doxycycline) وهو الخيار الأمثل للعلاج، وسيبروفلوكساسين (Ciprofloxacin) ويوصف للأشخاص غير القادرين على تناول الدوكسيسيلين.
خلاصة
يمكن الوقاية من التيفوس؛ عن طريق الحفاظ على النظافة الشخصية والنظافة العامة، وتجنب السفر إلى المناطق التي وقع فيها هذا المرض، أو إلى البلدان المعرضة لمخاطر عالية بسبب نقص المرافق الصحية، تجنب الاتصال بنواقل التيفوس كالقمل والبراغيث والقراد، وكذلك تجنب فضلات القوارض. وفي حال تم العثور على العدوى، يمكن إتباع تدابير خاصة للتخلص من النواقل، مثل: الاستحمام، غلي الملابس، واستخدام المبيدات الحشرية.
البريد الإلكتروني للكاتب : elmanama_144@yahoo.com