مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

NULL

ميكروبات صنعت لها مكانا في التاريخ – الإنفلونزا

الكاتب

الكاتب : أ. د. عبدالرؤوف علي المناعمة

الجامعة الإسلامية – غزة / فلسطين

الوقت

04:56 صباحًا

تاريخ النشر

25, يوليو 2017

عرف التاريخ أحداثاً مِفصليةً غيَّرتْ مَجراه، كما شهِدَ أيضاً معاركَ طاحنة، وملاحمَ بطولية، وأفكاراً إبداعية، واختراعاتٍ مذهلة، وأُناساً عُظماءً؛ بدَّلوا مسارَ العالَم، لكننا اليوم سنتحدثُ عن ميكروبات طُبعتْ في ذاكرة التاريخ؛ وصنعتْ لنفسِها مكاناً في صفحاتِه. عارضينَ تاريخاً موجزاً عنها، وسنعرض أهم ما يُميزها من خصائصَ أهَّلتها لتتبوَّأَ مكانتَها، وكيف تعامل الطب أو العِلم معها.

"الإنفلونزا" مرضٌ شديد العدوى يُسببُه فيروسٌ يُعرَف باسم (الإنفلونزا)، يصيب الجهاز التنفسي؛ وينتقل بين الأشخاص عن طريق رذاذِ السُّعال والعُطاس. ويمكن أن ينتشر أيضاً عن طريق لمسِ الأسطح الملوثة بالفيروس و لمسِ الفم أو العينيْن.

تتفاوت الأعراض المصاحبة للإنفلونزا؛ وتشمَل ارتفاع في درجة الحرارة، سيلان الأنف، التهاب الحَلق، آلام في العضلات، الصداع، السعال، والشعور بالتعب. تحدث فاشيات/أوبئة الإنفلونزا كل عام؛ وتتفاوت في شدتها، وهذا يعتمد على نوع الفيروس المسبب للعدوى، وعلى مدى مناعة المصاب. وتُصنف فيروسات الإنفلونزا إلى ثلاث فئات واسعة، تسمى النوع A، النوع B، والنوع C، وتمتاز فيروسات الإنفلونزا بقدرتها الهائلة على التَطَفُّر (تغيير في تركيب المادة الوراثية)، وبذلك يصعب على جهاز المناعة الوقاية من السلالات/الطفرات الجديدة.

تحدث جائحات الإنفلونزا (influenza pandemics) (الجائحة وباء عالمي ينتشر في أكثر من دولة وفي أكثر من قارة) كجائحة إنفلونزا 1918 أو ما عرف تاريخياً بالإنفلونزا الإسبانية، عندما تظهر سلالات جديدة وشديدة الضراوة للإنفلونزا ولا يوجد تحصين ضدها، وتبدأ بالانتشار بين الأشخاص في جميع أنحاء العالم. حدثت الموجة الأولى من جائحة 1918 في الربيع وكانت خفيفة. حيث تعافي المرضى الذين عانوا من أعراض الإنفلونزا العامة مثل القشعريرة والحمى والتعب، بعد عدة أيام، وكان عدد الوفيات المبلغ عنه منخفضا. ثم ظهرت موجة ثانية في خريف نفس العام، وامتازت بكونها شديدة العدوى، حيث مات الضحايا خلال ساعات أو أيامٍ من ظهور أعراض الإصابة عليهم. وقد تحول جلدهم للون الأزرق، وامتلأت رئاتهم بالسوائل مما أدى لاختناقهم. وكان تأثير جائحة الإنفلونزا شديداً جداً، بحيث انخفض متوسط العمر الافتراضي في الولايات المتحدة بمقدار 10 سنوات.

أصول هذا النوع من الانفلونزا غير معروفة على وجه التحديد، ولكن يُعتقد أنها نشأت في الصين بعد حدثَ تحول جيني نادر لفيروس الإنفلونزا، مسببا تغيرا في تركيب بروتينات سطحه، ونشوء فيروس جديد غير مألوف. لوحظت جائحة إنفلونزا 1918م  لأول مرة في أوروبا وأمريكا ومناطق آسيا قبل أن تبدأ بالانتشار تقريباً في كل بقاع المعمورة، وذلك في غضون أشهر قليلة. وعلى الرغم من أن إنفلونزا 1918 لم تكن معزولة من مكان واحد، إلاّ انها أصبحتْ تعرف في جميع أنحاء العالم باسم الانفلونزا الإسبانية، حيث كانت إسبانيا من أولى البلدان التي ضربها المرض بشدة، حتى مَلِكُ إسبانيا، ألفونسو الثالث عشر أصابه المرض.

