عرف التاريخ أحداثاً مفصلية غيرت مجراه، كما شهد أيضاً معارك طاحنة، وملاحم بطولية، وأفكاراً إبداعية، واختراعاتٍ مذهلة، وأناساً عظاماً بدلوا مسار العالم، لكننا اليوم سنتحدث عن ميكروبات طبعت في ذاكرة التاريخ وصنعت لنفسها مكاناً في صفحات كتب التاريخ والطب على حد سواء، كما كانت سبباً في تحويل النصر إلى هزيمة، والغنى والرفاهية إلى فقر وعنت، والإنتاج والازدهار إلى عجز واندثار.
في هذه السلسلة من المقالات سنتناول أهمَّ هذه الميكروبات، عارضين تاريخاً موجزاً عنها، وسنعرض أهم ما يميزها من خصائص أهَّلتها لتتبوأ مكانتها، وكيف تعامل الطب أو العلم معها؟
ضمّة الكوليرا Vibrio cholerae
سميت بكتيريا "ضمة الكوليرا" بهذا الاسم؛ نظراً لشكلها تحت المجهر الذي يشبه الضمة في اللغة العربية، وتسبب هذه البكتيريا مرض الكوليرا الشهير، والذي ينتشر بشكل وباءٍ يصيب العديد ويقتل نسبة كبيرة من المصابين خصوصاً من فئة الأطفال.
إن الكوليرا مرضٌ مُعدٍ من أعراضه الإسهال، وتحدث الإصابة به جراء ابتلاعِ غذاءٍ أو ماءٍ ملوثٍ ببكتريا الكوليرا"Vibrio cholera" ، ويُقدر عدد حالات الكوليرا بما يتراوح بين الثلاث ملايين والخمس ملايين حالة، وعدد الوفيات الناجمة عنها بما يتراوح بين مائة ألف ومائة وعشرين ألف حالةِ وفاةٍ في كل سنة، كما أن قصر فترة حضانة الكوليرا، والتي تتراوح بين ساعتين وخمسة أيام يعزز إمكانية الانتشار السريع للمرض، وهناك ترجيح وشبه توافق على أنَّ جذور الكوليرا استوطنت شبه القارة الهندية، ثم انتقل منها المرض إلى باقي أنحاء العالم.
إنّ المرض ما زال يهدد الدول الفقيرة، ويشكل خطورة عليها؛ حيث إنها لا تمتلك المقدرة على توفير مياه شرب آمنة، وعلى النقيض لا يمثل المرض تهديداً حقيقياً في الدول الصناعية؛ نظراً للمعالجة الجيدة للمياه، وسنعرض في السطور الآتية تاريخ هذا الوباء من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
أولاً: وباء الكوليرا الأول.
بدأ في ولاية البنغال عام 1816م، ومن ثمَّ انتشر في جميع أنحاء الهند بحلول عام 1820م، وقد مات حوالي عشرة آلاف فرد من القوات البريطانية، وعدد كبير جداً من الهنود خلال هذا الوباء، ووصل إلى الصين، واندونيسيا، وبحر قزوين، وقدرت حالات الوفاة في الهند بين عام 1817م و1860م بأكثر من (15) مليون شخص، ولقي (23) مليون نسمة حتفهم بين عام 1865م وعام 1917م.
ثانياً: وباء الكوليرا الثاني.
عاد من جديد عام 1829م، حيث وصل إلى روسيا، والمجر، وألمانيا في عام 1831م، ووصل إلى لندن، وباريس في عام 1832م، كما وصل الوباء إلى كيبيك، أونتاريو، ونيويورك في السنة نفسها، وساحل المحيط الهادئ في أمريكا الشمالية بحلول عام 1834، و تسبب وباء الكوليرا في عام 1831 بمقتل (150) ألف شخصٍ في مصر، وفي عام 1846م، وانتشرت الكوليرا في مكة المكرمة؛ مما أسفر عن وفاة أكثر من (15) ألف شخص، كما تفشي لمدة عامين في إنجلترا وويلز في عام 1848م، حيث أودى بحياة (52) ألف شخصٍ.
عانت لندن في العام 1849م من أسوأ تفشي في تاريخها، حيث حصد المرض (14,137) نفساً؛ أي أكثر من ضعف العدد الذي لقى حتفه في 1832م، كما انتشرت الكوليرا في أيرلندا في عام 1849م، حيث قتل العديد من الناجين من المجاعة الأيرلندية الذين ضعفوا بالفعل من الجوع والحمى.
إنَّ الكوليرا هي أحد الأوبئة الرئيسة والذي أثر بشكلٍ رئيس على روسيا، حيث أودى بحياة ما يزيد عن مليون حالة وفاة، وقد انتشر وباء الكوليرا شرقاً في عام 1852م في أندونيسيا، ولاحقًا الصين واليابان في عام 1854م، وقد انتشرت العدوى في الفلبين في عام 1858م وفي كوريا الجنوبية في عام 1859م، و تفشى المرض مرة أخرى في عام 1859م في ولاية البنغال؛ مما أدى إلى انتقال المرض إلى إيران، والعراق، والسعودية ، وروسيا.