وعلى الرغم من أن عدد القتلى المنسوب إلى الإنفلونزا الإسبانية غالباً ما يقدر بنحو 20 مليون إلى 50 مليون ضحية في جميع أنحاء العالم، إلاّ أن بعض التقديرات الأخرى تصل إلى 100 مليون ضحية. من المستحيل أن تعرف الأرقام الدقيقة للوفيات وذلك بسبب عدم حفظ السجلات الطبية في العديد من الأماكن. عندما ضربت جائحة انفلونزا 1918 العالم، لم يكن الأطباء والعلماء متأكدين من سبب حدوثها أو كيفية التعامل معها. على عكس ما هو عليه الحال اليوم، فلم يكن هناك لقاحات فعالة أو عقاقير مضادة للفيروسات لتعالج الإنفلونزا. وقد أثرتْ الجائحة على الجميع. فمع إصابة ربع الولايات المتحدة وخُمس العالم، كان من المستحيل الهروب من الإنفلونزا. فحتى الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون أصيب بالإنفلونزا في أوائل 1919 أثناء التفاوض على معاهدة حاسمة لإنهاء الحرب العالمية.

لقد تسببتْ جائحة إنفلونزا 1918 في خسائر بشرية جسيمة، حيث محت عائلات بأكملها، وتركت أعداداً لا حصر لها من الأرامل والأيتام في أعقابها. وتراكمت الجثث. كما أضرت جائحة انفلونزا 1918 بالاقتصاد. ففي الولايات المتحدة، اضطرت الشركات لإغلاق أبوابها بسبب مرض موظفيها. وتعطلت الخدمات الأساسية مثل تسليم البريد وجمع القمامة بسبب العمال المنكوبين. وفي بعض الأماكن لم يكن هناك ما يكفي من العمال الزراعيين لجني المحاصيل. كما وتوقفت إدارات الصحة المحلية عن العمل، مما أعاق الجهود الرامية إلى منع انتشار المرض.

انتهت الجائحة في صيف 1919، حيث كان مصير الأشخاص المصابين إما الموت أو تطوير مناعة ضد المرض. وبعد ما يقرب من 90 عاما، أعلن الباحثون في عام 2008 عن اكتشافهم للسبب الذي جعل انفلونزا 1918 مميتة جدا، حيث تبين أن مجموعة من ثلاثة جينات مكنتْ الفيروس من إضعاف أنابيب الشُّعَب الهوائية ورئات الضحايا، وبالتالي مهدتِ السُّبُل للالتهابات الرئوية البكتيرية.

منذ ذلك الوقت، حدثتْ عدة جائحات أخرى من الإنفلونزا، فقد تسببت جائحة إنفلونزا امتدت من عام 1957 إلى عام 1958 في مصرع حوالي 2 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، من بينهم حوالي 70 ألف شخص في الولايات المتحدة، وجائحة أخرى امتدت من عام 1968 إلى عام 1969 اسفرت عن مصرع حوالي مليون شخص من بينهم حوالي 34 ألف أمريكي. وقد لقيَ أكثرُ من 12 ألف أميركي حتفهم خلال جائحة H1N1 أو "انفلونزا الخنازير" التي حدثت في الفترة من 2009 إلى 2010.  وما تزال إنفلونزا الطيور تسجل حالات مرضية في دول مختلفة بنسب منخفضة جدا ذلك لأنه لا ينتقل من إنسان إلى إنسان، لكن نسب الوفيات لها تصل إلى أكثر من 60% والخطر الكبير الذي يتوقعه العلماء والمراقبين هو ظهور سلالة تمتلك صفات مشتركة من كل من إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور، وبذلك تخرج سلالة ذات قدرة على الانتشار السريع كسلالة انفلونزا الخنازير، وذات قدرة قتل عالية كإنفلونزا الطيور.

وقد قام باحثون من جامعة نيو ساوث ويلز بوضع خريطة لظهور سلالات جديدة من الأنفلونزا تُظهر 19 سلالة منفصلة تَمَّ اكتشافُها في القرن الماضي، مع ظهور سبع سلالات فقط في السنوات الخمس الماضية. ويعتقد أحد المشاركين في الدراسة؛ أن تغير المناخ والتمدن يمكن أن يكونا عاملين مساهمين في ظهور السلالات الجديدة. وأوضحت الدراسة أن هناك زيادة في ظهور سلالات الأنفلونزا التي تنتقل من الطيور إلى البشر خلال العقد الماضي، مع إلقاء اللوم على النمو السريع لتجارة الدواجن (Poultry industry) حيث الأعداد الكبيرة، وفرص الانتشار السريع للأمراض. وهناك نظرية تقترح بأن سبب نشوء سلالات ذات قدرة إمراضية عالية؛ قد يعود إلى أساليب تربية الحيوانات في بعض البلدان مثل الصين وبعض الدول الأسيوية، حيت تشتمل حظائر التربية على خليط من الحيوانات والطيور المختلفة الأمر الذي يسهل عملية تبادل الجينات بين السلالات التي تصيب عوائل مشتركة.

وأظهرتْ دراسة أن البلدان ذات الدخل المنخفض والتي تشهد تسويقاً سريعاً لقطاع تربية الدواجن، كانت الأكثر عرضة لإيواء سلالات سريعة الانتشار، ولم يكن باستطاعتها الكشف عن وجود تلك السلالات أو التحكم في انتشارها.

منظمة الصحة العالمية (WHO) توصي بضرورة اتباع تدابير التأهب للجوائح في جميع أنحاء العالم، مع التركيز على ظهور الأمراض الحيوانية المشتركة (Zoonotic disease).  الجدير بالذكر أن 60% من الأمراض المعدية، هي أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان.
 

البريد الإلكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x