وتفشي المرض في أمريكا الشمالية عام 1866م، وقتل حوالي (50) ألف شخصٍ، وفي لندن حصد وباء محلي (5596) نفساً في الوقت الذي كانت لندن على وشك الانتهاء من مياه الصرف الصحي الرئيسة، وأنظمة معالجة المياه، ولكنًّها لم تكن قد اكتملت تمامًا.
وبدأ وباء الكوليرا في أندونيسيا بين عامي 1961 و 1970، وقد سمي الطور Eltor)) على اسم السلالة، ووصل إلى بنغلاديش في عام 1963م، والهند في عام 1964م، والاتحاد السوفياتي في عام 1966. وانتقل من شمال أفريقيا؛ لينتشر في إيطاليا بحلول عام 1973م، و كانت هناك في أواخر السبعينيات كانت هناك انتشارات ضئيلة للمرض في اليابان ومنطقة جنوب المحيط الهادئ، كما كانت هناك أيضًا تقارير عديدة عن تفشي وباء الكوليرا قرب باكو في عام 1972م، ولكن تم إخفاء المعلومات حول هذا الموضوع في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية.
وتفشى المرض في أمريكا الجنوبية بين عامي 1991 و 1994 على ما يبدو عندما بدأت سفينة تفريغها مياه الثقل وبدأت في بيرو، حيث كان هناك (1.04) مليون حالة مصابة وحوالي (10) آلاف حالة وفاة، وكان العامل المسبب هو ( (O1سلالة الطور، مع وجود فوارق صغيرة عن سلالة الوباء السابع، و ظهرت في عام 1992م سلالة جديدة في آسيا سميت بــــ (O139) بنغال. حيث تم اكتشافها في (تاميل نادو) بالهند، وقد حلّت محل سلالة الطور لفترة من الوقت في جنوب شرق آسيا قبل أن تنخفض معدلات الانتشار في عام 1995م إلى حوالي (10٪) من جميع الحالات. وهي تعتبر وسطية بين سلالة الطور والسلالة القديمة.
الوضع الحالي
ثبت بدون أدنى شك أن هناك صلة وثيقة بين انتشار الكوليرا، وبين فشل نظام الصحة العامة خصوصًا في الدول الفقيرة، ومخيمات اللاجئين، حيث لا تتوفر المياه النقية أو إمكانية تصريف المياه العادمة والنفايات، ويعد انتشار مرض الكوليرا مؤشرا على انعدام التنمية الاجتماعية، و ما يزال عدد حالات الكوليرا التي أُبلغت بها منظمة الصحة العالمية يتزايد، حيث تم الإخطار بما يزيد عن نصف مليون حالة في أكثر من (50) بلداً في عام (2011م) فقط ، وتُشير التقديرات إلى أنَّ التقدير الحقيقي للمرض يتراوح بين (ثلاث إلى خمس) ملايين حالة ، وبين (100) ألف إلى (120) ألف حالة وفاة سنوياً، وما زالت هذه البكتيريا، وحتى يومنا هذا تسبب بعض الأوبئة المتفرقة، وسنذكر هنا بعض المناطق التي تفشَّى فيها مرض الكوليرا، ومنها:
- تمَّ في عام (2000م) تسجيل حوالي (140) ألف حالة كوليرا بحسب منظمة الصحة العالمية، ومثلت أفريقيا 87 ٪ من هذه الحالات.
- أبلغ العراق الأمم المتحدة في عام (2007م) عن اثنتين وعشرين حالة وفاة، و(4569) حالة مؤكدة مختبريًا.
- تمَّ في عام (2007م) في ولاية أوريسا ، والهند ، نقل أكثر من ألفي شخصٍ إلى المستشفيات.
- تمَّ في عام (2008م) تأكيد ما يقدر مجموعه بنحو (644) حالة مؤكدة مختبريا للكوليرا، بما في ذلك موت ثمانية أشخاص في العراق.
- أثبتت الفحوص في فيتنام عام (2008م) أن (377) مريضاً تمت إصابتهم بالكوليرا.
- يتم سنويا تفشي الكوليرا في عدة دول ولعل نيروبي، والدول الافريقية المجاورة ما زالت تعاني حتى اليوم من آثار انتشار الكوليرا الذي بدأ في ديسمبر عام 2014م، وما زالت الكوليرا تصيب المئات من الأطفال في بعض المناطق في العراق.
خصائص البكتيريا
تعد بكتيريا ضمة الكوليرا (Vibrio cholera) من نوع سالبة الجرام، عصوية، شكلها ملتو كالضمة أو الواو، وتتميز بمقدرتها العالية على تحمل الظروف القلوية، وتستخدم هذه الخاصية في عزلها مخبريًا من عينات المرضى وعينات الماء وغيرها، كما يمكن التعرف على البكتيريا، وتمييزها بسهولة من خلال الطرق التقليدية، وتعد من الميكروبات التي يمكن السيطرة عليها بسهولة إذا توفرت مصادر مياه الشرب الآمنة (بغلي الماء أو إضافة الكلور له).
كما تستجيب هذه البكتيريا لعدة مضادات حيوية أشهرها مجموعة التتراسيكلينات، لكن هناك مؤشرات ودلائل على ظهور سلالات مقاومة واسعة الطيف لعقاقير مثل: (تريميثوبريم، سلفاميثوكسازول، والستربتومايسين) الأمر الذي ينذر بصعوبة علاجها مستقبلياً.
البريد الإلكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com